أرشيف المقالات

لا غالب إلا الله. .!

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للدكتور عبد الوهاب عزام ذهبت البارحة إلى مسرح الحمراء.
قد سمى الأوربيون كثيراً من ملاهيهم باسم الحمراء بعد أن حرفوه إلى الهمبرا.
سألت نفسي في لطريق كيف حرف الاسم هذا التحريف؟ فقالت: إن الزمان ليطمس الأعيان ثم يذهب بالآثار، فما إبقاؤه على الأسماء؟ أشفقت من هذا الحديث أن أتغلغل فيما وراءه من الآم وأحزان، فقلت: فيم الفرار من الكد والعناء إلى هذا الملهى إن بدأت حديثه بالمراثي والمصائب؟ أخذت مكاني بين الجالسين فسرحت طرفي في طراز عربي من البناء والنقش، وإذا منظر يفتح لي من التاريخ فجاجاً ملأى بالأهوال والعبر.
لبثت أتأمل البناء متحرزاً أن اجتازه إلى ما وراءه من خطوب التاريخ.
ومازالت أصوب النظر واصعده في المسرح حتى جمد البصر على دائرة في ذروته لاحت فيها أحرف عربية، فكنت وإياها غريبين في هذا الجمع (وكل غريب للغريب نسيب) بل كنت وإياها نجيبين في هذا الحفل لا يفهمها غيري، ولا تأنس من الوجوه الحاشدة بغير وجهي.
أجهدت البصر الكليل في قراءة الأحرف فإذا هي (لا غالب إلا الله) يا ويلتاه! شعار بني الأحمر الذي حلوا به قصورهم ومساجدهم.؟ إنها لسخرية أن توضع هذه الكلمة الجليلة في هذه الكلمة في هذا الملهى، وأي جليل من ماضينا المجيد لم يتخذه القوم سخرية؟ قرأت هذه الكلمة فإذا هي عنوان لكتاب من العبر، قلبته صفحة صفحة ذاهلاً عما حولي فلم انتفع بنفسي في مشهد اللهو واللعب، ولم تحس أذني الموسيقي والغناء.
أغمضت عيني عن الحاضر لأفتحها على الماضي.
وصمت الأذن عن ضوضاء المكان، لتصيخ إلى حديث الزمان. وناهيك بجولان الفكر طاوياً الإعصار، منتظما البوادي والأمطار، واثبا من غيب التاريخ إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى غيب التاريخ. شهدت في ساعة جيوش طارق غازية من الزقاق إلى البرتات، وشهدت مصرع عبد الرحمن الخافقي في بلاط الشهداء، وشهدت جلاد الأجيال من المسلمين والأسبان، ورأيت الناصر في حربه وسلمه ملء العين جلالاً ورهبة، وملء القلب عدلاً ورحمة ورأيت البطل ابن أبي عامر يحالف الظفر في خمسين غزوة، ويبعد المغار حيث نكصت الهمم والعزائم من قبله.
ورأيت دولة الأمويين تزلزل فتتصدع فتنهار، وأبصرت ملوك الطوائف يتنازعون البوار والعار، ويؤدون الجزية إلى الفونس السادس صاغرين.
ثم سمعت جلبة جيوش المرابطين يقدمها يوسف بن تاشفين، وشهدت موقعه الزلاقة القاهرة، ثم رأيت راية المرابطين تلقف رايات ملوك الطوائف.
وهذه دولة الموحدين، وهذا المنصور يعقوب بن يوسف في موقعه الأرك يحطم جيوش الأسبان بعد الزلاقة بمائة عام.
ورأيت موقعه العقاب وقد دارت على المسلمين دوائرها.
والناصر ابن يعقوب يفر بنفسه بعد أن اقتحمت عليه المنايا دائرة الحراس ورأيت غرناطة وحيدة في الجزيرة يتيمة، قد ذهبت أترابها، وصارت كما قال طارق يوم الفتح: أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، ولكنها على العلات، ورثت مجد المسلمين وكبرياءهم فجالدت الدهر عن نفسها مائتين وخمسين عاما، وحمت حضارة المسلمين على رغم النوائب وكلب الأعداء.
ثم رأيت أشراط الساعة - رأيت أبا الحسن وأخاه محمدا يتنازعون السلطان على مرأى من العدو ومسمع، ورأيت أبا عبد الله ينازع أباه أبا الحسن.
ذلك الملك المائل، والظل الزائل، ورأيت العراك المديد بين أبي عبد الله وعمه الزغل كما تتناطح الخراف في حظيرة القصاب.
وتلك جيوش فرديناند وايزابلا تنيخ على مدينةبعد أخرى، وتدك معقلا بعد آخر، ومالقة تجاهد الكوارث جهاد المستميت، والزغل يشق الأهوال إليها لينقذها، فيقطع أبو عبد الله طريقه ويرد جنده.
ومالقة في قبضة العدو، وأهلها أسارى يباعون في الأسواق ويتهاداهم الملوك والكبراء.
وهاهو الزغل يسلم وادياش إلى العدو على منحة من الأرض والمال.
ثم يعيا بأعباء المذلة والهوان فيهاجر إلى الغرب.
ثم شهدت يوم القيامة، الجيوش محيطة بغرناطة وأهلها يغيرون على العدو جهد البطولة والاستبسال والصبر، ثم يغلق عليهم الضعف أبواب المدينة.
وهذا من ربيع سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وأبو عبد الله يسير إلى فرديناند في كوكبه من الفرسان لا محارباً ولا معاهداً، ولكن ليسلم إليه مفاتيح الحمراء.
نظرت الصليب الفضي الكبير يتلألأ على أبراج القلعة، وبكيت مع أبي عبد الله وهو يودع معاهد المجد وملاعب الصبا من الحمراء وجنة العريف.
وسمعت أمه عائشة تصرخ في وجهه: (ابك اليوم كالنساء على ملك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال) فينهل دمعه، وتتصاعد زفراته على الأكمة التي يسميها الأسبان اليوم (أخر زفرات العربي).
وهذا أبو عبد الله وهو الذي باء بأوقار من العار والذل تأبى فيه بقية من الشمم العربي أن يقيم على الضيم فيهاجر إلى المغرب، ويرسل إلى سلطان فارس من بني وطاس رسالته الذليلة المسهبة يدفع عن نفسه ما قرف به في عرضه ودينه.
ويشكو إلى السلطان حزنه وبثه ويقول: مولى الملوك ملوك العرب والعجم ...
رعيا لما مثله يرعى من الذمم بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ...
جار الزمان عليه جور منتقم على رأسي وقلبي بهذه الأحداث الكاربة، والخطوب المتلاحقة، وهالتني هذه المشاهد المفظعة، فخرجت من هذه الغمرة مرتاعاً كما يستيقظ النائم عن حلم هائل. نظرت أمامي فإذا المسرح، وصعدت بصري فإذا الدائرة: (لا غالب إلا الله.!) عبد الوهاب عزام

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢