أرشيف المقالات

شراء المعاني من أسواق الرحمات

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف في موسم الحج الماضي، ومع روح العربية الحديثة وقلبها المخلص وفكرها الملهم وأمنيها الأول عبد الرحمان عزام بك، رحت أبتاع لنفسي معاني من أرض محمد، ﷺ، مع ذلك الركب الإنساني العظم الذي يقصد كلُّ عام أسواق الرحمات، يسافر لها من كلُّ صوب عبر البحر والصحارى والجبال، ويخرج لها بائعاً كلُّ شئ إلا قلبه، مودعاً كلُّ عزيز من أهله وماله ووطنه. وكيف لا أخرج إلى تلك الأسواق وقد رأيت الكساد والبوار والخسار تضرب كلُّ تجارة في أسواق العالم غير هذه السوق التي عرف تجارتها وأرباحها قصادها وروادها فقصدوها على بعد الدار وقلة الزاد؟ لقد أقبلوا بأجسامهم من كل صوب نحو مركز الدائرة الذي يسافرون إليه بالروح كل يوم خمس مرات. إنها أرباح من المعاني التي لا تنفد والطمأنينة والسلام النفسي يدفع لها هذا الركب ما يجمع أفراده من حطام الدنيا وما يدخرونه ينقلونه عن طيبة خاطر راضية نفوسهم بالمشقات والصعاب.
إنهم يشقون الجسد ويبذلون المادة لإراحة الروح ونشدان السلام وطلب الحسنى أمام ديان الخلائق.
ذهبوا يعرضون نفوسهم وقلوبهم في تجرد وحفاء وشعاثة في أسواق الرحمات لعل الله يشتريها منهم ويمسح عنها أوضار الإثم.
يلوذون بالمطهر الأول الذي جعله الله أول بيت وضع للناس لتزكية النفس وتأهيلها للدنو منه والعلو إليه بعد الهبوط من جنة السماء.

يطوفون حوله في ابتهال وتبتل وفناء وسط الإنسانية الشقية التي دمرتها الآلام.

ويطيعونه طاعة مبصرة وعمياء في كلُّ ما فرضه عليهم في تلك الرحلة.

ويتنقلون بين يديه في مجال الطبيعة، يصلّون له في هياكلها ملبين في الأسحار والإصباح والظهيرة والضحى والأصائل.
يصعدون الهضاب والجبال، ويهبطون الوديان والرحاب في استغراق وابتهاج وبكاء، يبتغون إليه الوسيلة ويطرحون أجسامهم في مطارح الطبيعة أمام نظره العالي لعله يرحم ضعفهم وإخلاصهم ويمسح بيده الكريمة على قلوبهم. يتعرضون لنفحاته من ظهيرة يوم عرفه، ويبيتون له بمزدلفة وينحرون ويتزكون له في منى.
ويعزمون على ترك الشر في (شارع الشياطين!) يرجمونهم في فكاهة وجد وابتهاج.

ثم يقبلون بعد ذلك إلى حياة المدن في أم القرى ويشهدون منافع لهم من التعارف والائتمار والاتجار.
ثم يرمون بأبصارهم إلى الشمال نحو مرقد الجسد المطهر الذي مدَّ ظلال رحمة الله على هذه الأمة المحرومة المعزولة ثم مدها على العالم وأوسع له في آفاق الروح.
وعند قدمي محمد ﷺ اتخذت مجلسي أول قدومي عليه، وقد أغمضت عيني وفتحت خيالي يستحضر الصور التي شهدها التاريخ ووعتها ذاكرتي من حياته الشريفة وتعاليمه الهادية ووحيه العالي.
وأحسست حين جلست أن العالم كله يجلس معي تحت قدمي هذه القمة البشرية التي لم تطاولها سماء أخرى.

وأنني تحت ظلال أنضج ثمرة أدركت أسرار النوع البشري وصفوة معانيه ونهاية استعداده وحدود قواه.

أخرجها رب الإنسانية ومكرمها من الأمة الوسط التي يلتقي فيها الشرق والغرب، وتتصل بزنوج الجنوب وبيض الشمال وصفر الشرق وحمر الغرب وتأخذ منهم جميعاً أحسن ما فيهم جميعاً.
وهذا هو قانون الله في جميع الأشياء: يجمع أسرار كلُّ شيء في مركزه و (عقدة) ثمرته.
فلتفهم هذه العربية الحديثة في نهضتها الجديدة لأداء رسالتها الثانية.
أنا مؤمن عن طريق عقلي أكثر من إيماني عن طريق قلبي.
ومع ذلك حين وجدتني أقترب من قبر (محمد) القطب الذي تدور بدورته روحي وتهتدي بإشعاعه نفسي أحسست قلبي يهتز ويختلج اختلاج الباكي ووجداني يطغي على عقلي فأحبذ تقبيل المقصورة الشريفة واستلامها وأخفف من منع الحراس للناس وأفلسف لهم أن الحب يدفع إلى أكثر من ذلك.

ثم يستقر الأمر فأعود إلى القبر في هدوء الإجلال وسكينة الإعظام لهذا المقام أن يدور عنده همس لغط، أو يدنو منه مقترب بالجرأة والاقتحام كما يفعل العوام وأشباه العوام الذين لا يملكون عقولاً وإنما يملكون قلوباً.
وشهدنا أول احتفال بالهجرة في دار الهجرة على الطريقة العصرية في التكية المصرية، وخطب فيه عزام (بك) خطبة من خطبه التي هي مزيج من الروح والسياسة والتجربة والعلم والتاريخ فكان صوته أول نغمة جديدة من بيان أهل هذا الزمان ترتفع في جو المدينة التي ولد فيها فجر المؤاخاة الكاملة بين الأوس والخزرج من الأنصار، وبين المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين وأهل الكتاب والمسالمين من الجاهليين، في تلك المعاهدة الأولى التي لا يمكن أن يبني سلم عالي دائم إلا على مثلها وروحها الذي يؤمن بالإنسانية الواحدة وبالحرية والمساواة والعدالة في الوطن الواحد وفي الأوطان المختلفة ويأبى إلا أن يكون الدين لله. ولِيَاذُ الزنوج والأجناس الملونة واعتزازهم بهذه المشاهد المقدسة التي تتجلى فيها المساواة المطلقة شيء عظيم! وخاصة في هذا العصر الذي جار فيه (الرجل الأبيض) واغتر بلونه، وبني على الفروق السطحية فلسفة ظالمة، استعبدت الأحرار، وأذلّت الكرامة الإنسانية، وأهدرت لباب القلوب، واعتزت بالقشور والجلود، وعاثت بالفساد في ديار الناس ولم تحاول محاولات جدية أن ترفع مستوى الحياة في بلاد الملونين ليلحقوا بالقافلة الإنسانية السريعة المراكب، بل على العكس أثقلت أرجل غيرها بالقيود وعوائق الفساد ليتخلفوا عنها ويحتاجوا إليها دائماً ويكونوا معها (حيوانات بشرية) لحمل أثقالها وجلب مغانمها. ولكن رب البشرية بالمرصاد، فقد خرب ديار الطغاة، وجوعهم وأهلك حرثهم وعمرانهم ونسلهم، ووقفهم على هاوية الدمار التام ليتردوا فيها عما قريب إذا لم يراعوا أمانة الاستخلاف في الأرض ورعاية حرمات الناس وحقوقهم الطبيعية. إن الأجناس المتخلفة تدرك بفطرتها ما في طبيعة المسلمين من رحمة بها واعتراف بحقوقها وغيرة على حرماتها وحب لتقدمها، ولذلك تقبل على الإسلام، وعلى شعيرة الحج بنوع خاص، لتشعر لأول مرة في هذا العصر بقيمة ذاتها، واكتمال حقوقها واعتراف الدنيا بإنسانيتها. ومن يرى الإنسانية في ثيابها البسيطة، وحفائها وابتهالها حول الكعبة وبكائها لربها واصطفافها جميعاً على قدم المساواة، يبيع نفسه لخدمتها وإنصافها ومكافحة الطواغيت والمظالم التي تهدر كرامتها، وتذل عزتها. ولن أنسى ذلك الشيخ الأسود الذي وقف أمام باب الكعبة يبكي ويبلل لحيته ويجأر بالدعاء وينادي: اللهم أجمع قلوب المسلمين كما جمعت أجسامهم! ولا ذلك الهندي الساجد في نشيج ودموع بجوار مقام إبراهيم.
ولا تلك الزمرة من زنوج نيجريا في ثياب الإحرام البيضاء تتلو وراء المطوّف دعاءها في رطانة ولكنه ومع إتلاع الأعناق ومشية العزة والمسرة والشعور بالحضارة الروحية ولقاء قلوبهم مع قلوب غيرهم من الناس في ثقة ومحبة. ولا تلك الأرتال السائرة على أقدامها على طريق مكة والمدينة أياماً وليالي تقصد زيارة المدينة، بعد أن جاءت من أعماق القارة السوداء (إفريقية)، والقارة العجوز (آسيا) يحدوها الحب، ويسوقها الإلهام إلى أرض التحرير والعتق من ظلمات الوثنيات والمثنويات والسحر الأسود والرهبة من القوي الجبارة المبهمة التي تطالعها من طلعات هاتين القارتين الغامضتين! ويكفي أحدهم جوار الكعبة عاماً ليحصل علماً من جميع أجناس الأرض لم يكن ليجده عمره في دياره ولو عاش أبد الأبيد. إن الحج نسك عجيب تفرد به الإسلام، وجعله مثاراً لعالم فني (سينمائي) ورمزي بجانب ماله من الآثار التعبدية والاجتماعية. وكم ترك من آثار عميقة في حياة المسلمين وحياة الناس جميعاً وسير التاريخ العالمي إذ كان بمثابة الرياح التي تحمل البذور من مكان إلى مكان لتنتج خليطاً من الأنواع، فهو قد حمل الشخصية الإسلامية المتفرقة بافتراق البقاع على اللقاء في معهد واحد.
وكما كان سبباً لاجتماع القبائل العربية في الجاهلية على معناها العام ووحدتها وعرض أمجادها في أسواق الدين والتجارة واللغة، كذلك يحمل العالم الإسلامي بأممه المختلفة على اللقاء الدائم في عصور التاريخ.
فالعالم الإسلامي مدين له بجانب القرآن بوحدته الفريدة على مدى الأجيال. وإنه لعمل عظيم في جذور الوحدة العربية والوحدة الإسلامية والوحدة العالمية. عبد المنعم خلاف

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣