أرشيف المقالات

الشرق كما يراه الغرب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 2 - الموالد المصرية للأستاذ أحمد أبو زيد قلنا إن المولد في أصله احتفال ديني بعيد أحد الأولياء.

ولا تزال الموالد حتى الآن - على الرغم مما طرأ عليها من التغير وما داخلها من عناصر اللهو - تحتفظ بالكثير من الملامح الدينية التي تتمثل على الخصوص في شدة إقبال الناس على ضريح الولي صاحب الاحتفال للتبرك به والطواف حوله واتخاذ ذلك وسيلة للتزلف والتقرب إلى الله.

ومن الناس من ينتبذ من المسجد جانبا يخلو فيه لنفسه، يرتل القرآن، أو يتوجه بالدعاء إلى الله؛ ومنهم من يشترك بحلقات الذكر التي تقام كل ليلة من ليالي المولد في المسجد؛ ومنهم من يتخذ الإحسان وسيلته إلى الله.
والموالد سوق رائجة للإحسان يدلى فيها كل محسن محب للخير بدلوه حسب قدرته وطاقته؛ فأغنياء الحي الذي يقع فيه ضريح الولي ينحرون الذبائح ويولمون الولائم ويوزعون الطعام والملابس والصدقات على الفقراء والمعوزين - وما أكثرهم في مصر!.
.
ومن هم دون ذلك قدرة وثراء من أوساط الناس يسلكون سبلا غريبة للإحسان؛ فبعضهم يشتري قربة ماء ليسقي الناس، أو يشتري (دورقا) من التمر الهندي أو العرقسوس، أو (الدندرمة) يوزعها عليهم، وهم يبتغون من ذلك رضا الولي ومرضاة الله. ومن الطرق الغريبة التي يلجأ إليها الناس في مصر للاحتفال بالموالد أن الحلاقين - مثلا - يتبرعون بإجراء عملية الختان لأطفال الحي الفقراء بالمجان أو بأجر زهيد جدا لا يتجاوز بضعة قروش.
ويعلق كل (حلاق) من هؤلاء لوحة كبيرة على واجهة حانوته كتب عليها (الطهارة للفقراء مجانا)، والى جانبها يعلق صورة تمثله وهو يختن أحد الأطفال، ويزين الحلاقون لهذه المناسبة حوانيتهم بالمصابيح الكهربائية الملونة والأعلام الزاهية لكي يجذبوا إليهم أنظار الناس.
ويذهب بعض الحلاقين إلى أبعد من ذلك، إذ يعدون لأنفسهم حوانيت متنقلة ينتقلون بها من مولد لآخر، بل ومن بلدة لأخرى، لكل من يتقدم من الفقراء. ومن الظاهرات الشعبية ذات اللون الدينية الخطابة الدينية في الشوارع.
فكثيرا ما يقوم بعض المشايخ من رجال الدين، أو حتى بعض المتحمسين من عامة الشعب فيخطبون الناس على قارعة الطريق، يحثونهم على الفضيلة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.
وهم في ذلك يصدرون عن قوة إيمانهم وشدة غيرتهم على الدين.
ومن هنا كانت خطبهم تأتي في أغلب الأحيان قوية حارة عنيفة صادرة عن القلب وتجد طريقها إلى قلوب السامعين في غير مشقة ولا عسر.
ويخص ما كفرسون بالذكر شيخا أعمى يدعى الحاج حسين له مقدرة خطابية فائقة وقدرة عظيمة على اجتذاب الناس إليه.
ويذكر ماكفرسون إنه شاهده مرة في مولد السلطان الحنفي يخطب الناس والمطر ينصب من فوقهم أنصبابا، والشيخ مع ذلك ماض في خطابته لا يتريث ولا يتوقف، والناس منصتون إليه لا يفكرون في الانفضاض من حوله. ومن هذه الظاهرات أيضاً إقبال الناس على اقتناء الأحجية والطلاسم والرقي ابتغاء التبرك ودفع الشر والأذى.
والدراويش هم الذين يقومون بكتابة هذه الأحجية لمن يطلبها من أفراد الناس.
ويشهد ماكفرسون بأن الدراويش يقومون بذلك العمل رغبة منهم في فعل الخير فحسب؛ فهم لا يتخذون من غفلة الناس وسذاجتهم وسيلة لجمع المال، إذ أن كثيرين منهم يرفضون أن يأخذوا أجرا على ما يكتبون، والبعض الآخر لا يتناولون إلا أجرا قليلا تافها؛ ومنهم من يقنع بكتابة عدد معين من الأحجية لا يتعداه بأي حال ومهما اشتد عليه الإقبال. ولكن كل هذه الظاهرات، على جلال معناها الديني - ليست هي الظاهرة المميزة للموالد؛ إنما الظاهرة الأساسية التي تمتاز بها الموالد هي سلسلة الحفلات الدينية التي يقوم بها كل ليلة من ليالي المولد جماعة الصوفية والدراويش.
وهذه الحفلات يشرف عليها أحد مشايخ الطرق؛ ويكون في الغالب من نسل الولي نفسه.
وقد يكون أحد تلاميذه الروحيين؛ فإن تعذر ذلك عهدت الحكومة بهذه المهمة إلى أحد كبار العلماء. ونظام الدراويش نظام قديم من نظم الصوفية كان موجودا في أيام أبي بكر صهر الرسول (ص)؛ فهو بعيد كل البعد عما يلحقه الناس إليه من ضروب الشعوذة وفنون الدجل.
ونظام الدراويش نظام متماسك له تعاليم متوارثة؛ لأن الدرويش لا يصبح درويشا حتى يمر بمراحل معينة؛ فهو يكون في الأصل طالب ثم يرتقي إلى درجة أعلى فيصبح مريدا يتلقى العلم الروحي على يد مرشد يلقنه الأوراد والأذكار حتى يحصلها جميعا فيسلمه (سندا بسلسلة) والسند عند الصوفية بمثابة شهادة تشهد بأن السلسلة (وهي رمز التسلسل الروحي الذي يربطالدراويش بمؤسس الطريقة ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام) وحدة لا تنقطع - ولكن مع أن نظام الدراويش يرجع إلى أيام الإسلام الأولى، فإن تنظيمهم ذلك التنظيم الرائع الذي ظلت عليه طول هذه القرون، يرجع الفضل فيه إلى سيدي عبد القادر الكيلاني (من رجال القرن السادس الهجري).
ومن هنا كانت الطريقة القادرية هي الطريقة الأصلية، وعنها تفرعت طريقتان رئيسيتان هما السعدية والرفاعية.
ويشتهر رجال الطريقة الأخيرة بوسيلتهم الغريبة في التغلب على الآلام وقهرها، إذ يمشون على النار ويلتهمون الجمر ويأكلون الزجاج ويبتلعون الحيوانات السامة وما إلى ذلك دون أن يصيبهم أدنى ضرر أو أذى. فهذه الطرق الصوفية وغيرها (وفي مصر حوالي مائة طريقة) هي التي تحتفل في الواقع بالموالد احتفالا دينيا له صبغته الخاصة، وهي التي تضفي على الموالد ثوبا رائعا مميزا.
ففي كل ليلة من ليالي المولد تتوجه بعض هذه الطرق إلى المسجد فتعقد حلقات الذكر والإنشاد حتى ينقضي شطر كبير من الليل؛ ويستمر ذلك طيلة المدة المرخص بها للاحتفال - وهي أسبوع في العادة - حتى تأتي الليلة الأخيرة - أو ليلة الخاتمة - وهي الليلة التي يفترض أنها ليلة ميلاد الولي، فتتجمع الطرق الصوفية كلها في إحدى الساحات أو الميادين ثم تنتظم على شكل (زفة) يتقدمها رجال البوليس وفرق الموسيقى، وينتظم فيها (أولاد أبو الغيط) وهم يرقصون رقصاتهم الجميلة، والدراويش بملابسهم الملونة الزاهية (وطراطيرهم) الخضراء، كما يسير فيها أيضاً بعض الحواة والمشعوذين.

وتتقدم كل طريقة البيارق (جمع بيرق) التي تدل عليها، وقد نقش عليها أسماء النبي (ص) والخلفاء الراشدين، أو اسم الطريقة واسم مؤسسها والطرق الصغيرة المتفرعة عنها، وتسير الزفة - وقد توسطها الخليفة - متجهة نحو ضريح الولي في ضجة كبيرة تختلط فيها أنغام الموسيقى بقرعات دفوف الصوفية وأصوات (الكاسات) و (النقارات) بنغمات الأرغول و (الزمارة) وغير ذلك من الآلات الموسيقية التي يستخدمها الصوفية والدراويش.
ويتوقف موكب الزفة من أن لآخر في الطريق كي يتسنى للناس في المنازل التفرج والمشاهدة؛ وبعد لأي تصل (الزفة) إلى المسجد.

وهكذا يختتم المولد وتنتهي لياليه، ويصبح الصباح فإذا الزينات ومعالم الأفراح قد زالت وعاد كل شيء إلى ما كان عليه.
آخر زيادة على على المدة المصرح بها رسميا؛ ويذكر ماكفرسون إنه كان يعجب أشد العجب ويتساءل عن الداعي لذلك، وهل هو شدة حب الناس وتعلقهم بأوليائهم، إلى أن جاءه الجواب أخيرا بعد انتهاء مولد السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق.

يقول ماكفرسون (ولدهشتي البالغة سمعت شيخا يقف إلى جانب ضريحها (ضريح السيدة فاطمة) وهو يقول: إننا نحتفل بأسبوع الطفل بعد سبعة أيام من مولده، فلم لا نحتفل بأسبوع هذه السيدة الجليلة أيضاً؟ فلم أتمالك من أن أغمغم وراءه بصوت خفيض: نعم لم لا يكون ذلك). (يتبع) أحمد أبو زيد

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن