أرشيف المقالات

خواطر. . .

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كتب إلي بعضهم يستشيرني في العيد كيف يقضيه! حتى عن هذا يسأل بعضهم! وقد حرت كيف، وبماذا أجيب؟ ثم خرجت من المأزق الذي زج بي فيه سؤاله بكتاب وجيز، هذا بعض ما فيه: (والشروط في العيد أن يشتري لك سواك كسورة، فإذا لم يوفقك الله لهذا، أو كنت ممن يشترون ولا يشتري لهم، فلا عيد لك.
ويجب أن يكون مع الكسوة لعبة - أي لعبة - كرة ملونة مخططة، أو زمارة، أو حصان خشبي، أو ما شئت غير ذلك، على انك سألتني فأنا اختار لك (البارود) إذا كنت غلاماً، وإذا كنت لا تعرفه فاعلم انه (فتيل) ملفوف عليه ورق أحمر، وبعضه في سمك القلم، والبعض اسمك من ذلك جداً، والأول يَرصُّ في علبة، والثاني يستعمل فرادى لضخامته.
وإذا أشعلت النار في هذا أو ذاك، انطلق منه مثل أصوات البنادق والمدافع.
أما إذا كنت (بنتاً) فأنا أشير عليك بما يسمى (على لوز) وهو سكر يُحل ويُعقد، ويزين باللوز والبندق والفستق، وما إلى ذلك، وتحمله الفتاة في طبق - بعد أن يبرد لئلا أصابعها الناعمة - وتدور به على الصبيان تبيعهم منه، كل ملء ملعقة صغيرة بمليم، وهذا هو السعر القديم، وزيادته جائزة. (واحرص على أن تعطى في العيد بلا تقتير أو حساب، فتأخذ باليمين لتنفق بالشمال، وكلما فرغت يدك وذهب ما معك، عدوت إلى اهلك تطلب منهم أن يعطوك، وتبكي وتصيح وتدبدب برجليك - وبيديك أيضاً إذا شئت - وتتمرغ على البساط، أو على البلاط وهو افضل - إذا أبطئوا وتلكئوا في العطاء، أو بخلوا به.
فإذا ملئوا جيوبك قروشاً ذهبت إلى الأراجيح، وبعضها خيل تدور براكبيها حتى تدور رءوسهم، والبعض (دكك) أربع كل اثنتين منها متقابلتان، تدور كالساقية وأنت معها، فتسر أو تخاف، وتصرخ أو تغنى على هواك، والدكك دائرة كالأيام، صاعدة بك طوراً، وطوراً هابطة، لا تبالي - كالأيام أيضاً - أضحكت أم بكيت، وفرحت أم جزعت.
ومن الأراجيح أيضاً نوع لا أشير به عليك إذا كنت فتاة، فانه يعريك ويطير ثوبك عما تحته، وهو عبارة عن لوح مشدود من الجانبين إلى حبلين معلقين، يقف عليه الفتى ويمسك الفتى الحبلين بيديه، ويروح يدفع اللوح بقدميه، فيندفع من الخلف إلى الإمام، ومن الإمام إلى الخلف، فإذا كنت قويةً أو مدرباً، بلغ بك غلواً كبيراً. (وإذا لم يعجبك هذا الذي اقترح به فانه لا يبقى لك إلا أن تذهب إلى القبور فتزور موتاك، وتترحم عليهم وتستغفر لهم، والسلام). وقد ندمت بعد أن وضعت الكتاب في صندوق البريد، لأني خفت أن يصدر رأي، فيفعل ما أشير به! ومن الغريب أن هذا هو الرد الوحيد الذي بعثت به على ما جاءني من الرسائل في شهر كامل! صدق من قال: يُثاب المرء رغم انفه! ما اعجب غرور الإنسان! وما أحوج الإنسان إليه! لي صديق - وفي هذا مبالغة قليلة ولكنه لا ضير منها - ليس بينه وبين الغوريللا فرق، وقد اعتاد أن يتخذ مكانه كل يوم على مقهى يكثر مرور الناس - رجالاً ونساء - على رصيفه، وهو على طريقي في أغلب غدواتي وروحاتي.
ومن عجيب أمره انه شديد التألق في ملبسه، كأن من الممكن أن يحجب حسن الهندام قبح الوجه وسخافة القوام.
وكان أولى به في رأيي أن يتواري عن العيون في مقهى في زقاق ضيق إذا كان لابد من الجلوس في مقهى.
وقد سألته مرة وقد ألح على في مجالسته: لماذا تؤثر هذا المكان والضجة فيه عظيمة! قال (أتفرج على الناس) قلت (ويتفرجون عليك!) فلم يسؤه قولي بل ضحك وقال (لا بأس: يتفرجون وأتفرج) قلت (أواثق انك تحمد العاقبة!) قال (لا شك! انظر إلى هذا الفتاة التي ترشقني بنظرتها الحلوة) فأحنقني واستفزني هذا الغرور وقلت (لعلك تظن انك فتنتها بجمالك؟) فما انهزم والله، بل قال (وهل في هذا شك؟) فلم أطق صبرا على هذا الغرور فانصرفت عنه، وأني لأدرى أن بالإنسان حاجة إلى قدر من الغرور يعوذ ويعول عليه، ويستمد منه القدرة على احتمال حياته: ولكن هذا قد جار على نصيب جليه كله من الغرور. وقد تعجبت في مستهل هذه الكلمة لغرور الإنسان، وأنا اختمها بالتعجب من المرأة؛ فقد رأيت اجمل امرأة أخذتها عيني في حياتي: تتأبط ذراع هذا الغوريللا، ويثنى إليه محياها الصبيح وهو ينضج بشراً وابتهاجا، وفي عينيها وميض الحب، وقد خيل إلي، وأنا انظر إليهما كأنها تشتهى أن تأكله! وقد سلم على يومئذ بغير استخفاف، وبغير استخفاف كذلك.
ولم يتمهل إلا ريثما يهز يدي، ويسألني عن صحتي، كعادته كلما لقيني، ولم يستعجل أيضاً، ولم أرى على وجهه ولا في سلوكه ما يدل على انه مزهو بمصاحبة هذه الحسناء الفاتنة.
فكأن هذا أمر عادي جداً! فسبحان ربي القادر. وعلى ذكر التعجب أقول إن عجبي لا ينقضي من عجز الإنسان وجهله.
نعم استطاع أن يخترع اللاسلكي مثلا، فهو يرسل الموجة من جهاز فتمضى في الجو إلى أطراف المعمورة، ويلتقطها جهاز أخر فتستحيل كلاما وغناء وموسيقى.
وهذه الأجهزة المصنوعة من مواد يستخرجها الإنسان من الأرض التي يعيش عليها، وهو أيضاً مخلوق من طينها، وفي بطنه كل عناصر هذه الأرض، ومع ذلك لم يخطر له أن يحتال حتى يتخذ من بدنه جهازين للإرسال والتلقي، أو أن ينمي قدرته على ذلك، فأن الناس بالنظر إلى حد ما، فماذا يمنع أن يتسع نطاق التفاهم حتى يشمل كل شىء، فيستغني الإنسان عن أداة اللغة التي قل أن يحسنها والتي هي عنوان العجز والقصور؟ وأمر آخر: حطم الإنسان الذرة، وهي لا ترى لا بالعين ولا بالمجهر.
أطلق بتحطيمها قوة مهولة مفزعة، استخدمها أول ما استخدمها في التدمير، وسيستخدمها - إذا لم تقض عليه قبل ذلك - في التعمير.
وما من شك في أن في الإنسان طاقات محبوسة أو مستكنة أو راكدة لو أطلقت بحساب وقدر - حتى لا تعصف به - لبلغ من القوة والاقتدار درجة يعجز الخيال عن تصورها.
ولكنه لا يفعل، ولعل العلماء الذين حطموا الذرة لم يخطر لهم أن يعالجوا القيام بشيء من التحطيم في جسم الإنسان، وقد يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وقد يستغرق الاهتداء إلى وسيلة مأمونة إلى تحطيم ذرات الإنسان وإطلاق طاقاتها بقدر إلى قرن أو اكثر، ولكن ما قرن إذا قيس إلى هذه الغاية التي تقلب الإنسان مارداً جبارا؟ إبراهيم عبد القادر المازني

شارك الخبر

المرئيات-١