أرشيف المقالات

إعجاز القرآن والمقاييس البشرية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ عبد المنعم خلاف طال الجدل بيني وبين الأستاذ سيد قطب في مسألتي التصوير الفني في القرآن، واستخدام المنطق الوجداني في إقرار عقيدة التوحيد وأنا من زمن أعلنت أني أكره الجدل العلني في الصحف، ولا أرتاح إلى نتائجه على النفس والحق، لأنه كثيراُ ما يجر إلى مواقف لا يدفع إليها إلا التبرير الجدلي وحب انتصار الشخص لا انتصار الحق وقد آثرت هذين الموضوعين في نقدي لكتاب الأستاذ سيد برفق وهوادة؛ فقلت بعد أن وفيته حقه من الثناء: (غير أنني أخشى أن تكون قد أفلتت لفظة أو اثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية في جو من المبالغة والتعميم).
هكذا أثرت هذا النقد بهذا التعبير المتواضع الذي يكاد يكون استفهاما، حتى أجنب الموضوع مزالق الجفوة، ولا أجره إلى بعض النوازع النفسية التي لا تتصل به، إذ الجدل في المسائل العلمية خاصة يجب أن يكون خاليا كل الخلو من الملابسات الغريبة، وان يكون العقل في برودة وصرامته وحيدته هو المتكلم وحده ولكن انظر أيها القارئ كيف انتهى جدل الأستاذ سيد معي في المقال الأخير حين يقول: (وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات (آيات سورة الأنبياء (أم اتخذوا آلهة من الأرض.
) الخ).
فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه، فهي في سياق القرآن شيء يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل).
(إن القرآن يا سيدي لم يرد الأمر على النحو الذي تريد).
(فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني) ألا يشعر القارئ أن عنصرا دخيلا يتطرق إلى طريقة الجدل فيرفع حرارة المجادل ويفسد هدوء المناقشة؟ لا يا أستاذ سيد! أنا غير مستعد أن أسير في هذا الطريق.

وقد سرني كثيرا أن أقرأ قولك في مقدمة مقالك الأخير هذه العبارة: (وليست المسألة بيني وبين الأستاذ عبد المنعم قضية جدلية على طريقة المناظرات، وإنما هي حقيقة نود تجليتها، وإنه ليسرني من غير شلك أن ألتقي بالصديق في الطريق) سرني هذا، ولكن ساءني ذاك، لأنه لا يعين على تجلية الحقيقة كما نود.
ولولا أن الموضوع يتصل بإعجاز القرآن من جهة، وبتجديد الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة لنفضت يدي من هذا الجدل في الصيف.
ولآثرت أن أترك لك الكلمة الأخيرة تدافع بها عن رأيك بأي الأساليب تختاره، ولكن الموضوع موضوع قضية إعجاز الإسلام والعربية، وقضية أساس الفكر الإسلامي والديني الصحيح عامة، بل قضية الكون كله وأعظم شؤونه! قضية الوصول إلى عقيدة التوحيد.

فلا عجب ولا ضير أن يطول الجدل بيني وبينك في هذا الشأن الخطير ما دمنا نحتفظ فيه بالهدوء وضبط الكلمات حتى لا تشذ كلمة جارحة.
- 2 - أما القضية الأولى، وهي قضية (التصوير هو الأداة المفضلة في القرآن)، فقد وصل الحديث فيها بيننا إلى غايته بعد تكرار الأستاذ سيد اقتناعه برأيه فيها مرة ومرة، وبعد عجزي طبعا عن نقل كثير من الشواهد هنا للاستشهاد بها، كما فعلت بنقل النصوص التي وجهت نظره إليها، وأنا بالطبع ما أردت محاكمته إلى تلك النصوص وحدها، وإنما أحاكمه إليها والى أمثالها، وأمثالها هي الأكثر في القرآن أما الربط بين (التصوير الفني)، سواء كان هو القاعدة العامة أم لم يكن، وبين سر الإعجاز في تعبير القرآن، فهو مكان الخطر في هذه القضية، لأنه يفسر إعجاز القرآن بأمور في مستوى الصنعة البشرية التي واتت وتواتي كثيرا من عباقرة البيان الذين يستخدمون التصوير الفني في مستوى رفيع فيه الوحدة والتناظر والتناسق وتقسيم الأجزاء وتوزيعها في الرقعة المعروضة، إلى آخر ما هنالك من سمات الطريقة، ولأن الربط بينه وبين سر الإعجاز يؤدي حتما إلى القول بأن المواضع الخالية من استخدام التصوير، سواء أكانت هي الكثيرة أم القليلة في القرآن ليس فيها إعجاز! ذلك مفهوم كلام الأستاذ سيد، وهو مفهوم خطر! ولا يقولن ردا على هذا: (أحسب أن ليس هكذا تكون مقاييس الفنون!) كما قال إزاء الأمثلة التي ذكرته بها، لأننا لسنا أمام (كتاب فني) يقدر بمجموعه لا بأجزائه، بل أمام كتاب يتحدى بسورة واحدة منه (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله) وليس بذي خطر في الموضوع أن يكون التصوير هو القاعدة العامة أو لا يكون، فانه إذا صح فلن يضير القرآن، وإذا لم يصح فلن يضير.
ولكن الخطر الذي يضير، هو ذلك الربط بينه وبين سر الإعجاز، فواجب الأستاذ سيد كما أرى - وله رأيه - أن يراجع هذا الموضع، ويحذف كلمة (الإعجاز) من الجملة الأخيرة من صفحة 31، ويضع كلمة أخرى مناسبة سيقول الأستاذ سيد في الرد على التعليل الأول لرفض الربط بين سر الإعجاز وبين التصوير ما قاله سابقاً (إن العبرة ليست باستخدام التصوير، ولكن بمستوى هذا التصوير من التناسق والحياة.
) وأرد عليه بما قاله الأستاذ الكبير العقاد في مناسبة شبيهة بهذه المناسبة، حينما كان ينقد كتاب المرحوم الرافعي (إعجاز القرآن) قال: (وإنما الأساس فيها (المعجزة)، والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة وتشذ عن السنن المطرقة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيراً يطابق المعهود من سنن الطبيعة، لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها) والأستاذ سيد يحاول أن يفسر سر الإعجاز في تعبير القرآن بهذا التصوير الفني فيطابق بهذا التفسير بين القرآن وبين المعهود من سنن الطبيعة في البلاغة البشرية العبقرية، يلحق القرآن بالآثار البلاغية الشائعة وما أشبه ما حاوله في بيان الإيقاع الموسيقي في القرآن على إنه لون من ألوان التصوير الفني الذي يرتبط به إعجاز القرآن بما حاوله الرافعي في فصل (الكلمات وحروفها).
وقد علق الأستاذ العقاد على هذا النحو الذي نحاه الرافعي في هذا الفصل بقوله: (هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه ترى إنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء هيهات أن يكون مقصوداً أو سارياً في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود (قيل يا نوح اهبط بسلام هنا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) (فإن كانت بلاغة الكتاب الكريم مرتهنة بذلك النسق الذي تصوره الأديب؛ فهل يناقض البلاغة في رأيه توالي الميمات الكثيرة والنون والتنوين في هذه الكلمات المتعاقبة؟ أو يظن الرافعي هذه الآية بدعا من الكتاب؟) ما أردت بنقل هذين النصين وخصوصاُ النص الثاني من كلام الأستاذ العقاد الذي يجل آراءه الأستاذ سيد ونجلها جميعاُ، إلا أن أبين أن السر في إعجاز القرآن لا يمكن أن يخضع لمقاييس شائعة، ولا لقواعد بشرية يتناولها الجهد البشري بالتعديل والتغيير والتنقيح والنقد والرفض فالحيرة القديمة التي كانت تمتلك عقول القدماء في فهم سر الإعجاز القرآني لا تزال تتجدد وتمتلك عقول المحدثين، ولن تزال كذلك ما دام القرآن معجزاً، وما دام الشرط في المعجزة أن تكون شاذة عن حوادث السكون الشائعة ولا يستطاع تفسيرها. وحسن جداً من الأستاذ سيد، وتوفيق يهنأ عليه أن يكشف عن معالم للجمال الفني في القرآن يجليها وان يصف آثارها في النفس وعجبها منها وانفعالها لها، ولكن من غير الحسن فيما أرى أن يربط بينها وحدها وبين سر الإعجاز وموعدنا المقال الآتي في الرد على اعتراضات الأستاذ سيد على ما أسماه (المحاولات الذهنية) التي حاولت بها أن أكشف ما في آيات الوحدانية بسورة الأنبياء من استخدام ضروب الأدلة الذهنية جميعها، وأشكر الأستاذ سيد أن أتاح لي فرصة الكشف عنها صدفة لأول مرة فيما أعلم، لتضاف إلى أسرار القرآن الكثيرة التي تكشف عنها الأيام فيما تحت (سطحه التعبيري) عبد المنعم خلاف

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢