أرشيف المقالات

من لغو الصيف

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 4 - من لغو الصيف هؤلاء الأرستقراط.
! للأستاذ سيد قطب قلت: اذهب إلى (بلاج سيدي بشر رقم 2، ورقم 3) أرى هؤلاء (الاستقراط) الذين خصتهم الدولة بشواطئ خاصة، لا تطؤها أقدام الشعب إلا لقاء جعل معلوم! وأديت هذا الجعل، وحملت في يدي (تذكرة الدخول) بارزة، فأنا رجل من الشعب.
وما آمن أن يعترضني شرطي أو حارس، وأنا أسير في الأرض المحرمة، التي لا يجوز أن تطأها أقدام الشعب إلا بترخيص! وسرت بحذر واحتراس، أتوجس خيفة من كلُّ خطوة - على الرغم أني أحمل الترخيص بالمرور - فأنا هنا في وسط (الأرستقراط) وأنا رجل من الشعب.
وتعليمات الدولة المسطرة على المداخل توقع الرعب في القلوب: (ممنوع دخول هذا البلاج لغير أصحاب الكابينات إلا.

الخ)، وذكرني هذا بتعليمات أخرى في بعض الحدائق والأماكن: (ممنوع دخول الكلاب إلا.

الخ). ورأيت الدولة قد اختارت أجمل مناظر الشاطئ على الإطلاق لتخص بها هؤلاء السادة المحظوظين.
فبلاجا سيدي بشر رقم 2 ورقم 3 يلخصان جميع مناظر (الكورنيش).
مناظر الشواطئ الصخرية، والشواطئ الرملية، والشواطئ الصناعية، والموج الصاخب، والموج الهادئ، والموج العميق. وهل أقل من أن تجمع الدولة لهؤلاء السادة أجمل المناظر وأبهجها ملخصة في الشاطئ المحرم، الذي لا يجوز أن تطأه أقدام الشعب إلا بترخيص؟! وسرت ترمقني أنظار السادة كما ترمق العبيد.

من هذا الدخيل الواغل؟ إنه رجل من الشعب.
يا لهذا الشعب الطفبلي الذي لا يني يعكر صفو السادة بهذا التطفل الغريب.

ولكني أحمل الترخيص!!! وانتبهت بعد هنيهة، واستعدت رباطة جأشي، وتقويت بهذا الترخيص الذي تحمله يدي، فدسسته في جيب قميصي، وحرصت - مع هذا - على إبقائه ظاهراً؟! لا بد أن يكون هؤلاء السادة يستحقون هذا التدليل لا بد أنهم يترفعون بمستواهم وأخلاقه عن العامة.
لا بد أنهم (أستقراط) في نفوسهم، قبل أن يكونوا أرستقراطاً بجيوبهم، وإلا فهل تقدم الدولة على عزلهم هكذا عن الشعب - في نفس الوقت الذي تحارب فيه انعزال الطبقات - إلا لسبب معلوم! ولكنني لا ألمح هنا امتيازاً خلقياً ولا نفسياً.
إنهم - والشهادة لله - أوقح وأجرأ وأشد تبذلاً من عامة الشعب في (بلاجات الشعب، التي يمرح فيها بلا جعل ولا ترخيص! شيء واحد يفرق هؤلاء السادة عن الشعب.

أنهم لا يتكلمون لغة هذا الشعب.
اللغة العربية أو المصرية هنا غريبة.

ولقد سمعت الفرنسية والتركية والرومية.

ولكني لم أسمع العربية والمصرية إلا من الخدم وحراس الشاطئ.

والمصريون هنا غرباء.
عرفت منهم علي ماهر، ومكرم عبيد، وإبراهيم عبد الهادي، وعبد المنصف محمود.

وحفنة قليلة ممن تحمل وجوههم الطابع المصري.

أما الأغلبية فمن ذوى الوجوه الحمر أو الوجوه البيض.
مستعمرون!!! وليس الإنجليز وحدهم هم المستعمرين!!! هؤلاء هم قادوا الشعب إلى الهاوية.

انحلت أخلاقهم، لأنهم لا رصيد لهم من خلق ولا دين.
ولا رصيد لهم كذلك من عراقة ولا تقاليد. وكلمة (أرستقراط) التي تطلق عليهم لا تحمل من معناها العالمي شيئاً.
ليس في مصر طبقة أستقراط كطبقة اللوردات المحافظين في إنجلترا مثلاً.

فأعرق أسرة من هؤلاء لا يزيد تاريخها في الغنى على مائة عام.
جاء محمد على الكبير والشعب المصري فقير.
والأثرياء هم المماليك ومن يلوذون بالمماليك.

وجعل محمد على زمام الأطيان كلها في يده، فلم يبق ثري لا في الشعب ولا في المماليك.

ثم أخذت الثروات تتسرب إلى أيدي طبقات خاصة على مدى السنين في هذا الحيز القصير. وفاز بنصيب الأسد على توالي الأجيال: أبناء الجواري، والمعاتيق، والذين خدموا الاحتلال - والذين عرفوا كيف يدورون مع الريح.
والقلة القليلة في العصور المتأخرة هي التي كسبت ثروتها بالجهد وعرق الجبين. تلك هي قصة الثراء في مصر مختصرة.
كلهم محدثو نعمة، لم تتأصل فيهم تقاليد (الأرستقراط) المعروفة في بلاد العالم.
ومن هنا لم يكن لهم رصيد من العراقة.

ووجدوا في أيدهم النقود. هؤلاء هم الذين يقودون الشعب اجتماعياً - مع الأسف الشديد.

هؤلاء هم الذين انحلوا فانحل معهم الشعب.
ومن هنا جاءت كارثة الجيل.
تفاهة.
هذه الكلمة المفردة تلخص طابع الجيل.
لا يعيب الفتاة العصرية شئ كما يعيبها الجهل بماركات السيارات وأسماء الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات وعناوين الأفلام والروايات، وشيء آخر أهم: ألعاب القمار، الكونكان والبوكر والباكاراه.

لا يعيبها أن تجهل الجمال في الطبيعة، والجمال في الفن، والخبرة بالأسرة والعالم.
والفتىكالفتاة.

أحاديثه أحادثيها.
وطراوته طراوتها.
وهي أنثى وهو يتأنث.
لأن (أولاد الذوات) هكذا أطرياء لُدْنً مخانيث! لقد شهدتهم هنا وفي كلُّ مكان.
الحركة الطرية، والملابس الطرية، والإيماءة الطرية.
إنهم لا يكادون يتماسكون.
ونفوسهم من الداخل كأجسامهم لا تماسك فيها ولا قوام لها كالهلاميات التي لم تتماسك بعد في عالم التكوين.
وهؤلاء هم الذين يقلدهم الشعب المسكين!! وجيل تافه.
ليس هناك عالم نفسي يعيش فيه بعض الوقت.
فلا شئ إلا هذه الظواهر، ولا شئ في هذا العالم الظاهر إلا أتفه ما فيه.
(شيكوكو) المنولوجست معبود الجمهور و (أنور وجدي) ممثله المرموق.

ومن في مستواهما من المطربين والمطربات.

هذا وحده يكفي لليأس من ذوق هذا الجيل، ومن نفيسته وشخصيته لا إذن تحسن السماع، ولا ذوق بفطن للفنون.

(كله عندهم صابون) والمهم أن يكون أكثر ميوعة، وأشد رقاعة وكل جديد هو خير من القديم! حضر (أنور وجدي) و (ليلى مراد) إلى (البلاج) فتزاحمت عليهما الجماهير، حتى ضاقت أنفاسها بالجماهير.
ويبلغني إن (عبد الوهاب) يضيق بالحفلات الخاصة بالبنات اللواتي يترامين عليه في مجون رقيع.

ذباب.

ذباب وصراصير!.
وجيل حائر.
شهدت شابا وشابة زوجين، يخرجان من البحر بلباس البحر ويجلسان على الكازينو كذلك يتناولان الشاي والمرطبات ويدور الحديث بينهما وبين معارف لهما.
فتذكر الشابة إن زوجها لا يلبس خاتم الزواج لأنه من الذهب، والتختم بالذهب حرام في الدين! أي والله، هكذا.

حرام! حرام أن يتخم بالذهب أما العرى القذر هكذا على الكازينو، فذلك متاع بالبحر لا شئ فيه. ذلك مظهر من مظاهر التفكك النفسي، كالجهاز المفك، كلُّ جزء فيه يشتغل على هواه، بلا ضابط، ولا اتصال. وعرفت سيدة تصلي وتصوم.

ثم.

تخرج من البحر بالمايوه، وتجلس على الرمال بالمايوه حيث تتدسس النظريات المريضة إلى كلُّ موضع في هذا الجسد المكشوف.
فأما حين تقف للصلاة فتفيض عليها من الجلباب والخمار.

إنها تتحجب هنا فقط، تتحجب على الله!!! وذكرني هذا بتلك المرأة التي عادت من الحج، لتحي حفلة راقصة تدور فيها الكؤوس ويكون بعدها ما يكون، احتفالاً بهذا الحج المبرور.
إنها من أولئك (الأرستقراط) اللواتي يقلدهن الجبل! والمجلات الداعرة.

إنها تنشر صور هؤلاء الأرستقراط في مباذلهم، وتقول عن نسائهم المبذلات إنهن شرفن مصر! وتقلدهن بنات الشعب المسكين. وهنا في (بلاج الشعب) في سيدي بشر رقم 1 شاهدت مصوراً لإحدى هذه المجلات الداعرة، يلتقط صورة لفتاة من بنات الشعب (بالمايوه).
وكلفهاأن تضطجع ضجعة خاصة فأطاعت.
ويبدو أن شيئاً من حياء الأنوثة، وأحياء الإنسانية كان لا يزال يراودها فضمت فخذيها.

ولم يعجبه المنظر فقرب منها وقرب، ولمس بيده ركبتيها لتفتح ما ضمت.
فلما ترددت قليلا.

قال: (الله! إنت فلاحة وإلا إيه)؟ وانحلت العقدة: فمن هي التي تريد أن تكون فلاحة؛ وهل تستحي إلا الفلاحة؟ والفلاحون ليسوا (أرستقراط) بشهادة الجميع!!! و (تانت) و (أنكل) و (دادى).
ميوعة أولاد الذوات ورقاعتهم المهينة، المهينة لأنها لا تعتز بقومية ولا لغة، المهينة لأنها تحتقر نفسها حين تلجأ إلى اصطلاحات الآخرين.

هذه الميوعة مع الأسف أخذت طريقها إلى الشعب. والمسألة أعمق من أنها مجرد ألفاظ.
المسألة هي الشعور بالنفس أو عدم الشعور.
المسألة أن لي كرامة في نفسي ولغتي وبلدي أم ليست لي هذه الكرامة.
وأولاد الذوات لا كرامة لهم لأنهم لا نفوس لهم ولا وطن ولا عراقة.

فما بال الشعب ينزلق إلى التميع المهين؟ يا بحر.
إنك لتغضب.
وإنك لتزمجر.
وإنك لتجرف في ساعات غضبك وزمجرتك كلُّ خبث في جوفك، فتقذف به إلى الشاطئ.

اعكس مرة أيها البحر، فاجرف إلى جوفك قذر الشاطئ بكل ما فيه! سيد قطب

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير