أرشيف المقالات

ديوان الطرائف:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 سبط ابن التعاويذي للأستاذ أحمد عثمان عبد المجيد هو أبو الفتح محمد بن عبيد الله، وينسب إلى ابن التعاويذي جده لأمه لأنه نشأ في كنفه وحياطته، وكان جده هذا زاهداً تقياً ومحدثاً صالحاً. وقد ورث أبو الفتح عن جده الرغبة في الدرس والتعلق بأسباب الثقافة، فأقبل على النظر في كتب اللغة والأدب، يسعده طبع أصيل، وتمده ملكة مرهفة، حتى بالبراعة في الكتابة والحسابة، وجلى في ميدان الشعر، فجمع فيه بين جزالة اللفظ وعذوبته، ورقة المعنى ودقته.
وفية يقول ابن خلكان: إنه لم يكن قبله بمأتي سنة من يضاهيه.
وكأنما خاف أن يتهم بالمبالغة والتزيد فأردف حكمة بقولة: ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل، فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله در القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب. وقد تأثر أبو الفتح في نثر طريقة ابن العميد القائمة على العناية بالتصنيع والتزيين، وصرف الجهد إلى تكلف وجوه البديع. ولقد فتن كتاب الدواوين جميعاً بهذه الطريقة منذ أنهجها لهم أستاذهم ابن العميد، وأغرقوا من بعده في تصيد المحسنات، فجنوا على المعنى، وتحيفوا الفكرة رغبة في تجويد الصورة وتجميلها فخرجوا على الناس حينا بنثر مرقش ليس وراءه كبير معنى ولا جليل غرض؛ وحينا بنثر كز منقبض لا يفصح عن مراد ولا يهدي إلى قصد، إذ جنى البديع عليه فأغمضه وأزال وضوحه وأوقع قارئه في عملية.
وحسبك أن ترسل طرفك في كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي للعماد الأصفهاني صديق سبط ابن التعاويذي لترى الغرابة والاستبهام والكزازة. وقد أورد العماد في كتابه جريدة القصر وجريدة العصر طائفة من الرسائل التي تلقاها من ابن التعاويذي، وفيها يتحرى الطريقة البديعية، ويلتزم نهجها ولقد ولى الكتابة بديوان الإقطاع ببغداد لبراعته في الحسابة والإنشاء، وأنقطع إلى آل الرفيل وكان ولاؤه فيهم، يمدحهم ويستمنحهم، وكانوا سادة ذوي نفوذ وسلطان، وقد ولي الوزارة منهم عضد الدين أبو الفرج للخليفة المستضيئ.
وفيه يقول الفخري: كان م أفاضل الناس وأعيانهم، نهض بأعباء الوزارة نهوضاً مرضياً، وتلطف بالأمور تلطفاً لم يكن في حساب الناس وبيته بيت مشهور بالرياسة. ويبدو أن ابن التعاويذي قد أنفق جل عمره مع آل الرفيل يحمد لهم إقبالهم على بره وإنعاشه.
فإن أحس منهم إغفالا له واطراحا لما ألزمهم من حقه جاهر بلومهم والإنكار عليهم.
وفيهم يقول: قضيت شطر العمر في مدحكم ...
ظنا بكم أنكم أهله وعدت أفنيه هجاء لكم ...
فضاع فيكم عُمُري كله وهذا قول قاس، يدل على أن شعراء المدح والاستمناح ما كان يردعهم عن التدلي إلى المجاهرة بالهجاء سالف معروف، ولا سابق مبرة.
وأنهم إن أعطوا منهم رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون. ولعل نهم ابن التعاويذي بالمال كان يدفعه إلى مدح غيرهم، ولعلهم نقموا منه ذلك وأنكروه عليه لأنه إن دل على شيء فإنما يدل على أن صنائعهم إليه لا تنهض بحاجاته، ولا تفي برغائبه.
فقال يعتذر مسجلاً في صراحة أنه كخماص الطير تجتذبه الجدوى كما يقنصها الحب، وهو بهذا يستفيد من قول المتقدم: يسقط الطير حيث ينتثر الحب ...
وتغشى منازل الكرماء قال: وما زلت في آل الرفيل بمعزل ...
عن الجور مبذولاً لي الخصب فإن أقترف ذنباً بمدح سواهم ...
فإن خماص الطير يقنصها الحب وإن عاد لي عطف الوزير محمد ...
فقد أكثب النائي، ولان لي الصعب وزير إذا اعتل الزمان فرأيه ...
هناء به تطلي خلائقه الجرب ولقد دفعته صلته بآل الرفيل إلى أن يناصب الوزير ابن البلدي العداء، وأن يهجوه حين عزل أرباب الدواوين واشتد عليهم بالمصادرة والعقاب.
وكان بين عضد الدين الرفيلي وابن البلدي جفاء ما فتئ يتفاقم حتى حمل عضد الدين على أن يدبر لقتل الوزير وتم له ذلك، ووثب من بعده على الوزارة.
وفي ابن البلدي يقول ابن التعاويذي: يا قاصداً بغداد، حد عن بلدة ...
للجور فيها زخرة وعباب إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ...
سدت على الراجي بها الأبواب بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ...
ببقاء مولانا الوزير خراب وفيه يقول أيضاً: - يا رب أشكو إليك ضراً ...
أنت على كشفه قدير أليس صرنا إلى زمان ...
فيه أبو جعفر وزير؟ وما زال ابن التعاويذي قائماً بالعمل في ديوان الإقطاع حتى ذهب بصره، فأعتزله وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها عينيه ويندب الشباب ورونقه، فيستدر بها الإشفاق ويستدعي أبلغ العطف وأعمقه.
ومنها: لقد رمتني - رميت بالأذى - ...
بنكبة قاصمة الظهر وأوترت في مقلة، قلما ...
علمتها باتت على وتر جوهرة كنت ضنينا بها ...
نفيسة القيمة والقدر إن أنا لم أبكِ عليها دما ...
فضلا عن الدمع، فما عذري؟ مالي لا أبكي على فقدها ...
بكاء خنساء على صخر؟ وأنت تتمثل في هذه الأبيات حر اللوعة، ولذع الفاجعة في الاعتراض بقوله رميت بالأذى، وفي الكناية عما كرثه بقوله قاصمة الظهر، وفي مغالاته بمقلته فلم تكن لتنام على وتر، وفي إنكاره أن يكون له عذر إن يبكها دما، ومنها: فها أنا كالمقبور في كسر منزلي ...
سواء صباحي عنده ومسائي يرق ويبكي حاسدي لي رحمة ...
وبعداً لها من رقة وبكاء وقد جاء في عبارة ابن خلكان نعته إياه بالعمق في معانيه.
وإليك أمثلة من براعته في التوليد: قال في الشيخوخة: من شبه العمر بالكأس يرسو ...
قذاه، ويرسب في أسفله فإني رأيت القذى طافيا ...
على صفحة الكأس من أوله وقال فيها أيضاً: وعلو السن قد كسر ...
بالشيب نشاطي كيف سموه علوا ...
وهو أخذ في انحطاط؟ ولم أكره بياض الشيب إلا ...
لأن العيب يظهر في النهار ولما عمى التمس أن يقيد ماله من راتب بالديوان بأسماء أولاده ثقة منه بأن يجد في ذراهم براً به ما امتدت له الحياة، وتعجيلاً لسوق النفع إليهم، ورفعا لأسباب التباغض من بينهم فلما تم النقل والتقييد كتب قصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر يلتمس فيها تجديد راتب له مدة حياته لما جر به من عقوق أولاده.
وقد أبدع فيها تصوير عقوقهم، واحتجانهم الراتب من دونه، وإهمالهم أمره، وكان الناصر من أفاضل الخلفاء، بصيراً بليغاً، متوقد الذكاء والفطنة، غير مدافع عن فضيلة علم، ولا نادرة فهم، يفاوض العلماء مفاوضة خبير، فلما وقف عليها ملكت نفسه لعذوبتها ورقتها، وما يثيره موضوعها من إشفاق ومرحمة، وما افتتحها به من مدح جميل، فأنعم عليه براتب جديد ومطلعها: خليفة الله أنت بالدين والدنيا، ...
وأمر الإسلام مضطلع ومضى يمدح الخليفة بانتهاجه نهج أعلام الهدى، وما أفاضه على الناس من عدل وخير، وما أزاله من أسباب الخلاف والبدع، ثم قال: أرضى قد أجذبت، وليس لمن ...
أجذب يوماً سواك منتجع ولي عيال، ودر درهم ...
قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ...
حولي، ومالوا إلى واجتمعوا ولي عيال، لا در درهم ...
قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ...
حولي، ومالوا إلي واجتمعوا وطالما قطعوا حبالي إع ...
راضا إذا لم تكن معي قطع يمشون حولي شتى كأنهم ...
عقارب، كلما سعوا لسعوا ثم قال: لهم حلوق تفضي إلى معد ...
تحمل في الأكل فوق ما تسع من كلُّ رحب المعاء، أجوف نا ...
ري الحشا لا يمسه شبع لا يحسن المضغ فهو يطرح في ...
فيه بلا كلفة ويبتلع ولي حديث يلهي ويعجب من ...
يوسع لي خلقه فيستمع نقلت رسمي جهلاً إلى ولد ...
لست بهم ما حييت أنتفع نظرت في نفعهم وما أنا في اج ...
تلاب نفع الأولاد مبتدع وقلت هذا بعدي يكون لكم ...
فما أطاعوا أمري ولا سمعوا واختلسوه مني، فما تركوا ...
عيني عليه، ولا يدي تقع ثم قال: فاستأنفوا لي رسما أعود على ...
ضنك معاشي به فيتسع وإن زعمتم أني أتيت بها ...
خديعة فالكريم ينخدع ولا تطيعوا معي، فلست ولو ...
دفعتموني بالراح أندفع وحلفوني ألا تعود يدي ...
ترفع في نقله ولا تضع يقول ابن خلكان: فما ألطف ما توصل به إلى بلوغ مقصودة بهذه الأبيات التي لو مرت بالجماد لاستمالته وعطفته. وبعد فإن في هذه القصيدة الطريفة ائتلافاً واضحاً، ورقة وانسجاماً، وتصويراً بارعاً للعقوق يهز النفس ألماً وحزناً، ويمزق القلب أسى وحسرة.
وإن الدنيا لحافلة في تصرفها بالناس بأشباه هذا الحادث. فإن قيل إن الشاعر قد نحل أبناءه هذا العقوق ليملك من نفس الخليفة، ويضمن انخداعه، والكريم ينخدع، فيرجع براتب آخر - قلت: لقد جلا عن قدرته على التمويه، وبرع مع تعود لاعتقاد عن مناصرته، وشعور الشاعر بأنه يترجم عن اعتقاد من أقوى أسباب إجادته وإتقانه. وقد اذكرني موقف أبناء ابن التعاويذي منه بما قرأته عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أبر الناس بأمه فقد قيل له: إنك لشديد البر بأمك، فلم لا تأكل معها من صحفة واحدة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها.
فأين هذا البر من ذاك العقوق؟ رحم الله آل البيت، فما كانوا في الناس إلا أقباساً ساطعة من نور النبي الأعظم. وفي الشاعر يقول ياقوت: وكل شعره غرر، وديوانه كبير جمعه بنفسه قبل أن يضر، وما حدث من شعره بعد العمى سماه الزيادات.
وولد سنة 519، وتوفي في بغداد سنة 583هـ وقد طبع الديوان بمصر في مفتتح هذا القرن بعناية الأستاذ مرجليوث، ولكنه اليوم عزيز لا يكاد يكون في دكاكين الوراقين. أحمد عثمان عبد المجيد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١