أرشيف المقالات

من أدب الرومان:

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 مذهب الصداقة عند شيشرون للأستاذ منصور جاب الله في أعقاب غزو قيصر لبريطانيا، ضرب الدهر رجلا من أنبل رجالات روما في ابنته الواحدة، فعقد الحزن سحابة في بيته، وجاشت أفكار الرجل محلقة في سماء تسمو على هذه الأرض المليئة بالرزايا المشحونة بكل ما هو موجع أليم. ذلكم هو شيشرون خطيب روما الأعظم الذي مات في نهايات عام 43 قبل الميلاد، وكانت حياته حجة للعالمين على إدراك جمال الصداقة وما توحي به من السعادة الدنيوية، فلقد كتب شيشرون أجمل وأوقع وأبلغ ما كتب عن الصداقة على وجه الزمان، وإذ قضت ابنته كانت سنة تتّزّيد على الستين وكان قد شهد جميع المنافسات والمنازعات السياسية، وتذوق لذاذات الحياة جميعاً. وكان يعرف قيمة المال والثراء والصيت الذائع ولكنه لم يجعل لها الكفة الراجحة في ميزانه، وكانت الفلسفة التي استمدها من تجاريب حياته إبان المحنة تحتبس في هذه العبارة: (ضع الصداقة فوق كل الاعتبارات الإنسانية). وعلى هذه الفقرة تفرعت كل كتاباته، فوصف فضائل الصداقة ومنافعها وحاجة كل إنسان إليها، والأسباب المؤدية إلى فقدانها.
ولقن ذلك الأديب الروماني (جايوس ليليوس). ولكن ليس من ريب في أن الفلسفة النبيلة الأصلية عن الصداقة إنما من بنات أفكار شيشرون يتساءل شيشرون عمن يمكن أن يكونوا صدقاناً وأخلاء.
ثم يجيب بأن الصداقة تكون بين الطيبين الأبرار.
فإذا أنت استطعت أن تقنع نفسك بأن لك صديقاً، فأنت قد تحسب نفسك رجلا طيباً أو امرأة طيبة، وليست الصداقة لهؤلاء الذين ليسوا (طيبين) ولكن من هم الطيبون البررة؟ هنالك مقياس اجتماعي يقيس به شيشرون مقدار (الطيبة) إذ يقول (هؤلاء الذين يع ويعيشون ليعطوا برهان الإخلاص والاستقامة والصفاء والكرم، هم الذين يتحررون من كل الأهواء والمواجد والسفَّة، وإن لهم قوة خلقية عظيمة). ثم كتب عن اصطناع الصاحب، والأمور التي يخُتبر بها الصديق، والجمال الذي يستحسن في الصداقة والأمور التي لا بد من عملها لاصطناع الأصدقاء، فذهب بادئ الرأي إلى أن الصديق هو الفرد الذي لا يحتجن الإنسان من دونه سراً من الأسرار، ويضع فيه أسباب الثقة، ويرى ألا يخشى الصديق من الإفضاء لصديقه ببعض الذي يطويه بين جوانحه من سر مكبوت قد يكون كتمانه مما يؤدي ويضر. كيف يتسنى أن تكون حياة تلك التي يقول عنها (أنيوس) (الحياة تستحق العيش) إذا لم تعتمد على إرادة طيبة متبادلة مع صديق؟ ماذا يكون أحلى من أن يكون لديك امرؤ تجسر على مناجاته فيما ترور به نفسك، كما تناجي نفسك؟). ثم يستطرد إلى القول بأن الصديق هو الشخص الذي لا تتملقه مطلقاً. (في الصداقة، ما لم تظهر قلباً خالصاً لا تستطيع أن تكون مخلصاً ولا راضياً بالحب ولا بالمحبوب، والتملق الذي أتحدث عنه إنما هو كفاح، وقد لا يقوى على النيل من أحد سوى الذي يتقبله ويغتبط به.
وعلى ذلك لا توجد صداقة فيها جانب لا يروم سماع الصدق، وجانب مستعد للكذب). والصديق هو الإنسان الذي يتمثل فيه الإنسان الشفقة الرحمة ويتبادلهما وإياه، ويحنو القلب على القلب، وتمتزج النفس بالنفس، فتنطاد بالقداسة إلى علو السماك، فيرى شيشرون في هذا التبادل العاطفي حجر الزاوية في الصداقة وقاعدتها وركازها (ولم يزل الحب أبعد قوة بالتعاطف وبالبرهان على عناية الآخرين بتا، وبالألف الشديد نتوثب للحب، وتتألق المعجزة). والصديق هو الشخص الذي نحب سواء استطعنا الحصول عليه أو عجزنا دونه.
يقول شيشرون (نحن نعتقد أن الصداقة مرغوبة لا لأننا متأثرون بالأمل في الريح؛ ولكن لأن ربحها الكامل في الحب ذاته.
والحب ليس شيئا آخر سوى الاحترام العظيم وشعور الميل الذي ألهم هذه العاطفة، وليس ببحث عنها لأنها حاجة مادية أو بمقصد الكسب المادي. وأكثر الناس لا يعترفون بشيء مهما يكن أثره في التجربة الإنسانية ما لم يؤد إلى بعض الكسب، وينظرون إلى أصدقائهم كما لو كانوا ينظرون إلى قطيعهم - أو إلى مصالحهم كما يبغي أن نقول - وهكذا يخفقون في الحصول على أجمل شئ: تلك الصداقة الذاتية المرغوبة في نفسها ولنفسها). والصديق هو المرء الذي تسر لنجاحه سروراً حقيقياً. (كيف يمكن أن يكون سرورك في أويقات النجاح عظيما إذا لم يكن لديك من يكون حبوره عَدْل حبورك؟ والرزية لا بد أن تكون صعبة الاحتمال، فبغير الصديق تنوء بالثقل.
فالصداقة تضفي بها لماعاً على النجاح، وتختزل من وقع البلية بالمشاطرة فيها) والصديق هو الشخص الذي تعامله معاملة الندَّ في كل الأحوال ولو كنت تختلف عنه في نظر الناس. (وأكبر شئ في الصداقة أن الأعلى درجة والأحط درجة لا بد أن يقفا موقف المساواة.

ولذا فإن الأخير لا يحزن إذ يفوقه الأول ويبرعه في الذكاء أو الثراء أو في المنصب، ولزام عليك أن تبذل إلى صديقك ما قدرت عليه من المعونة. والصديق هو الشخص الذي لا نشعر من نحوه مطلقاً بشبهة، ولا نشعر من نحوه باستخفاف. (التباين والاستخفاف هما تجربتا الصداقة، وهما ينتجان كثيراً من أسباب الشدة أو الإهانة التي يكون من بعد النظر في بعض الأحيان تجاهلها، وفي بعض الأحيان شرح أسبابها، ثم احتمالها في كثير من الأوقات (هناك أناس يصَّيرون الصداقة كريهة بحسبانهم أنفسهم مستهترين، وندر ما يحدث هذا - فيما خلا حالة الناس الذين يستأهلون الاستخفاف حقيقة - بيد أنه ينبغي لهم أن يتخلصوا من هذه الأفكار ليس بالكلام وحسب وإنما بالعمل. (من سجايا الإنسان الطيب الذي يجب أن أسميه أيضاً الإنسان العاقل، أن يتمسك بهاتين القاعدتين في الصداقة.
الأولى: ألا يدع هناك ادعاء أو نفاقاً، والثانية: ألا ينبذ الوشايات التي يفضي بها شخص آخر فحسب، وإنما يجانب هو أيضاً الشبهة والاعتقاد بأن صديقه يجترح خطيئة ما. (لذلك ينبغي أن تضفي بشاشة أكيدة من الكلام والأخلاق التي تعطي للصداقة نكهة مستساغة) ولزام أن نعمل عملا شاقاً لخلق الأصدقاء والحفاظ عليهم كما يعمل عملا شاقاً في أشغالنا. ولقد اعتاد (شبيبيو) أن ينهي شكواه بقوله إننا نألم لكل شئ إلا للصداقة.
وإن كل واحد يستطيع الإخبار بما عنده من الغنم والمعز، ولكنه غير مستطيع الإخبار بعدد أصدقائه، وذلك لأن الناس يلاقون المشاق في الحصول على الأوليين، ولكنهم لا يبالون باختبار الآخرين) غير أنه قبل أن تعاهد صديقك يجب أن تكون حريصاً عليه (تستطيع أن تحب صاحبك بعد ما تمدحه، ولكن لا تثن عليه بعد أن تبدأ في حبه) ثم ماذا يقول عن أصدقاء المدرسة عهد الطلب والتلمذة؟ والقاعدة في الصداقة أنها تكون بعد استقرار القوة وثباتها في السن والعقل، حتى الرجال الذين كانوا يكرسون حياتهم للصيد واللعب لا يحتفظون بأخلائهم في ذلك الطور إلا لأنهم مغرمون باللعب معهم) وهب أن الرجل الذي تصاحبه يبدو في طور لا تستطيع معه أن تعايشه طويلا. (روابط مثل هذه الصداقة لا بد أن تحل بارتخاء تدريجي في التوادٌ - والانحلال أولى من التمزق.
ولزام أن تتخذ الحيطة لئلا يظهر أن الصداقة لا تطرح جانباً فحسب، وإنما تنمو مكانها العداوة الصريحة، ذلك لأنه ليس شئ أشد خزياً من أن تكون في حرب مع الشخص الذي قضيت معه مرة أويقات ود وصفاء) ومع كل أخطار الاختيار الأرعن كانت نصيحة شيشرون (داوم على اصطناع أصدقاء جدد) ويتساءل: (هل الأصدقاء الجدد الذين يستحقون الصداقة يكونون مفضلين في أي الأوقات على الصدقان القدامى؟) وهنا يشٌبه الصديق القديم بالخمر المعتقة التي تحسن مع الزمن، (والصداقة القديمة لا بد أن تكون أعظم إسعاداً، على أن الصداقة الحديثة لا تحتقر إذا هي أبدت الأمل في طلع نصيج، كالعساليج الخضر التي لا تخفق في إظهارنا على أوان الحصاد) أما هؤلاء الذين يظنون أنهم يستطيعون العمل بغير صداقة أو مودة، أو يقدرون على المسير على طول الطريق اعتماداً على مجرد المعرفة فيقول لهم شيشرون: (إذا كان واضحاً في بعض أنواع الحيوان أنها تتوق للبحث عن حيوان آخر من فصائلها - وهذا الذي تفعله في حنين يحاكي إلى درجة ما الحب الإنساني - فكيف يكون مقدار ذلك من حب الإنسان الذي يحب نفسه ويستعمل أسبابه في البحث عن شخص آخر تتمازج روحه بروحه لتكون روحاً من روحين) تلك هي فلسفة الصداقة عند شيشرون العظيم، ويالها من فلسفة قمينة بالاعتبار في هذا الزمان الذي هوت فيه الماديات بالمثل العليا حتى ما كادت تبقى على شئ. في متحف اللوفر (لوحة الصداقة) وهي إحدى روائع الفن القديم، ترى فيها (روُث) تعتنق حماتها (ناعومي) وتأبى فراقها إذ قضت بذلك الأقدار، ثم تناجيها بصوت حنان خفيت، حلو النبرات رقيق: (تالله لا أفارقنك ولا أعودنٌ بعدك، فحيثما تذهبي أذهب، وحيثما تسكني أسكن، فأهلك سيكونون أهلي وإلهك سوف يكون إلهي.
) وتلك صورة مؤثرة تثير الشئون، وهي خير تعقيب على مذاهب الصداقة عند شيشرون العظيم. (الرمل) منصور جاب الله

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢