أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
8 أسطورة من الأدب الروسي: السلطان وولده.
للكاتب الروسي مكسيم جوركي للأستاذ مصطفى جميل مرسي (يعد مكسيم جوركي - شبح الأدب الروسي - قطباً من أقطاب الثورة البلشقية الذين مهدوا بما كانوا يسطرون لقيامها أمثال تولستوي والأمير كورباتكين ولد جوركي في سنة 1868، ونشأ فقيراً يعاني شظف العيش وذاق مرارة الحياة بين تلك الطبقة السفلى من المجتمع.
فكان لذلك أثر جلي في طبع أدبه بطابع البؤس والشقاء.
وفي هذا يصل مكسيم إلى ذروة فنه، وقد لبث جوركي يقود الحركة الأدبية في روسيا إلى أن وافته منيته سنة 1930 بعد أن أخرج عدة كتب تعد من روائع الأدب الروسي؛ منها، (الأعماق السفلي) وكتب (ذكريات الشباب). وفي هذه القصة التي نقدمها اليوم إلى قراء (الرسالة) نهج جوركي لهجاً جديداً ولكنه رائع ممتع.

نهجاً يتجلى فيه خيال جوركي الخصب، وأفكاره البديعة، ومعانيه الجليلة وأساليبه الرائقة. وسيلمس القارئ الكريم ذلك بيننا في هذه القصة) م.
جميل اعتمد (التتاري) الأعمى إلى جدع الشجرة من أشجار التوت، وراح يقص واحدة من تلك الأساطير التي سطرتها الذكريات في عقله عن شبه الجزيرة القوم.

والتف حوله حشد من (التتار) في بردهم الموشاة المفوفة، ومطارفهم الزاهية المخلبة.

وقرت فوق رؤوسهم قلانس مطرزة بالذهب.
وقد جلسوا على أحجار دارسة، وأطلال بالية، كانت حيناً قائمة في جدران قصر فاخر لسلطان من السلاطين القدماء. كانت الشمس تنحدر نحو مستقرها في البحر، فتبعث أشعتها الجاهدة الكليلة وقد راحت تخترق ستور الظلام.

وتبعث بحلكته، وتميس بين أوراق الطحلب فتخلع عليها روعة وبهاء، وتسيطر على الأطلال فتبعث فيها شيئاً من الرهبة والوراء.
وبرحت الريح رخاء تداعب غصون الأشجار، وتصاول الأوراق فيسمع لها حفيف وزفيف.

وكأن صوت الرجل ينبعث واهناً فيه بعض من الاختلاج والاضطراب؛ أما وجهه فكالصخر جامد لا ينم تجعده على شيء سوى الراحة والهدوء.
وانسابت الألفاظ من لسانه حيناً، ومن قلبه أحياناً تعيد لسامعيه صورة جلية للأيام الخالية العامرة بالهناء. ولم يلبث أن قال في صوت جليل، وجرس ندى: (زعموا انه عاش في شبه الجزيرة القزم سلطان يقال له.

(مسيلمة الأسراب) وكان له ولد يدعى (توليق الجلي). كان هذا السلطان كهلا، يبد أن قصره ضم كثيراً من النساء اللواتي عشقن السلطان الكهل.

فما زال جسده يمور قوة ونشاطاً، ولا زالت نفسه تمور مرحاً وشباباً.

وما برحت النساء يعشقن ذا القوة والبأس.! إذ يقال أن الجمال يكمن في ثنايا القوة.

لا تحت الأظافر الناعمة والوجنات الأسيلة المخضبة.
كن جميعاً يعشقن السلطان، ولكن السلطان ينصرف عنهن إلى ظبية سباها في حرب له مع (القوزاق) عند مروج النهر (الدنيبر).

وكان يخص هذه الفتاة بجل حبه وعطفه وحنانه وينفر عن نسائه وجواريه وقد نيفن على الثلثمائة من كل فج وبلد.
نسوة منهن العذراء والخود والبضة، والعطبول والغيداء والغانية والرقراقة إلى غير ذلك.

كانت كل منهن على جمال رائع كالزهور، وقد تفتحت أكمامها في صبيحة يوم اضحيان من أيام الربيع.
لم يبخل السلطان عليهن بمال.

بل كان ينفق عليهن بسعة ويجلب لهن ما يوددن.

أتى لهن بالخمر الفاخرة.

وبما لذ وطاب من طعام وشراب.
وكان يأذن لهن بالرقص واللهو كما يحلو لهن.
ولكن إيثاره للفتاة القوزاقية بحبه كان ينغص عيشهن بعض التنغيص.
كثيراً ما كان يدعو الفتاة القوزاقية إلى جناحه حيث يشرف على البحر المسيطر إلى الأفق.

حيث أعد لها كل ما تطمح إليه نفس امرأة ويهفو نحوه فؤادها كي نلحقها السعادة في الحياة.

الحلوة والفاكهة والشفوف والغلائل.

والقلائد من ذهب، والأقراط من شذور، والوشائح من زمرد.

وثمت الطيور المعتدلة بأغاريد عذبة.
هذا غير ما ميز به السلطان من لطف المعشر ودماثة وفتنته.

في هذا الفردوس يقيم السلطان أياماً وليالي يمتع نفسه بهذا النعيم ويتذوق الراحة والسعادة وهي تسعى إليه بعد العناء الذي يلقاه من أعباء الحكم.

يقضي أيامه وقلبه آمن على ولده.

وقدرته في أن ينهض بعظمة السلطان إبان غيبته.

فهو يعلم كيف ينسل ولده إلى مروج الروس كالذئب فيغزوها ويغير عليها.

ثم يعود والنصر يعقد لواءه على رأسه.

فيكللها بآيات المجد والفخار.

يعود مثقلا بالغنائم والأسلاب.

والسبايا الفاتنة.

يعود بعد أن يخلف الذعر والاضطراب.

وفلول الأعداء ملوثة بالدماء والهزيمة.

وحدث مرة أن عاد (توليق) من إحدى غزواته للروس فائزاً مضفراً.

فأقام حفلا دعا إليه الأمراء وعظماء الدولة ابتهاجاً بالنصر المبين.

وعقدت المباريات ومدت موائد الطعام.

وراح القوم يقذفون نبالهم على أعين الأسرى ليعرف من هم أشد الجمع ساعداً؛ وأصوب رمياً.

وعادوا إلى الشراب ينهالون حتى أترعوا وهو بين ذاك وذاك يمجدون هذا الفوز والنصر الذي أحرزه بطلهم العظيم (توليق الجلي).

ويشيدون بالخوف والهلع وقد خلفهما يفخران في عظام أعدائه أما السلطان فكان سروره بفوز ولده لا يعادله سرور.

وكان يعتقد أنه إذا ما انتقل إلى السماء سيستوي على العرش من بعده سلطان قوي مرهوب الجانب.
رغب أن يبدى لولده مبلغ حبه وإخلاصه له - على مرأى من شعبه ورعيته فهم والقدح في يده وقال: (بني العزيز (توليق).

فتح من الله ونصر مبين.

والنصر آية من آيات رسوله ونبيه.
) فارتفع صوت الحشد يترنم بأنشودة حماسية تمجد نصر النبي؛ ثم عاد سلطان فقال: (إن الله عظيم خبير.

لقد جدد قوته ومضائي في ولدي الأروع.

إني لأبصر بعيني الغائرتين عندما يغيب شعاع الشمس عنهما إلى الأبد، وعندما يدب الفناء إلى قلبي النابض وأقضي نحبي.

أني سأحيا ثانية في نفس أخرى.

في نفس ولدي.

فسبحانك اللهم أنت الإله الأوحد الجبار.

لقد رزقتني ولداً عظيما صلبا الساعد، ثابت الجأش رزين العقل.

فاللهم إني اشهد بوحدانيتك وقدرتك، وأشهد أن محمد رسولك ونبيك. أبني توليق.

ماذا تبغي أن تقدم لك يد أبيك؟.
اذكر ما تود، وسأمنحك إياه.) وخفت صوت السلطان رويداً حينما أخذ (توليق الجلي) يتأهب لإعلان رغبته، وقد تألقت عيناه تألق الحر في ضوء القمر.

عيناه اللتان كأنهما عينا النسر وهو يحوم بقلة الجبل.

قال أخيراً: - مولاي وأبت.

امنحني الفتاة القوزاقية.
) وصمت الوالد ليهدئ من روعه، ويسكن من نفسه المضطربة وفؤاده الجياش.

وبعد برهة رفع صوته ثابتاً لا ينم عما يعتمل بنفسه: (.

خذها.

عندما يختتم الحفل). شملت البهجة والمراح قلب (الجلي).

وتألقت عيناه النسريتان بدموع الفرح.

وقال لوالده السلطان في حب وبر: - أي والدي ومولاي.

إني لأقدر مبلغ هديتك إياي.

إني لأقدره حق قدره.

إني ابنك بل قل عبدك المخلص لك.

خذ دمي.

قطرة في كل لحظة.

سأموت أكثر من ميتة فداء لك.

يا أبت ويا مولاي.
) فقال السلطان وقد طأطأ رأسه إلى الأرض - رأسه الذي طالما كلله بالنصر بآياته سنوات متتاليات - (إني لأرغب عن كل شيء) آذنت الوليمة بالانتهاء، فهم السلطان وولده يسيران من القصر إلى دار الحريم.
وكانت السماء تغشيها السحب، فطوت القمر النجوم في حجب مغيبة دام السير طويلا في صمت وسكون.

وأخيراً قال السلطان (الأسراب): - ستفنى حياتي يوما بعد يوم، وسيخفت قلبي في خفقانه حيناً بعد حين.

وستخمد رويداً هذه الجذور المستعرة في جسدي.

جذوة الحياة.
لقد كان الضوء الذي يشع في حياتي، والدفء الذي يبعث لي بالحرارة هي تلك الفتاة (القوزاقية).

خبرني بني (توليق).

خبرني إن كنت حقاً في حاجة إليها.

خذ مائة من حريمي.

خذهن جميعاً.

بدلاً منها.
) صمت (توليق الجلي).

فعاد السلطان المتيم يقول: - لقد تقضت حياتي.

ولن ألبث طويلاً فوق أديم هذه الأرض.

فدعني أنعم بحب هذه الفتاة.

إنها تعشقني.

من ذا سيحبني بعد أن تنأى عني؟! يحبني.

أنا يا من دبت في جسدي الشيخوخة.

من؟ ليست واحدة منهم يا توليق.
) - ولكن (الجلي) لم ينبس ببنت شفة.
(بالله.

كيف يتردد لي نفس، وأنا أحسب أنك تعانقها.

وأنها تقبلك؟.

إذا كنا أمام المرأة يا توليق فلسنا والداً وولداً.

ليت جروحي - وقد تناثرت في جسدي - نكأت فسال دمي حاراً دافقاً منها.

فهذا خير وأفضل من عيشي حتى هذه الليلة.
) انتهى بهما المطاف عند باب الحريم، فوقفا - وقد طأطأ كل منهما رأسه إلى الأرض - وشاع الصمت بينهما، وشملهما الظلام.
وفي السماء راحت بعض السحب تطارد بعضها والريح تميل الأشجار عن يمين وعن شمال.

وكأنها تترنم لها.
قال (توليق) في صوت هادئ رزين (يا أبت.

لقد أحببتها) فقال السلطان (أعلم هذا.

كما أني أعلم أنها لا تحبك) - إن قلبي لينفطر حينما أفكر فيها.
- إني لأشد منك حباً لها.
وعاد الصمت يحلق فوقهما ويرين عليهما.

فقال (الجلي) في صوت فيه ألم، وفيه عزاء: - لقد أدركت الآن صدق الحكمة القائلة (المرأة خلقت لمتاعب الرجل) إن كانت حسناء راحت تغري الآخرين ليتملقوها فتوقظ في زوجها آلام الغيرة والحسرة.

وإن كانت قبيحة، فزوجها يعاني من قبحها ويعاني آلام الحسد ومرارة الحقد على غيره.

وإن لم تكن بالجميلة ولا بالقبيحة راحت تتدلل على زوجها وتجعله يعتقد انه لم يقم بواجبه نحوها، فهي إذاً مصدر شقاء الرجل وتعاسته في هذه الحياة.
) فقال السلطان: - ليست الحكمة دواء ناجعاً لشقاء القلب! يا بني - يا أبت.

يجب أن يشفق كل منا على الآخر فرفع السلطان رأسه، وراح يحدق في ولده.

فقال (توليق) - يا أبت.

دعنا.

دعنا.

نقتلها فشك السلطان غير طويل ثم قال في تمتمة هادئة: - إنك تحب ذاتك أكثر منها ومني؟! - أجل.

وأنت الآخر! فقال السلطان بعد هنيهة في صوت شاع فيه الألم، وشاع فيه الحزن حتى لكأنه ارتد صبياً - نعم، وأنا الآخر - سوف نقتلها يا أبت - لن ادعك تأخذها لنفسك.

لن أدعك - لا اقدر على مجالدة هذا طويلاً.

إما أن تمزق قلبي أو تتركها لي.
فلم يقل السلطان شيئاً.

(أودعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى.
) فراح السلطان يردد هذه العبارة، وكأنه رجع الصوت الذي أطلقه ولده.

وهو يهز رأسه في شرود وألم - دعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى.
دخلا الحريم، واتخذا وجهتيهما حيث مرقدها في فراش وثير وثمين.

فوقفا ساهمين ينظران.

وفي قلب كل منهما لهفة شوق.

وألم وانحدرت من مقلتي العجوز دمعات فسالت على وجنتيه.

ثم تألقت على لحيته - وقد حاكت الفضة في لون شعرها - أما ولده فقد قام بعينين لامعتين.

يصر على أسنانه ليخفى ذلك الهوى الذي يضطرب بين جوائحه.

وقد راح يوقظ الفتاة (القوزاقية).
أفاقت من نعاسها، تفتحت عيناها على وجنتيها الورديتين فكأنهما زهرتان من أزهار الأقحوان.
لم تبصر (التوليق) ولكنها مدت شفتيها الأرجوانيتين إلى السلطان - قبلني، يا نسري العزيز.
فقال السلطان في رقة: - انهضي.

ينبغي أن تأتي معنا.
ووقع طرفها على (الجلي)، والدمع يتألق محبوساً في عينيه.

فما أسرع ما أدركت، وفهمت كل شيء.

وقالت: - هه.

سآتي.

سآتي.

ليس لواحد منكما.

أليس هذا مبتغاكما؟ وما قر عليه أمركما.

للقلوب القاسية أن تقرر وعلى النفوس الضعيفة الواهنة أن تطيع.

سآتي معكما.
وأنطلق ثلاثتهم شطر البحر في صمت وسكون.

سلكوا في سبيلهم مسالك ضيقة، والريح لها صوت كعواء لبن آوى.
كانت الفتاة نحيلة الجسد، هيفاء القد.

فما أسرع ما أدركها الوهن والعناء؛ ولكن كانت تعاني هذا في صمت، ولا يند عنها ما ينم عليه.

وإذا لمح ابن السلطان ما اعتراها - وكان يسير إثرهما - أسر لها (أأنت خائفة؟!) فلمعت عيناها، وأشارت إلى قدميها الداميتين.

فقال وهو يمد ذراعيه إليها (دعيني أحملك!) بيد أنها نفرت منه إلى عنق نسرها العجوز.

فرفعها السلطان كالريشة حاملاً إياها.

بينما راحت تثني أغصان الأشجار وتزيحها من أمام وجهه وطال المسير.

وأخيراً طرق أسماعهم صوت البحر وهو يهدر ويزمجر على مبعدة منهم.

قال (توليق) موجهاً الحديث لأبيه (دعني أمض أمامك) وإلا حدثني نفسي الأمارة بالسوء أن أغمد خنجري في ظهرك) - أمض.

كما تشاء.

إن الله سيغفر خطيئتك هذه.

ويعفو عن إساءتك.

فقد غفرت لك وعفوت عنك، إني لأعرف ما هو الحب يا بني! وأخيراً أبصروا البحر يجثم تحتهم.

كانت صخرتهم سامقة والظلام يسربلها.

الظلام الذي ليس له حد ولا نهاية؛ وراحت الأمواج تهدر بألحان الموت وهو يسري بين الصخور.

وقد أخفاها الظلام يحفه القر والخوف. قال السلطان بعد أن طبع على ثغرة الفتاة قبلة حارة (وداعاً).
وقال (الجليّ) وهو يحني هامته لها (وداعاً.
). ألقت الفتاة بطرفها إلى ما تحتها حيث صخب الموج يردد ألحان الرهبة والجلال.

فضمت يديها إلى صدرها وقالت في هلع وفرَقَ (اقذفا بي.
) فمد (توليق) يديه إليها وهو يئن ويتأوه.

ولكن السلطان أخذها بين ساعديه وضمها إلى صدره وقبلها ثانية.

ثم رففهما فوق رأسه وألقى بها من الصخرة الشاهقة إلى واد سحيق.

وارتفعت ألحان الموج.

ألحان الموت.

أجل رهبة وأشد فزعاً.

ولم يسمع للفتاة صيحة وهي تلقى في الماء، أو تلقى حتفها على الصخور. وتهالك السلطان على نشز وراح يحملق في الظلام يحاول بطرفه يخترق سجف الليل.

سجف الغيب.

وما برحت الأمواج تلطم الصخور في جنون وهوج.

والريح تهب عاصفة في أعقاب موكب الموت.

تعبث بلحية السلطان العجوز. وجلس (توليق) جواره وقد دفن وجهه بين راحتيه، لا يتحرك ولا ينبس.

وكأنه الصخر.
وتقضي الوقت والسحب يطارد بعضها بعضاً في جو السماء.

شاعت الكآبة في ثنايا الظلام الرهيب المهيب، وكأنها تلك الأفكار التي راحت تطوف سوداء بخاطر ذلك العجوز.

وهو جاثم على هامة الصخرة السامقة، ومن تحته البحر يهدر في وادِ عميق.

قال (توليق): - (يا أبت.

دعنا نمض.
). فنبس السلطان همساً، وكأنه يتوجس نبأة تسري في الهواء: (مهلاً) وعاد الوقت يمضي، والأمواج تتلاطم في عبث وجنون من تحتها والريح تصفر بين الأشجار كعواء ابن آوى.

وعاد الابن يردد عبارته، فردد السلطان إجابته.

وكان هذا التردد مراراً.

كأن السلطان لا يبرح مكانه.

وقد قبر فيه بهجته ومراحه.

وأيامه الخوالي.
بيد أن لكل شيء نهاية، فلم يلبث السلطان أن قام نشيطاً، ولكن عابس الوجه، مقطب الجبين وقال في صوت شاع فيه الجفاء: - (هيا.

بنا!) وانطلقا.

ولكن لم يلبث السلطان أن وقف قائلاً: (لم أنطلق معك يا توليق.

وإلى أين؟! لم أعيش بعدها؟! لم أعيش بعد أن ذهبت بعيداً عني.

إني عجوز زلن يهوني أحد ثانية.

وإذا يهواك فليس ثمت خير في أن تعيش بهذا الكون!). - (إنك ذو مال! وذو مجد يا أبت!). - دعني ارتشف من ثغرها قبلة من قبلاتها نظير هذا المال).
هذا المجد.

يا بني.
إن الناس جميعاً أموات في هذه الحياة والحي منهم الذي يعشق النساء.

إن الحياة هباء بغير النساء، يا بني.

بارك الله فيك وفي ملكك.

في حياتك وفي مماتك). واتجه السلطان شطر البحر.

فصاح (توليق) في هلع (أبت.

أبت.
).
ولم ينطق بغير هذا.

لأنك لا تجد الكلمات تلفظها لرجل يلقى حتفه باسماً راضياً.

رجل آيس من حياته. - (دعني أرحل.
) فقال (توليق): (الله يا أبت.
) - (أن الله يعلم، وسيغفر لي) وبخطا سريعة مضى السلطان إلى نهاية الصخرة.

وألقى بنفسه إلى أحضان الوادي.

لم يسمع شيء فقد عصفت الريح إثر موكب الموت وهو يمضي في جلال.

وراحت الأمواج تدوم هديرها، وكأنها في عراك عنيف مع الصخور.
- وأخذ (توليق) ينظر ويطيل النظر إلى حيث الهوة السحيقة.

إلى حيث الموت تحت قدميه.

ثم ارتفع صوته جليلاً ورأسه إلى السماء: (يا إلهي.

أسألك أن تلهم قلبي الصبر والسلوان.

وأن تغفر لوالدي وتشمله برحمتك إنك غفور رحيم). ثم مضى عائداً إلى قصره والصمت يحف به.

حتى غيبه الليل في مطارفه.
). مصطفى جميل مرسي

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير