أرشيف المقالات

الشيوعية الخرمية

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 ُرِمَّية للأستاذ عباس حسان خضر. الخُرمية نسبة إلى خُرَّم بمعنى الفرح، وأصحابها يحللون كل ما يريدون ويشتهون، فيسمون مذهبهم مذهب الفرح.
وقد أخطر لي الكلام على هؤلاء الخرميين الشيوعيين الذين قاموا بأذربيجان منذ أحد عشر قرناً - تلك الحوادث الجارية في ذلك الإقليم من شمال إيران المتاخم لروسيا.
ولك أن تلاحظ صلاح تلك البيئة لنمو الأفكار الشيوعية فقد نشأت بها مذاهبها متجهة من الجنوب إلى الشمال: كانت المزدكية القديمة في بلاد فارس، ثم كانت الخرمية (موضوعنا) في شمال فارس ولعل الفكرة قد تابعت سيرها إلى الشمال حيث استقرت في روسيا في عصرنا الحاضر شيوعية مغربلة منخولة، نفي التنظيم الحديث منها كثيراً من العناصر الفوضوية القديمة، حتى أصبحت نظاماً من نظم الحياة في هذا العصر، له مبادئه وفلسفاته، وله أنصاره ومعارضوه.
قامت الشيوعية الخرمية بتلك الأصقاع في عهد المأمون، واستطار شرها وعظم خطبها، وهب إعصارها على لحضارة الإسلامية في إبان ازدهارها، فحشدت لها الدولة العباسية قواتها وظلت تكافحها عشرين سنة، حتى أخمدت أنفاسها. كانت الخرميةُ الميلاد الثاني للشيوعية في تلك البلاد، بعد مزدك الذي ظهر في عهد قباذ ملك الفرس، فدعا إلى المشاركة في كل شئ، بحيث لا يمنع أحد مما يشتهي، كما دعا إلى ترك المنازعات والخصومات والحروب.
ومال قباذ إلى هذا المذهب، فلما ملك بعده ابنه أنوشروان قتل مزدك وقضى على الشيوعية الأولى.
أما الخرميون فقد زادوا على المزدكية القديمة القتل والغصب والحروب، وكانوا - إلى تلك الإباحية - يدينون بالتناسخ، أي حلول الأرواح في أجساد أخرى غير التي فارقتها، وقد أدعى زعيمهم بابك الخرَّميّ أنه إله، حلت به روح كبيرهم الأول جاويدان كان بابك في حياته الأولى راعياً صغيراً في قرية بأذربيجان، وقد زعمت أمه أنها نظرت إليه وهو نائم فرأت تحت كل شعرة من رأسه وصدره دما، فلما انتبه من نومه اختفى هذا الدم، فقالت إنه سيكون لابني نبأ جليل.
. اتصل بابك بجاويدان ملك الخرمية، فقر به إليه، لما رأى من فطنته وخبثه وشهامته.
ف مات جاويدان استدعت امرأته بابك وقالت له: إنك جلد شهم، وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغد.
فلما أصبحت تجمع إليها جيش جاويدان، فقالوا: لمَ لمْ يدعنا ويوصي إلينا؟ قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث إليكم وجمعكم انتشر خبره، فلا يأمن عليكم شِرَّةَ العرب، فعهد إليَّ بما أؤديه إليكم. قال لي: أني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني، وتدخل في بدن بابك، وتشترك مع روحه؛ وإنه سيبلغ بكم أمراً لم يبلغ أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة، ويرد المزدكية، ويعز به ذليلكم، ويرتفع وضيعكم. فآمن القوم ببابك، وتزوج امرأةُ جاويدان.
ومن غريب ما جرى في الاحتفال بهذا الزواج أنهم أتوا ببقرة، فقتلوها، وسلخوها، وبسطوا جلدها، وجعلوا فوقه طستاً مملوءاً خمرا، ووضعوا خبزا حوالي الطست، فكان كل رجل يأتي يأخذ لقمة ويغمسها في الخمر ويأكلها ويقول: آمنت بك يا روح بابك، كما آمنت بروح جاويدان. أخذ بابك ومن معه يعيثون في الأرض فسادا، وينشرون مذهبهم الإباحي.
وبلغ المأمون خبره سنة 201 هـ الموافقة لسنة 816 م، فأهتم بأمره، وعزم على مطاردته، والقضاء على مذهبه، وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع، والمضادة لتعاليم الإسلام، والمنذرة لأركان الحضارة الإسلامية بالتصدع والانهيار.
فوجه المأمون إلى بابك أربعة من قواده في أربعة حملات متعاقبة، فلم يستطيعوا التغلب عليه، لمكانه الحصين، وقوته الكبيرة، وشدة تأثيره في قلوب جمهوره.
وأدركت المأمون منيته قبل أن يتمكن من القضاء على الخرمية الإباحية، فكان من وصيته لأخيه المعتصم أن كتب له: (والخرمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك واعمل لذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه). وفي أول عهد المعتصم استفحل أمر الخرمية في أذربيجان، ودخل فيه خلق كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وغيرها؛ ولكن المعتصم شمر عن ساعد الجد، وبذل جهده في الخلاص من هذا الشر، فاختار لحرب الخرمية قائداً من كبار قواده، هو المعروف بالأفشين، وسيره إليهم في سنة 220 هـ على رأس جيش منظم، فدبر الأفشين أمر القتال، وأحكم تدبيره، ووزع قواده على الحصون والمعاقل لحراسة القوافل والسابلة، وأطلق عيونه وجواسيسه حتى يعرف خطوات الثائر وحركاته.
واستمر يحاربه سنتين، حتى انتصر عليه في سنة 222 هـ الموافقة لسنة 837 م. وفر بابك متنكرا حتى نزل مكانا بأرمينية، فعرف خبره سهل بن سنباط أحد بطارقة أرمينية، فذهب إليه، وسلم عليه بالملك، وقال له: قم أيها الملك إلى قصرك الذي فيه وليك، حيث تكون في أمان من عدوك.
فسار معه إلى قصره، ورفع سهل مجلسه وعظمه، وقدمت المائدة، وجلس يأكل معه، فاستشعر بابك جبروته غافلا عما يدبر له فقال لسهل: أمثلك يأكل معي؟ فقام سهل وقال: أخطأت أيها الملك، وأنت أحق من احتمل عبده.
ودخل حداد كان سهل أرسل في طلبه، فقال لبابك: مد رجلك أيها الملك.
والتفت إلى الحداد قائلا: أوثقه بالحديد.
فقال له بابك: اغدرا يا سهل؟ قال سهل: يا ابن الخبيثة، إنما أنت راعي غنم وبقر، ما أنت والتدبير للملك ونظم السياسات؟ وسلمه إلى الأفشين، فأرسله إلى الخليفة بسامرا، فأمر بقتله وصلبه. وكان يوم دخول الجيش ببابك مدينة سامرا يوما مشهودا، خرج فيه الخليفة، ومعه أشراف الدولة، فاستقبلوا الأفشين استقبالا باهرا، وكان فرح المعتصم عظيما، حتى أنه كان يرسل إلى قائده الباسل في صبيحة كل يوم حلة شرف ومعها الهدايا الثمينة. وجلس الأفشين للشعراء، يستمع إلى أشعارهم في الثناء عليه إذ أراح الناس من شر ثائر روع البلاد والعباد عشرين عاما، قتل فيها مائتين وخمسة وخمسين ألف انسان، وأسر ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل وسبعة آلاف وستمائة امرأة، وقد ظلوا في أسره حتى أنقذهم الأفشين. عباس حسان خضر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١