أرشيف المقالات

القوة والحياة. . .

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ محمد عاطف البرقوقي قوة الفرد: القوة مصدر من مصادر سعادة الإنسان، ومظهر من مظاهر العز والحياة، إن اكتسبها شخص زاد نشاطه وكثر إنتاجه، وصارت في يده سلاحا يشق به لنفسه سبل النجاح، وهو سبيل وايم الحق صعبة التمهيد، بعيدة المدى، يحتاج تمهيدها إلى جهد شاق متواصل، يعجز عن الاستمرار فيه الضعفاء، ويصل إلى نهايته الأقوياء.
والشخص القوي تجده عريض المنكبين، بارز الصدر مفتول الذراعين، يترقرق في وجهه دم الصحة والفتوة، أقدر من غيره على تحمل المشاق، وأقوى من سواه في التغلب على الصعاب.
وقد قيل بحق (الحياة جهاد، والبقاء فيها للأصلح) فلا غرو إذا كانت القوة موضع التبجيل منذ أقدم العصور، وحديثا ينظم المباريات لنيل بطولة القوة، فهذا بطل في رفع الأثقال، وذاك بطل في العدو.
ويكرم البطل لأنه عنوان الفخر لامته، ولا غرو فأن الأمة هي مجموعة أفرادها، فأن كان أفراد الأمة أقوياء بلغت الأمة ذروة المجد والفخار. قوة الأمة: والقوة أن اكتسبتها أمة أصبحت مهيبة الجانب، آمنة العواقب، لا يقدم على الاعتداء عليها معتد، ولا يغير عليها مغير، وقد قيل (الحق مع القوة) وهو المبدأ الذي يتسلط على عقلية الدول في الحروب، ويدفعها إلى الحركة والعدوان، ويحفزها للكر والفر والطيران، ويمنعها من الإحجام ويحرضها على الاقدام، فتنتظم الجيوش البرية، تقطع الفيافي والقفاز، وتتحرك الأساطيل البحرية، تطهر البحار والأنهار، وتطير الطائرات الجوية، تغير على المدن والأمصار، فتستعر الحرب ويشب ضرامها، ويشتد القتال وتندلع النيران ويمتد لهيبها، والغلبة عندئذ للأقوى، والنصر في النهاية لمن فاقت قوته، والهزيمة لمن انكسرت شوكته، وحتى في وقت السلم تنادي بعض الدول بنزع السلاح وتطالب بالعدالة والإنسانية والمساواة، وهي مبادئ إن عمل بها انتفت الشكايات وبطلت الحرب، ولكنها غرائز الإنسان المبنية على الأثرة، والمؤسسة على حب النفس، والمطبوعة على الظلم حتى لقد قيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ...
ذا عفة فلعلة لا يظلم ولذلك تلجأ بعض الدول إلى التسلح والتقوية وقت السلم، اعتقادا منها بأن (التسلح أفضى الحرب) وأن (القوي لا يحترم إلا القوي) فهي إن رغبت في القتال والعدوان، فإنما تتسلح وتتقوى حتى لا يطمع فيها ظالم، ولا تسول له نفسه الأثيمة الاعتداء عليها فسلامة الدول مبنية على قوتها، سواء أكانت في وقت السلم أم في وقت الحرب. قوة الآلات: وطموح الإنسان لا يقف عند حد، وقد وجد أن قوته العضلية لا تكفي للحصول على النجاح، فلجأ إلى العلم يستنبط منه مصادر جديده للقوة، وها هو ذا يستعمل الروافع والبكرات منذ عهد اليونان، ويبذل بها قوة صغيرة لتحريك أو رفع ثقل كبير، فأنه إذا استطاع رفع أي ثقل بقوته العضلية، فأنه يستطيع أن يرفع عشرات بل مئات بل آلافا مثلها بالروافع والبكرات والآلات، حتى لقد قال أرشميدس العالم الطبيعي الإغريقي مرة (أعطوني مكانا أقف فيه وأنا أحرك الدنيا)، وقد عرض علي مليكه هيرون ملك سرقوسة أساس الفكرة وجعله يحرك سفينة محملة ثقيلة بقوة صغيرة، سر منه الملك وقربه إليه. ومنذ عهد أرشميدس والمخترعات تتقدم في مختلف النواحي، ومنها الناحية التي تزيد قوة الإنسان. ففي البناية الحديثة تستعمل آلات لرفع الأثقال التي يعجز الإنسان عن رفعها بقوته، وهذه الآلة يسميها الناس (الونش)، ترفع كتلة ثقيلة جدا من الحديد وتتركها تهوي من عل إلى الأرض فتدكها دكا، وبتكرار هذه العملية يمكن أعداد الأساس المتين للبناء، وتستعمل هذه الآلة أيضاً لنقل الحجارة والأتربة من مكان إلى أخر وفي البواخر المعدة لحمل الأثقال والسيارات تستعمل هذه الآلة لرفع السيارات الثقيلة من الأرض، وتتحرك بها حتى تقف في المكان المعد في الباخرة لوضع السيارة فيه، وعندئذ نرى السيارة تتدلى حتى تستقر في مكانها المناسب، وكل هذا دون جهد كبير من الإنسان. وهناك آلات أخرى اخترعها الإنسان على أساس علمي أخر، منها الجهاز المسمى بالمكبس المائي الذي يستعمل لكبس الاقطان، واستخراج الزيوت من البذور، وقد صنعت هذه الآلة بعد ما ثبتت قاعدة انتقال الضغط في السوائل، وذلك في سنة 1653 حيث استنبطها العالم والأديب والفيلسوف الفرنسي (بليز باسكال)، واستغلها العلماء من بعده في صنع كثير من الآلات منها المكبس المائي، وهذا مثال من أمثلة عدة تدل على البحوث النظرية التي يمكن تطبيقها في نواح عملية في الحياة. المصعد الكهربائي: ومن الآلات أيضاً ما هو مبني على القوة الكهربية، منها المصعد الكهربي، فقد وجد الإنسان أن التعب يدركه عندما يصعد في سلم مرتفع، إذ انه يصعد مضادا لقوة جاذبية الأرض، وهي قوة يصل تأثيرها إلى القمر، ولكنه عقل الإنسان القوي الذي يتغلب بعلمه وتفكيره على كل صعوبة تعترضه إذ لجأ في هذه الحالة إلى عمل المصعد الكهربي، الذي يتحرك بالقوة الكهربية التي سخرها الإنسان لمنفعته، فصار الإنسان بفضل المصعد يصعد إلى أعلى الطبقات في العمارات المرتفعة وناطحات السحاب الشاهقة، كل هذا وهو جالس في مقعده دون مشقه أو تعب، وما عليه إلا إن يضغط على (الزر) الدال على رقم الطبقة التي يريدها، فيتحرك المصعد، ويقف عند تلك الطبقة، كأن له عقلا يدرك به، أو بصيرة نفاذه تهديه سواء السبيل، وبحركة خفيفة أخرى يؤمر المصعد بالنزول فيطيع، ولا يعصي أمرا مهما تكررت الأوامر والطلبات، ولا يبدي ملالا أو كلالا، ولو اشتغل آناء الليل وأطراف النهار، فهو أطوع بل واقدر من أي خادم أمين. عصر الآلات: وبالعلم أيضاً أصبح الإنسان يقطع أطول المسافات دون أن يلحقه تعب أو نصب، سواء أكان هذا السفر في الجو أم في البحر أم في البر، على متون الطائرات التي تشق عنان السماء، والبواخر التي تمخر عباب الماء، والسيارات والقطر التي تنهب الأرض نهبا، وبذلك سخر العقل البشري للإنسان آلات كثيرة في مختلف النواحي والأغراض، فهذه آلات مبنية على الروافع والبكرات وهي ما تسمى الآلات الميكانيكية، وتلك آلات مبنية على قوة البخار، وهي ما تسمى الآلات البخارية، وأخرى مبنية على قوة الكهرباء، وهي الآلات الكهربية المستعملة في رفع الأثقال والنقل والحركة والتدفئة والإضاءة وغيرها، وهناك آلات مبنية لا على أساس واحد بل على أساسين أو أكثر، فمثلا قوة الريح وقوة الماء يمكن استخدامهما لتوليد الحركة أو لتوليد الكهرباء، ففي هولندا تستعمل الطواحين الهوائية، وفي الفيوم يستخدم سقوط الماء لتوليد الكهرباء للمدينة لشتى الأغراض، وهكذا نجد العلم قد سخر للإنسان قوى عظيمة لخدمته، وتنوعت الآلات في عصرنا حتى لقد بلغ بالعلم أن صنع آلات حاسبة وثانية كاتبة، وثالثة ناطقة، حقا أننا نعيش في عصر آلات. (البقية في العدد القادم) محمد عاطف البرقوقي ناظر المدرسة التوفيقية.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢