أرشيف المقالات

ضربات معول

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب في العام الخامس من الهجرة تألّب الشرك على التوحيد، وائتمر الباطل بالحق، وكاد الشر للخير.
تقاسم رؤوس الضلالة ليغزون المدينة وليقتلُنّ هذه الجماعة الناشئة، وليبطلُن تلك الدعوة الجديدة. مشى يهود خيبر إلى قادة قريش، وحرضوا القبائل الضاربة غربيّ نجد وشرقيّ خيبر، قبائلَ غطفان.
فاجتمعت كلمة هؤلاء وهؤلاء على غزو المدينة والبطش بالمسلمين. ورأى المسلمون أنهم لا قِبل لهم بهذه الأحزاب، لا يستطيعون دفع قريش وغطفان وألفافهما، لا قِبل لهم بهذه الجموع الحاشدة من قيس عيلان وقريش ومن انحاز إليهم، هذه الجموع التي قال فيها حُييّ بن أخطب أحد زعماء اليهود الذين ألّبوا الناس على المسلمين، حين جاء إلى كعب بن أسد القرظي رئيس بني قريظة وهم بقية اليهود في المدينة فقال له يحرضه على نقض عهد المسلمين: (ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وببحر طامٍ.
جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من روما، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنب نَقَمَي إلى جانب أُحُد؛ قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمد ومنْ معهُ). أهمّ المسلمين هؤلاء الأعداء، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق يصد الجيوش عن المدينة.
فخطّ رسول الله ﷺ في موضع المخافة من المدينة.
وذلكم شماليها حيث يطمع العدو في دخولها.
وأما الجوانب الأخرى فكانت ممتنعة على الغُزاة بجبالها ونخيلها.
خط الرسول الخندق من أُجُم الشيخين إلى المذاد وقطّعه بين الصحابة أربعين ذراعاً لكل عشرة رجال.
وجدّ المسلمون ليفرغوا من الخندق قبل أن يداهمهم العدو.
والرسول يشرف عليهم ويشاركهم أحياناً في عملهم وارتجازهم. - 2 - وبينما عشرة من الصحب يحفرون قسمهم من الخندق لقّوا صخرة قاسية أثرت في معاوله ولم تؤثر فيها المعاول.
وكرهوا أن يعدلوا عنها فيحيدوا عن ما خطّه الرسول لهم.
فقالوا لسلمان الفارسي أحد هؤلاء العشرة أصعد فأنظر ماذا يأمر رسول الله.
فرقي سلمان فقال: (يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا.
خرجت صخرة بيضاء من الخندق مَروْة فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما نُحيك فيها قليلاً أو كثيراً.
فمُرنا فيها بأمرك فأنا لا نحب أن نجاوز خطك). قال راوي القصة عمرو بن عوف الُمزَنيّ: فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق.
ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق.
فأخذ رسول الله المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى كأن مصباحاً في جوف ليل مظلم.
فكبّر رسول الله تكبير فتح.
وكبّر المسلمون.
ثم ضربها رسول الله الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبّر رسول لله تكبير فتح وكبّر لمسلمون.
ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم.
فكبّر رسول الله وكبّر المسلمون.
ثم أخذ بيده سلمان فرقى.
فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط.
فألتفت رسول الله إلى القوم، فقال هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله - بأبينا أنت وأمنا - قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبّر فنكبّر.
ولا نرى شيئاً غير ذلك. قال رسول الله: أما الأولى فقد أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى أسرى لثانية أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم؛ والثالثة أضاءت لي منها قصور صنعاء.
وأبشروا يبلغهم النصر.
وأبشروا يبلغهم النصر.
وأبشروا يبلغهم النصر). - 3 - إن هذا الشيء عجاب: جماعة قليلة لم تستطع الدفع بأيديها وأسلحتها فاعتصمت بالخندق تتقى به عدوّاً أكثر عدداً وأعظم عُدّة؛ جماعة قليلة جاهدة يدهمها عدو حاقد محنق قد صمم على يستأصلها.
وليس لهذه الجماعة ردء على الأرض ولا مدد.
وهي تكدح لحفر الخندق وتكلّ أيديها فينزل قائدها يعينها ويواسيها، على حين أحاط بها الخوف (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الخناجر وتظنون بالله الظنونا). وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب! ما أعظمها دعوى، وما أعجبها أمنية! كذلك قال الذين رأوا عدداً قليلاً من الناس يحفر أرضاً ليتقى عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معان كثيرة.
قالوا: (ألا تعجبون! يحدثكم ويُمنيّكم، ويعدكم الباطل.
يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرُزوا). (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً). أجل من يرى هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها، عن التحدث بالفتح فتح المشرق والمغرب.
إنها لإحدى الكُبَر. - 4 - لا لا.
لم تكن في المدينة جماعة قليلة ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع لشر، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقابل الخورَ، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدّى الشك.
كانت معان تقاتل معاني.
وما ضّر المعنى الظافر في سنة الله قلةُ أنصاره على الأرض؛ ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرةُ سواده في الناس. وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشاً وغطفان ويهود وحدهم بل كانوا يحادّون الأمم كلها.
لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها.
لقد كان هذا الخندق فاصلاً بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقاً وليداً، وتاريخاً جديداً، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيروا في مواكب للجهالة والإثم والعدوان والظلم، ويحوطون أوثاناً من الحجر أو أصناماً من البشر. وما كان العرب إلا العدوّ الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها فائتمر بها وعزم ليأخذنّ عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقنّ جمعها، ويبدّدن نظامها، ويبطلنّ دعوتها. وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب، حرباً على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها، وما كان المشركون في حرب المسلمين إلا طلائع جيش للباطل جنوده أهل الأرض قاطبة.
كذلكم كان هذا الخندق المحفور بين المسلمين وأعدائهم حدّاً بين عصر وعصر، وفاصلاً بين تاريخ وتاريخ. ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود، وهم طلائع جيوش الأرض كلها، ولم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معان، أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة.
دع العدد القيل، والعدد الكثير، وأنظر هذه المعاني تتقاتل، تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك.
فانظر لأي هؤلاء العاقبة! وهل كان المعول في يدّ رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقيات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم، إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدفع ما يصده.
كانت هذه الضربات رموزاً لما وراءها من جهاد وجلاد، وكان هذا الضوء بياناً لما يتصل به من هدى، وكانت يمين الرسول العزمُ المصمم، وكان كلُّ خير وحق وفضيلة في النفس التي تبطش بهذه اليد. كانت هذه المعاني كالشرارة الصغيرة تؤجج ما شاء الله من نار ونور، والآحاد في الأعداد تستوعب كلُّ ما يدركه العدّ، وكالفكرة الأولى تفتح للعقل طريقاً مديداً ومذهباً جديداً.
وكحروف الهجاء تنتظم لغات العالم، وكقرص الشمس يغمر العالمِين نوراً. - 5 - كذلك سخر الذين سمعوا قصة محمد ومعوله، وعرفوا حديث القائد المحصور يبشر بفتح العالم! ولكن كثيراً من هؤلاء الساخرين عاشوا حتى سمعوا صدى هذه الضربات في اليرموك والقادسية وما تلاهما شرقاً وغرباً، وأبصروا برقها يصعق يزدجرد وهرقل وجنودهما، وكل جند للباطل على ظهر الأرض. ورأوا المعاني التي مثلتها هذه الضربات وقد ثارت بالباطل غير رفيقة، وزلزلت الظلم غير مشفقة، وانتشرت في المشرق والمغرب كالسحاب مجلجلاً مضيئاً صاعقاً ممطراً منبتاً. عاش الساخرون عشر سنين فرأوا جزيرة العرب تدين لصاحب المعول، ورأوا فارس والروم تخرّ لضرباته، والمشرق والمغرب يستضئ بهذه البرقيات.
وعلموا يقيناً أن محمداً صدقهم حينما وعدهم فتح العالم وهو قائم في الخندق يحطم بمعوله الصخرة التي أعيت أصحابه. عبد الوهاب عزام

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢