أرشيف المقالات

البلاغة العصرية واللغة العربية

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 تأليف الأستاذ سلامة موسى للأستاذ أحمد محمد الحوفي - 4 - اللغة والسلوك والذكاء - اللغة والحب - تعابير لغوية - تعابير منتقدة.

.

. (1) (نحن نفكر ونبعث بالكلمات، وسلوكنا في البيت والشارع والحقل والمصنع هو قبل كل شيء سلوك لغوي، لأن كلمات اللغة تقرر لنا الأفكار والانفعالات.
وتعين لنا السلوك كما لو كانت أوامر، بل نستطيع أن نقول إن سيادة البريطانيين على الهنود، أو المتمدنين على المتوحشين هي إلى حد ما سيادة لغوية، أي مجموعة خصبة وافية من كلمات المعارف والأخلاق تحدث براعة في الفن وتوجيها في السلوك يؤديان إلى السيادة وأحياناً إلى العدوان) ص10. (ومما لاشك فيه أن هناك بين المتوحشين والبدائيين أذكياء من الطراز الأول، ولكن ذكائهم يبقى عقيما، لأنهم حين يفكرون يجدون تفكيرهم محدوداً بالتراث اللغوي المحدود الذي ينطقون ويفكرون بكلماته، واللغة لهذا السبب هي أعظم المؤسسات الاجتماعية في أية أمة، لأنها الوسيلة لتحريك الذكاء في أبنائها، ولتوجيه أخلاقهم بكلماتها التي تعبر عن المعرفة أو العقيدة أو الحكمة) ص92. هنا ينظر الأستاذ إلى اللغة بعين واحدة، لأنه رجع إليها وحدها التفكير والسلوك، وأغفل تأثير المجتمع فيها، فيبست اللغة وحدها هي التي تحفز وتدفع، وليس المجتمع سبيكة تصوغها اللغة وتشكلها، لأن اللغة تؤثر في المجتمع وتتأثر به، بل لعل تأثرها بالمجتمع أقوى من تأثيرها فيه؛ لأن المجتمع هو الذي وضعها وأنشأها ونماها ورعاها، فلاشك أن المجتمع وجد قبل أن توجد اللغة، ولاشك أن المجتمع هو الذي صاغ هذه اللغة في آماد متباعدة ليعبر بها عن حاجاته، فالحاجات أسبق من اللغة المعبرة عنها، والقول بأن اللغة وليدة المجتمع ومرآة لحياته أصدق من الزعم بأن المجتمع وليد اللغة وصورة منها. فقد نهض المسلمون أولا، وبسطوا سلطانهم على الشرق والغرب، ثم تأثرت لغتهم بحياته الجديدة فاتسعت ومرنت وحدث فيها ثقافات لم تكن لهم من قبل. ونهضت مصر والشرق العربي في هذا العصر، ثم اتسعت اللغة بما طرأ عليها من فنون، استجابة لهذه النهضة. ومن ذلك أننا الآن نترجم ونؤلف ونضيف إلى اللغة مصطلحات جديدة في الطب والقانون والاجتماع والاقتصاد والكيمياء وغيرها، أفنحن استجبنا لروح النهوض ثم استخدمنا اللغة لتحقيق هذا النهوض، أم أنا كنا نعرف هذه المصطلحات وهي التي أوحت إلينا بهذا النهوض؟ لاشك أن اللغة هي التي خضعت لحاجتنا وتأثرت بنهضتنا. ولو صدقنا الزعم بأن اللغة هي الخلاقة والفعالة لكانت النتيجة الطبيعية أن سكان الهند وجنوب إفريقية الذين يتكلمون بالإنجليزية، وسكان تونس والجزائر الذين يرتطنون بالفرنسية - في صف واحد مع الإنجليز والفرنسيين، لأن اللغة هي اللغة. ثم ما للشرق تخلف عن ركب الحياة بعد أن كان الرائد والقائد، ولغته هي لغته إن لم تكن قد زادت ثروة من الكلمات والتعابير وسعة في الخيال؟ وما لنا نرى كثيرين جداً من المثقفين الدارسين لأكثر من لغة يتنكبون الفضيلة وهم على علم بما يقترفون؟ ويعدون صوالح أمتهم وأنفسهم وهم على بينة أنهم عادون؟ إن كانت اللغة هي الحافز والملهم فلماذا لم تحفزهم إلى الخير وتلهمهم نوازعه. إن اللغة لا تحفز إن لم يكن خلقها رصيد من قوة الخلق، وسمو الروح، والطموح إلى مثل أعلى، أما اللغة وحدها فزجاجات مغلقة على معان لا ينتفع بها إلا من يتذوق مراميها، ويفقه معانيها ولو كان الشأن للغة وحدها لسما كل من حفظ كلمات: المجد، والشهامة، والمروءة، والنجدة، والعزة الخ. (2) (يجب أن نذكر أن كثيراً من توجسنا من الحب واختلاط الجنسين يرجع إلى أننا نستعمل كلمات الحشاشين سوء أكانت فصحى أم عامية في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلا من كلمات العلماء أو المثقفين، ولذلك كلما فكر بعضنا في الحب أو اختلاط الجنسين على الشواطئ أو العرى خطرت بذهنه كلمات توحي البذاء أو العهر فيصد ويصرخ في الدعوة إلى انفصال الجنسين) ص84. ما شاء الله! هل الغير على الخلق الكريم أن يتدهور، وعلى عفاف المرأة أن يخدش، وعلى سمعة الأسرة أن تلوث، وعلى العرض أن يهتك، إنما يصرخون بدعوتهم لأنهم يستعملون كلمات الحشاشين التي توحي إليهم بالبذاء والعهر والفجور؟ وهل الذين يتوجسون من الحب أن يغلب الهوى العقل، وأن يجر ويلات على الفتيان والفتيات، إنما يتوجسون لأن قاموسهم اللغوي منحط؟ ومن الظريف أن هذا الأستاذ الداعية إلى اختلاط الجنسين على الشاطئ في عرى وتهتك قد ضرب المثل على صحة دعواه بأن المثقف يرى المرأة العارية فيتذكر الرشاقة، والجاذبية، والصحة الخ والرجل المتأخر أو (الحشاش) يراها فيتذكر اللذة، والأرداف، والقبلة الخ. فأية صيحة منكرة هذه الصيحة؟ وماذا بقي من الدعوة الجريئة المكشوفة إلى العرى والاختلاط والإباحية؟ هي دعوة خاطئة خاطلة بنيت على أساس خاطئ واه نقدناه في تأثير اللغة.
وأنا أسأل الأستاذ: أكل من يقعون في المحرم ويسطون على الأعراض من غير المثقفين؟ أو كل مثقف يخالط على الشاطئ امرأة عريانة لا يفكر في المتعة الجسدية؟ أتستطيع أن تدعي أن الثقافة نميت الغريزة أيتذكر مثقف الخفة والرشاقة والجاذبية ثم ينقطع به خياله عند هذا الحد؟ وماذا بعد الإعجاب والخفة والرشاقة والجاذبية؟ أيرى مثقف امرأة ذات خفة ورشاقة وجاذبية ويعجب بها ثم يسجد لله إقراراً بقدرته وتفرده في صنعته؟ وهل هذه المرأة دمية أو تمثال حتى يقنع منها بالنظر؟ وإذا كان المثقف كثيراً ما تعجبه الوردة الناضرة فلا يقنع منها بالنظر، بل يقطفها ويشمها، وكثيراً ما تروقه القطة الأليفة الجميلة فلا يكفيه منها الرؤية، بل يلمسها ويداعبها، فلم يزعم زاعم أن المرأة الحسناء العارية أو غير العارية تروعه ثم يخالطها، ولكنه يتبتل ويترهب! إن الداعين إلى هذا البلاء ليسوا إلا مغالطين مخدوعين يفترون على عواطفهم؛ ويكذبون في تحليل نفوسهم، أو فجاراً يبغون هدم ما بقى لهذه الأمة من حصن الأخلاق - 3 - (ومن الأحافير اللغوية كلمات (الدم) و (الثأر) و (العِرض) في بعض مديريات الصعيد، فإن هذه الكلمات تؤدي إلى قتل نحو ثلاثمائة امرأة ورجل كل عام) ص52 أكاد أشفق على هذا الكاتب الذي يخبط ويخلط فيما يكتب، ويتردى ثم لا ينهض إلا ليكبو، فإذا كانت دعوته إلى الاختلاط والعري مستورة بستار شفيف فإن دعوته هذه مكشوفة مفضوحة تطل بقرنيها من خلال كلماته إنه يريدنا على أن نمحو من لغتنا كلمة (العرض) فلا نغار، وكلمة (الثأر) فنذل ولا ننتقم، وكلمة (الدم) فنهدر حياتنا وحياة أعزائنا فلا نثأر!! إن الديك الذي لا يعرف كلمة (العرض) يغار على دجاجاته، ويصد عنهن الجنيب الغريب، والديك الذي لا يعرف كلمة (الدم أو الثأر) يصون عزته فيناضل من يعتدي عليه، وإن كان أشد منه مراساً وأقوى شكيمة. أفننتكس نحن فنكون أقل من الديك غيرة وحمية؟ ولن يزعم إنسان أن لغة الشمال وبقية مديريات الجنوب خالية من كلمات الثأر والدم والعرض، فلماذا لا تكثر هناك جنايات القتل؟ أنتهمهم في رجولتهم وكرامتهم وشرفهم؟ لا، فليس مرد حوادث القتل إلى اللغة، ولكن إلى ظروف أخر لعل منها: الجو، والفقر، والضغائن الموروثة، والضرب إلى الأصل العربي بعرق، والاعتزاز بالشرف الذي تخدره موجات المدنية الداعرة.
فلا جريرة للغة في هذا ولا دخل وإذا سلمنا جدلا أن الثأر للكرامة، وأن صون العرض من جرائر اللغة فما أحبها جريرة.
والخير إذن أن تبقى هذه الكلمات حية تعمل في النفوس عملها، لا أن تسمى (حفائر) أيها الغُير على الأعراض في مصر! خففوا من غلوائكم، بل أميتوا غيرتكم، وألغوا رجولتكم، فإنكم همج في رأي الأستاذ سلامة موسى!! أيها الطامحون إلى الاستقلال التام، الثائرون للكرامة والحرية المغصوبة! رويدكم فإنكم متأخرون في زعم كاتب من كتاب مصر!! أيها الآباء! أيها المربون للجيل الجديد! أيها الواضعون للقاموس اللغوي الجديد! احذفوا من لغتكم كلمات العرض والثأر والدم وإضرابها لتنشئوا نعاجاً لا تثأر ولا تثور ولا تغار! - 4 - (وما زلنا نلتزم عبارات مقتبسة يعافها الذهن الذكي، ومرجع هذه العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي تعلمناها وغرست في نفوسنا قيمة مزيفة للاستعارة والمجاز، فما زالت صحفنا مثلا تقول: عرض على بساط البحث، بدلا من عرض للبحث وخاض غمار القتال، بدلا من قاتل وحمى وطيس الحرب، بدلا من حمى القتال ودارت رحى المعركة، بدلا من دارت المعركة ووضعت الحرب أوزارها، بدلا من انتهت المعركة الخ ونحن نستغني عن الاستعارة حين يمكن الاستغناء عنها أو حين تعكس مجتمعاً يخالف مجتمعنا) ص73 ولكن الاستعارة - ما دامت في موضعها، وصدى لشعور الأديب وانفعاله وخياله - جوهرية في النص لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا فقد التعبير عن النفس قيمته وقوته وجماله ولا عيب في أن نشير بعض الاستعارات إلى حياة سابقة، لأن الكلمات التي نكتب بها ونشعر، لها تاريخ وأعمار وأطوار وأحوال مرت بها تخالف في كثير أو في قليل المعاني الجديدة التي نطلقها عليها الآن، وما زالت اللغات الحديثة حافلة باستعارات تعكس صوراً قديمة ليست قائمة، بل إن بعضها يشير إلى أساطير عتيقة. وأنا أبين خطأ الأستاذ في عيبه هذه التعابير التي تتداولها الأقلام: 1 - (عرض على بساط البحث): يتوهم أن هنا زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكن المعنى إذا حذفت كلمة بساط ليس كالمعنى بها، فكلمة بساط أفادت أن البحث واسع، حر، واضح، متكشف للباحثين جميعاً كأنه شيء على بساط أمام الناظرين، والتركيب إذن تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه 2 - (خاض غمار القتال): والغمار من معانيها الشدة، والمزدحم، وشدة الظلام، والخوض في الأصل للماء، فالصورة الخيالية هنا أن الميدان غاص بالمحاربين، وعددهم كالبحر الزاخر، وهذا المحارب شجاع، لأنه خاض هذا الميدان المهيب الرهيب، وهذا معنى لا يؤديه كلمة (قاتل)، لأن المقاتلة تكون بين اثنين وأكثر، وتكون بحماسة وشجاعة كما تكون بجبن وفزع 3 - (حمى وطيس الحرب): وهي جملة ابتكرها النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين لما تجالد القوم والوطيس في اللغة التنور، وحفيرة تحفر فتوقد فيها النار للاشتواء، والمراد حمست الحرب، وعظم الخطب، فهنا استعارة رائعة مبنية على تشبيه الحرب بالنار، لحرارة الضرب بالسيوف أو المدافع أو القنابل، وللحرارة التي يوقدها في جسوم المحاربين ما عليهم من سلاح، وما يقومون به من حركة، ثم لأن الحرب تأكل الرجال، وتفني الأبطال كما تأكل النار الحطب ولذلك قالت العرب: (أوقدت نار الحرب)؛ وقال تعالى: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله). وقال زهير: متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ...
وتضرُ إذا ضربتموها فتضرم 4 - (وضعت الحرب أوزارها): والأوزار عدد الحرب وآلاتها، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ...
رماحاً طوالا وخيلا ذكورا فهذه كناية عن انتهاء الحرب، لكنها أبلغ من الحقيقية، لأنها أفادت الحقيقية، وأفادت معها دليلا محسوساً على صدقها، ثم أفادت أن الحرب كانت طاحنة، ثم في إسناد الوضع إلى الحرب مجاز عقلي أو استعارة أو حذف، وكل منها جميل، فليراجع الأستاذ ذلك كله في كتب البلاغة إن أراد التفصيل ولماذا لم يستغن الأستاذ عن المجاز ما دامت الحقيقة قديرة على أداء المعنى؟ قال في ص13: وهذا موضوع (تخصب) فيه الالتباسات) وفي ص24: (بل كانت تبقى هذه المعاني (أجنة) تؤلمه (بالمخاض)، ولا تجد المخرج من ذهنه أو تخرج (جهيضة)). وفي ص89: (لم تجد كلمات ولسن الجو الملائم لها (فذبلت) وماتت أمام (الأعشاب) التي زرعها كلمنسو ولويد جورج) الخ وأخيراً، أسأل الأستاذ جاداً أن يكتب مقالا أدبياً واحداً باللغة الجديدة التي دعا إليها، بحيث يكون خليطاً من الفصحى والعامية والإفرنجية، وملغى فيه الإعراب، وبالحروف اللاتينية، وأساس البلاغة في المقال المنطق وحده، ومجرداً من كل استعارة أو تشبيه، أو مجازاً يمكن الاستغناء عنه، ثم لا أطالبه ولا أطالب القراء بتقدير قيمته الفنية، بل أطالبه وحده بفهمه، وإن كان قد حبره بقلمه لأكاد أوقن أن دعواته لهدم اللغة، وتقويض الأخلاق، وازدراء الماضي المجيد، إن هي إلا دعوات استعمارية لتبديد شمل الأمة العربية، أو دعوات تبشيرية لقطع ما بين المسلمين ودينهم من صلة لغوية وخلقية، ولكن لن يكون لدعواتهم صدى ما دامت أقلام في أيدي أحرار. أحمد محمد الحوفي المدرس بالسعيدية الثانوية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢