أرشيف المقالات

من ذكريات العراق

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
8 تأمل ساعة بقلم أحمد حسن الزيات في الشرفة الوسيعة في فندق (كارلتون) جلست أطالع في صفحة دجلة ما خطته يد القرون.
وكانت شمس الأصيل تنفض تبرها على أمواج النهر وسطوح الكرخ وحواشي الأفق، والطبيعة الأنيفة تنعم بالصفاء والبهاء والدفء، بعد ما أجهدها رعد الأمس وبرقه، وأغصها وابل الغمام وودقه، فالسماء مصرية الأديم، والجو عبهري النسيم، والأفق الغربي مزدان بقزعات من السحاب الأبيض الرقيق، والماء قد استحال لجينه نضاراً من طول ما حمل إليه السيل من كنوز الجبل. أخذت أصوب النظر وأصعده في النهر والجسر والشاطئ.
فأرى أنماطاً من الناس، وأخلاطاً من الأجناس، وصوراً من الأشياء، تنكرها العين ويعرفها القلب، لأنها شرقية، ولأنها عربية، ولأنها مظلومة!.

. ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه: ذكرني تقابل الرصافة والكرخ على دجلة، تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، والمنصورة وطلخا على النيل الأسفل!. وفي هذه الأماكن الحبيبة مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني.
فوضعت جبهتي المضطرمة على سياج الشرفة البارد، وعدت بالذاكرة وشيكاً إلى بغداد، ثم انطويت على نفسي، وأخذت أتفكر وأتذكر وأعمه في غيابة الماضي، حتى انقطع ما بيني وبين الحاضر، وانمحى من حوالي العالم بأسره وحينئذ انبعث من جانب الكرخ صوت شاد يرجع بالنغم العربي الشجي، فخيل إلي أنني أرى دجلة (الأمين).
وجسر (ابن الجهم)، وكرخ المجان والخلعاء من أهل بغداد المترفة؛ ووقع في سمعي أن هذا الشادي يقول: سقى الله الكرخ من مُتَنزَّهٍ ...
إلى قصر وضاح فِبرْكَةِ زلزل مساحب أذيال القيان ومسرح ال ...
حسان ومثوى كل خرق معذل وصور لي أنني أسمع غناء الملاحين في الزلازل، وأبصر (الدلفين) و (العقاب) يمخ العباب بالأمين وحسانه وقيانه ونداماه!.

وتراءت لي على الشاطئ الشرقي قصور البرامكة الحزينة، يقابلها على الشاطئ الغربي قصور الخلفاء والأمراء تعج بالجواري والغلمان، وتضج بالشعراء والندمان، وتموج بالسادة والقادة والجند، وتفيض بالنعيم والجلال والعظمة، وتمثلت في خاطري بغداد الأمس كباريس اليوم في عدد سكانها، وفخامة بنيانها، واتساع رقعتها، وازدهار مدنيتها، وانبعاث الحضارة من مجامعها ومنابرها، وانبثاق الهداية من جوامعها ومنائرها.
إلا أن باريس تشع في أجواء مشرقة تسطع فيها شموس أخرى تضارعها وتصارعها، أما بغداد التي عنت لها وجوه القياصرة، وكان من جندها أبناء الدهاقين والأكاسرة، فكانت شمساً واحدة ترسل الضوء والحرارة والحياة في القارات الثلاث فتبدد ما غشيها من ظلام وخمود ونوم لا أدري متى كنت أصحو من نشوة هذه الذكريات الحلوة المرة، لو لم يعدني إلى وجودي صوت منكر من أصوات الحضارة الحديثة، قد انطلق من جوف مركب بخاري عظيم، كان يشق بحيزومه صدر دجلة، فسرحت طرفي في الأفق فإذا شمس الشرق تجاهد ظلام الغرب، وإذا القزعات قد ارتد بياضها سواداً ضربت في حواشيه حمرة الشفق، فصارت كأجنحة الغربان الدامية، أو كقطع من الفحم علقت بأطرافها نار حامية.
ثم نظرت شمالاً فإذا المكان الذي سجدت فيه رسل (شارلمان) أمام الرشيد يخفق فوقه علم غريب، لا هو أسود ولا أبيض ولا أخضر وإذا قطع من السحائب السود قد انعقدت فوقه ملبدة هنا مبددة هناك.

فقلت في نفسي ليت شعري أهذه بقايا أعلام الرشيد والمأمون، أم هذه أثواب الحداد لبستها سماء العراق على السعدون؟! الزيات

شارك الخبر

المرئيات-١