أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 الدميم.
للأستاذ جبيب الزحلاوي (بقية ما نشر في العددين السابقين) - 3 - لزمت غرفتي طوال النهار التالي ولم أذهب إلى ملحق الفندق إلا بعد ثلاث ليال. لقيني خصوم الليلة الأولى بل أصدقاؤها بترحاب ملحوظ، جعلني أحس كأنهم ينتظرون قدومي، وغدوت أعاتب إذا تأخرت ليلة عن الحضور. قيل لي مرة بعد مقدمات وأسئلة عن صاحبي (وقد أطلقوا عليه أسم (ليدرون) تحريفاً لكلمة بالفرنسية معناها (يشع)) بأنه خطب الآنسة (سمسم) من والدتها وهو يجهل طبعاً أنها حفيدة فلان العظيم، وقد ذكروا اسمه ولقبه ورتبه، وأن والدتها ردته بلطف فلم يأبه لردها وأصر على البقاء بقرب (سمسم) وأنه سيعود إلى مصر متى عادت إليها ليفاتح جدها وهو ولي أمرها (بالزواج).
وقالت إحدى الآنسات: نحن منقسمون حيال هذه المسألة إلى قسمين: قسم الآنسات يتنبأ بتحقيق هذا الزواج وسيكون زواجاً سعيداً، وقسم الرجال يستبعد وقوعه، فأنت إلى أي جانب يكون انحيازك؟ قلت: ماذا كان ردّ الآنسة (سمسم) على خطبتها؟ قلن: قالت إنها ستقول كلمتها عندما تعرض المسألة على ولي أمرها. لم أشأ الانحياز إلى جانب المتنبئات المتفائلات لأنهن أقدر من الرجال على استشعار الرجولة ومعرفة ميول المرأة، ولم أمل إلى المتشائمين الذين استبعدوا وقوع هذا الزواج بين شخصين يمثلان الشيء وضده، أي الجمال البادئ والدمامة الصارخة، وقد تحاشيت عمداً إبداء رأي في صاحبي الذي عرفته فقط يوم وصولي إلى جزيرة (رودس) وقد أعانتني على هذا التحاشي رؤية صاحبي مقبلاً مع فتاته (سمسم) وكأن قلبيهما يدفعان خطواتهما باتزان في حين كان فكراهما يسبحان في جو سماء واحدة. كان من عادتي في تلك الجزيرة أن أستيقظ عند الفجر أستقبل شروق الشمس حين أكون عند قمة الجبل أمتع النظر بأبهج وأروع ما رأيت من مفاتن يقظة الشمس.
وحدث في صبيحة أحد الأيام، أني ما كدت أتخطى عتبة حجرتي حتى تقدم أحد غلمان الفندق فألقى إلى كتاباً فيه دعوة من السيدة والدة الآنسة (سمسم) إلى مقابلتها عند ربوة (النبي إيليا) وهي ربوة ليست بعيدة عن الفندق تكتنفها أشجار الصنوبر وتحجب الجالسين فيها عن الأنظار. سيدة مهيبة الطلعة يبرز وجهها الحافظ لنضارته ولونه كلون ضوء القمر من وسط هالتين من شعر أسود فاحم، وثوب أسود يستر أكثر أجزاء الجسم، هذه السيدة والدة (سمسم) هي التي دعتني للكلام معها في حادث صديقي. شرحت لتلك السيدة المحترمة العاقلة مبلغ معرفتي بصاحبي الدكتور واعترفت لها بأن لا سلطان لي عليه إلا حق دعوته إلى الاصطبار والتريث ريثما ينقضي فصل الصيف ونعود إلى مصر. قالت: أخشى أخباراً تتسرب إلى مصر تنقل محرفة فيتقول الأشرار عن العائلة ما لا ترضاه، ودعتني بإلحاح إلى معاونتها في إقصاء صاحبي عن ابنتها التي شهدت بطيبة قلبه وكريم شمائله كما ستعمل هي من جانبها على ردع ابنتها بالحسنى عن التمادي في صداقة رجل لم نعرفه بعد. لم يكن في وسعي استجابة طلب السيدة وقد أدركت من كلامها أنها وإن كانت غير راضية عن صلة ابنتها بالرجل ولكنها غير غاضبة عليها، وقد صارحتها الرأي قائلاً بأني لا أطيق أن أباعد بين قلبين يتدانيان، ولا أعمل مطلقاً على نصب حواجز بينهما.
وقد شعرت عند تركي إياها بأنها مقدرة موقفي وتصرفي. مدت يدها لوداعي، فقبلت تلك اليد ووددت لو ألصق شفتي بظهر كفها طويلاً لإبلاغها مدى احترامي لها وإكباري إياها. السيدة جميلة تستر جمالها بالحزن، حدثتني عن ابنتي الوحيدة بلسانين من العاطفة الحنون والعقل الراجح.
إنما هي محزونة مفجوعة، لا بزهرة من زهرات الحب، بل بباذر وبذور الحب، بزوجها وهي الوفية لعهدة بعد الموت.
هي أم ترضى لابنتها زوجاً له بعض مزايا المرحوم زوجها في الانكباب على قراءة الكتب. لم يعد صاحبي في حاجة إليّ ولا إلى كتبه فقد تركها لي هدية المستغني، ولم يكن ظرفي الخاص يبيح لي الاندماج بنزلاء ملحق الفندق وجلهم أعزب دأبه التصبي والتغازل. كم من العسير يا صاحبي على شاب ألجم بالزواج في سن مبكرة قبل أن يتفتق ذهنه للحياة! وكم تكون الحياة هزيلة في نظرة إذا داهمته بالبنين قبل أن يشتد ساعده للكفاح! وكم تكون قيود العرف وأغلال العادة ثقيلة على قلبه إذا ألزم نفسه التقيد بها والخضوع إليها؟ هكذا كان حالي بين نزلاء ذلك الفندق. أصخت لنداء الواجب يهيب بي أن أعود إلى زوجتي وأولادي، فلبيت.
جمعت حوائجي في حقائبي وركبت سيارة وأوصلتني إلى ميناء الجزيرة ومنه ركبت البحر إلى الإسكندرية. صمتّ هنيهة ريثما أستريح وأشعلت لفافة تحرض الذهن على الصفاء والاستذكار وإذا بالمنصت إلى حكايتي يسألني بلسان الرجل الخبيث ولهجة المستحث (ثم ماذا)؟ ابتسمت لسؤاله ابتسامة غابت عليه معانيها وقت: انصرمت أعوام ثلاثة لم أر صاحبي الدميم في غضونها، ولم أسمع إلا خبراً واحداً نشرته الصحف وهو خبر استقالته من الجامعة وانصرافه إلى أعماله الزراعية.
لقد أكبرت هذه التضحية من دكتور يدرّس في الجامعة في سبي الاستقلال والحرية، فان كثيراً من الناس يؤثرون عبودية الوظيفة وقيود النفس على الحرية. حدث في مساء أحد الأيام، وأذكر جيداً أنه كان في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر، أني لقيت مصادفة رجلا يشبه صاحبي الدميم في متجر شيكوريل ولكنه لم يكن دميماً، ولا أمرط الحاجبين، وليس بأعمش أحمر الجفون، وإما كانت ندبات الجدري وأثر الجراح في عنقه باقية كما عرفتها. زالت حيرتي بإقبال الرجل علىّ يحييني بمودة واشتياق، وقال مداعباً: لم يعد منظري يفزعك لأني أتقنت (التواليت) أليس كذلك؟ قلت: من هو ذاك الفنان البارع الذي جعل من (الفسيخ شربات)؟ قال: هي هيَ من؟ تلك التي وجدتها في رودس. أتعنَى (سمسم). هي بعينها. هل عند (سمسم) صالون (مكياج)؟ ضحك صاحبي وقال: لا داعي الآن إلى إطالة الكلام، سنطلعك الليلة على كل شئ. قلت: نون المتكلمين تعني من؟ قال: دع التشوف وحب الاستطلاع ففي هذه الليلة تعرف كل شئ تهمك معرفته ويسرك خبره، أما الآن فأنت أسيري ولن يطلق سراحك إلا بعد أن ينتصف الليل! أفهمت، أنت أسيري فلا داعي إلى السؤال ولا إلى الجدل أو الاحتجاج. وقفت كالمبهوت ريثما ابتاع صاحبي حاجته من المتجر، وتزايدت دهشتي وقتما دعاني إلى ركوب سيارته ولقد لقيتها تشغل نصف شارع فؤاد الأول عرضاً، وقد درجت بنا إلى بيته وهو (فيلا) جميلة في الجزيرة تحف بها حديقة باسقة الأشجار، أما الدهشة الكبرى فهي تلك التي اعترتني حين مقابلتي (سمسم) وجهاً لوجه واندفاعها نحوي تحييني بلهفة ومحبة كما لو كنت أخاها. لم تعد (سمسم) تلك الفتاة النحيفة الضامرة التي عرفتها في فندق (شيفرو) تقفز بين الأشجار الصنوبر كالغزال، بل اكتمل جسمها واعتدل قدها، وبرزت أنوثتها كأحلى ما تكون في المرأة قالت وقد أخذت يدي بيدها تعال أرك منزلها وقد تعاونت وزوجي على تنسيق أثاثه وترتيبه، ثم أحدثك كيف تمّ زواجنا. مشيت معها أتفرج على حجرات (الفيلا) المنسق فرشها ببراعة وذوق فني، ووقفنا طويلاً في غرفة المكتب وهي عامرة بآلاف الكتب فقالت. هذه الخزائن (الدواليب) خاصة بكتب الزراعة فلا أقرب منها لأنه لا شأن لي بها، وهذه الرفوف للكتب التي أشترك مع زوجي في مطالعتها وكثيراً ما نجلس في حديقتنا، كما كنت أنت تجلس معه في رودس.

تقرآن، كنت أنا والبنات أترابي نراقبكم من بعيد فنضحك من اجتماع.

النقيضين. قلت: أي نقيض بين زوجك وبيني؟ قالت: إهمال مطلق من ناحية زوجي في هندامه وبزّته، وإصلاح.

رأسه ووجهه يقابله عناية تامة من ناحيتك في كامل مظاهرك. فتح الباب في هذه اللحظة ودخل منه زوجها يحمل رأسه الأصلع وحاجبيه الأمرطين اللذين قلّ الشعر فيهما، يلبس سروالاً قصيراً وقد برزت ساقاه الشعراوان، ينتعل حذاء سميك النعل، وفي يده عصاً كأنها جذع شجرة وقال: (هكذا كنت). قلت للسيدة (سمسم) وأنا كالفزع: كيف تخلصت من هذه الدمامة الصارخة؟ قالت وهي تبتسم: علمته صناعة (التواليت) ثم التفتت إلى زوجها الذي كان يقفز كالقرد ويأتي بإشارات مضحكة وحركات طفلية وقالت له. أتقنت تمثيل دورك كما كنت في رودس فاذهب وغيّر هندامك استعداداً للعشاء. قال محتجاً: لا عشاء قبل (الأبرتيف). قالت: هو ذاك مقبلات شهية. عدنا إلى صالة وكانت الدهشة ما زالت تغشاني، فلما جلسنا قالت لي السيدة (سمسم): لقد تم زواجنا على خير ما رمت. اقتنعت والدتي برضاي عن الرجل الذي انفتحت له مغاليق قلبي فقبله شريكاً لحياتي، ثم أظهرت مثل هذا الرضى للمرحوم جدي الذي كان ولي أمري، ولم يعترض إلا على مسألة واحدة حل عقدتها زوجي العزيز بالانتساب إلى ديني؛ وأصارحك بأني ما كنت لآبه لمثل هذا الأمر أو أعيره التفاتي لولا أحكام الشريعة، أحكام الدين المنزل من عند الله، ولم نراع دين الحب الذي هو الله. صمتت هنيهة ثم قالت: أحس في أعماقي أن الأديان كلها تستمد قوتها من روحانية الإنسانية، فلمَ لا نكون كلنا إنسانيين في الزواج وهو روحاني في الأصل ثم غريزي فاجتماعي؟! ثم قالت: اتفقت وزوجي على أن ندع ولدنا على طبيعة يختار سبيلاً يوائم عقله ويتفق مع روحانيته وقد آلينا على أنفسنا رعايته كإنسان، وهكذا نكون قد نفضنا أيدينا من المشكلة التي سوف تحلّ عقدها الأجيال المستنيرة المقبلة بعد أن بذرنا بذورها!؟ أقبل الزوج لابساً بدلة (سموكنج) فقامت السيدة ولم يطل غيابها، وقد عادت بعد أن نضت ثياب البيت واستبدلت بها ثياب السهرة وقد برزت هي وزوجها كالإنجليز الاستقراطيين، وإذ كنا في طريقنا إلى غرفة المائدة قال لي الزوج مداعباً: انظر كيف تمثل أنت الدمامة بهندامك كما كنت أنا أمثلها بوجهي ورأسي وقتما تعارفنا في رودس! كان حديثنا ونحن على مائدة الطعام يدور حول الدمامة والحسن وقد اختلفت كما تنوعت وجهات نظرنا في تعريفها، وقد كانت السيدة (سمسم) أقدر منا وأصدق في الحكم عليها من وجهة نظر المرأة فقالت: الدمامة هي في الوجه الميت والحسن في الوجه الحي، فالوجه الذي تموت فيه التعابير وتنطفئ فيه معاني النفس هو وجه دميم برغم تناسب قسماته؛ أما الوجه المعبر الذي تبرز فيه كل المعاني النفسانية فهو الوجه الحسن برغم التنافر في قسماته. أما الجمال، وإن كان تعريفه نسبياً، واختلاف النظر إليه واجب بوجوب تنوع الأذواق والميول، فهو في نظر المرأة رجولة في القسمات، رجولة في الصوت والحركة والإشارة رجولة في البيت في الأمور وفي تصريفها.
ولا شأن لي في وجهة نظر الرجل في تعريف جمال المرأة، لأن أكثر الرجال لا يعرفون ما هو الجمال! والجمال في المرأة سر بل أسرار لا يعرفها معرفة حقيقة إلا الخبثاء من الأدباء والشعراء ورجال الفن. ضحكت وصديقي ضحكة الرضا عن تفسيره هذه السيدة معاني الجمال على هذا الشكل البارع، وأخذنا نشرب ونأكل.
وإذ كنت في طريقي إلى البيت كنت أحس بأني سكران أترنح من الفرح، وما برحت يا صحابي أزور هذه الأسرة السعيدة لأفرح بمشاركتها في عيدها في الليلة الثانية والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام. نظرت إلى صاحبي نظرة طويلة ساهمة، ثم مد يده فصاحبني وانصرف دون أن يقول كلمة واحدة.
وبعد ليلة جاءني هذا الشاب وكل قسماته تطلب الاستفهام والاستيضاح وقبل أن يسلم عليّ قال: أستاذي المحترم، أين عقدة القصة وكيف حللتها؟ لقد أذهلتني عن العقدة فبربك أرشدني إليها. قلت وقد تعلمت جفوة المتشرد، اذهب إلى الدميم، بل اذهب وسل (سمسم) إذا شئت. حبيب الزحلاوي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢