أرشيف المقالات

فن التصوير عند العرب

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ محمود خيرت ضرب العرب بسهم وافر في الأدب والاجتماع والفلسفة والسياسة والفلك والكيمياء والطب وتخطيط البلدان وغير ذلك، فكانت مدنيتهم رائعة لم ينكرها المنصفون من علماء الغرب الذي نقلها وبني عليها والى جانب هذه الفنون فن الزخرفة والعربيات التي يقوم أساسها على نبات عرف العرب كيف يبرعون في تعديد أوضاعه الهندسية براعة أثارت إعجاب هؤلاء العلماء الذين شهدوا لهم أيضاً بعلو كعبهم في فن الإنشاء والعمارة كما تنطق به جوامع القاهرة وقصر الحمراء بالأندلس وغيرها مما يعد من أعاجيب الآثار. نعم، إن الطراز العربي غير مبتكر ابتكاراً لأنهم حين هبطوا إلى مصر والأندلس ووقعت عيونهم على آثار الفن البيزنطي فيهما استخلصوا منه عنصراً لطرازهم، وحسبهم أنه مع تصويره للروح العربية جمع بين المقدرة والحسن والرشاقة. وهكذا برهن العرب على مقدرتهم الفنية وعلى تسامحهم واحترامهم تلك الآثار فلم يعبثوا بها كما فعل (الانكوكلاست) أولئك النساك المتطرفون بآثار بيزنطة لما سيطروا على الحكم بها في القرن التاسع وصدر القرن العاشر، إذ قضوا على الفن المسيحي فهشموا تماثيله وشردوا فنانيه حتى قصد بعضهم إلى اكس لاشابيل للخدمة في بلاط الملك شرلمان. تلك هي شهادة أولئك العلماء في العرب بالنسبة لفني الزخرفة والإنشاء والعمارة، ولكن الذي نعرض له اليوم هو، هل زاول العرب أيضاً فن التصوير، وهل برعوا فيه كما برعوا في غيره؟ وهل كان من بينهم أساتذة مهرة كالذين ظهروا في أوروبا من عصر النهضة إلى الآن؟ أكثر الباحثين يذهبون إلى أن التصوير كان محرماً على المسلمين، وأن هناك أحاديث نبوية بهذا المعنى منها حديث: (أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون). وقبل أن نطرق هذا البحث نلفت النظر إلى مبلغ تبجح الغربيين بأنهم هم المنفردون بفن التصوير والأساتذة المبرزون فيه، لأن فن قدماء المصريين ما كان ليتجاوز مجرد التخطيط، على حين أنهم هم الذين اهتدوا إلى فكرة الظلال بأنواعها مما جعلهم يخرج الصور ناطقة بأصولها المأخوذة عنها.
ولكنها دعوى تستوقف نظر الباحث هنيهة، لأن الفرس لم يفتهم أيضاً وضع هذه الظلال وكتبهم المصورة بمختلف دور الكتب شاهدة بذلك.
بل إن مما لا يصح أن يفوتنا ما جاء بكتاب كليلة ودمنة بالصفحة 64 طبعة سنة 1924 الأميرية، وهو: (.

كالمصور الماهر الذي يصور على الحيطان صوراً كأنها خارجة وليست بخارجة، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة)
مع أن هذا الكتاب ترجمة ابن المقفع عن نسخة فارسية ترجمت بدورها عن أصل هندي قديم كما يفهم مما جاء بصدر هذا الكتاب.
وإذن فالفضل الأول لابتكار الظلال التي هي الوسيلة كلها إلى استنطاق الطبيعة، إنما يرجع إلى الشرق وحده، لأن الوصف الذي نقلناه عن كليلة ودمنة لا يخرج عنه أحدث تعريف للرسم عند الغربيين، وهو إيجاد أنجاد وأغوار على سطح أملس بحيث إذا مررت بيدك من فوقه لا ترى لذلك أثراً. ولقد كان انفراد الشيعيين على ما يظهر دون السنيين بهذا الفن مما ساعد على الاعتقاد بتأثير تلك الأحاديث الشريفة وفهمها على غير حقيقتها. وأغلب الظن أن هذه الأحاديث لم تقصد إلا التماثيل مما كان شائعاً في الجاهلية بشيوع الوثنية وقضى الإسلام عليها لتنافرها مع أصول التوحيد.
ومما يجعل هذا الفهم أقرب إلى الحقيقة ما رواه المسيو ال.
جاييت في كتابه عن الفن الفارسي في باب التصوير من أنه كان بدمشق والقاهرة وبغداد مدارس راقية خاصة بالتصوير كان يقصدها الطلاب من كل صقع، وأنه كان هناك أساتذة بارعون يلقنونهم بها أصول هذا الفن كانوا محل إعجاب الخلفاء والسلاطين والوزراء، وكثيراً ما زينوا لهم قصورهم بصور حائطية ويؤيد هذا ما جاء بخطط المقريزي بالصحيفة 318 من الجزء الثاني طبعة بولاق فقد قال عن جامع القرافة (جامع الأولياء في عهده) إن: (موقعه كان يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر، بنته السيدة المعزية سنة 366، وهي أم المعز بالله نزار ولد المعز لدين الله على نحو بناء الجامع الأزهر، وأن بابه الذي يدخل منه، ذا المصاطب الكبير الأوسط، تحت المنار العالي الذي عليه، مصفح بالحديد إلى خط المقصورة والمحراب من عدة أبواب عدتها أربعة عشر بابا مربعة مطوبة الأبواب قدام كل باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف، وهو مزوق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ، وفيه مواضع مدهونة، والسقوف مزوقة ملونة كلها، والحنايا والعقود التي على العمد مزوقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبنى المعلم المزوقين شيوخ الكتامي والنازوك.) ثم قال: (وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوقة في منحني حافتيها شاذوران مدرج بدرج وآلات سود وبيض وحمر، وخضر وزرق وصفر، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلاً رأسه إليها ظن أن المدرج المزوق كأنه من خشب كالمقرنص.
وإذا أتى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أول القوس منهما ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحاً لا نتوء فيه وهذا من أفخر الصنائع عند المزوقين.
وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون.
وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوري سيد الوزراء الحسن بن علي بن عبد الرحمن، وكان كثيراً ما يحرض بينهما ويغري بعضهما على بعض لأنه كان أحب ما إليه كتاب مصور، أو النظر إلى صورة أو تزويق.
ولما استدعى ابن عزيز من العراق أفسده، وكان قد أتى به في محاربة القصير، لان القصير قد يشتط في أجرته ويلحقه عجب في صنعته وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط.
وابن عزيز كابن البواب وقد أمعن ذلك في الكتاب المؤلف فيه، وهو طبقات المصورين المنعوت بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس وكان البازوري قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز، فقال عزيز أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط، فقال القصير، ولكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط، فقال هذا عجب، وأمرهما أن يصنعا ما وعدا به فصورا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين، هذه ترى كأنها داخلة في صورة الحنية، وتلك ترى كأنها خارجة من صورة الحنية.

.
فاستحسن البازوري ذلك، وخلع عليهما ووهبهما كثيراً من الذهب. وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتامي صورة يسوف عليه السلام في الجب وهو عريان، والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظن أن جسمه باب قد دهن بلون الجب.
وكان هذا الجامع من محاسن البناء.
وكان بنو الجوهري يعظون بهذا الجامع على كرسي في الثلاثة أشهر فتمر لهم مجالس بهجة تروق وتشوق)
وقد أشار أيضاً إلى اللوح الحائطية التي من تصوير أبي بكر المحتسب سنة 365 في أول عهد الدولة الفاطمية، وكذلك إلى صور احمد بن يوسف المشهور بالأوسطي (أي الفنان) وكذلك صور محمد بن محمود.
وإنه كان في عهد السلطان بيبرس رجل اسمه ابن دايا كان يشتغل بالسياسة والتصوير، حتى أنه لما عين بأمر السلطان سفيراً لدى بركه الأمير المغولي حمل إليه ثلاث لوحات من عمله تمثل مواسم الحج بمكة نخرج من رواية المقريزي هذه بأن فن التصوير لم يكن متداولاً عند الفرس وحدهم، بل عند العرب أيضاً، وأن أساتذته كانوا مهرة تدل آثارهم كالشازوران الذي بأحد طرفي القنطرة والراقصتين، على إلمامهم بفن المنظور والتأليف كما في صورة يوسف عليه السلام وهو في الجب.
وأن هؤلاء المصورين وإن كانت أكثر آثارهم حائطية، إلا أنهم فكروا أيضاً في التصوير فوق لوحات مستقلة كما رأينا عند الكلام على ابن دايا، وأن هؤلاء الفنانين كانت لهم مكانة في نفوس السلاطين والوزراء، كما أن العناية بآثارهم بلغت حداً بعيداً، حتى أنها كانت تزين بها الجوامع مما يدل على أنهم كانوا لا يأخذون بحرفية الأحاديث، ولكن بالغرض منها أما كتاب ضوء النبراس الذي بحث في سيرة أولئك المصورين فلا ندري إذا كان من وضع المقريزي أو وضع غيره، لأن ذلك غير واضح في عبارته، وعلى كل حال فإن فقدان هذا الكتاب مما يدعو إلى الأسف الشديد. محمود خيرت بقسم قضايا المالية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١