أرشيف المقالات

البحث العلمي أصوله وآدابه

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للدكتور محمد مأمون عبد السلام غريزة البحث غرض كل حي المحافظة على نوعه ونشره في الأرض.
فيستعين الحيوان على اختلاف أنواعه لبلوغ هذه الغاية بغريزة البحث وحب الاستطلاع.
فالحيوان ومعه الإنسان يولد جاهلاً بما حوله من البيئة لا يعرف عنها شيئاً، فيأخذ من وقت ولادته العلم عن كبرائه ويستمر طول حياته في التحصيل مدوناً في مخه مشاهداته واختباراته مستنتجاً من نتائج تأثيرها عليه ما يساعده في منع الضرر عن نفسه وما يعود عليه بالنفع. ولما كان الإنسان يمتاز بعقله عن غيره من أنواع الحيوان فإنه يدأب في تعرف أسرار ما يصادفه في حياته بقدر طاقة عقله البشري.
ويلقن خبرته وما كشفه من أسرار الطبيعة لسلالته لتتوفر لهم وسائل الحياة ولترتقي معيشتهم. فالبحث إذن هو القوة الدافعة للإنسان على اختلاف أجناسه لكشف أسرار ما حوله فيضع مشاهداته موضع التجربة لكي يصل إلى نتيجة عملية نافعة.
ولولا البحث لما قهر الإنسان الطبيعة وسخرها لخدمته ولما وصل إلى ما هو عليه من الرقي.
ومن الخطأ أن يعتبر البحث حرفة أو صناعة يختص بها أفراد دون آخرين. فهو مشاع لكل مخلوق يريد الحياة، فكل إنسان بحاث في حرفته، ولكل حرفة بحوثها، فما تقدمت الحرف والصناعات إلا بسلسلة متواصلة من التجارب تناقل نتائجها الخلف عن السلف فنشأت العلوم وتنوعت أبوابها بتراكم خبرة بني الإنسان. توزيع العمل والتخصص كلما تقدم الحيوان في مراتب الحياة الاجتماعية ينزع بغريزته إلى توزيع الأعمال وتخصيص الأفراد كل في عمل خاص إتقاناً له وتسهيلاً لحياة المجموع.
فالتخصص إذن ظاهرة طبيعية تشاهد في شتى أنواع الحيوان.
فنراها واضحة جلية في الحشرات الاجتماعية كالزنابير والنحل والنمل والأرضة.
ونراها في أكمل صورها في الإنسان؛ لأنه بطبيعته مدفوع إلى التخصص لما اتضح له بالتجربة من امتياز بعض الأفراد دون غير بإتقان نوع خاص من العمل يميلون بطبعهم إليه.
فإذا وزع كل عمل على من يتقنه أدى ذلك إلى سرعة إنجاز الأعمال وإتقانها والاقتصاد في نفقاتها. والتخصص في الأعمال موجود حتى في أحط الشعوب دركة في المدينة.
فنرى في الجماعات التي تعيش على الفطرة أفراداً يبرعون في اقتفاء أثر الفريسة فيسترشد بهم قومهم في الصيد، كما أن منهم من يتخصص في الريافة وهو علم استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده فيعرفون دون سواهم بعد الماء وقربه من لون التربة وشكل سطحها ورائحة ترابها وبما ينمو فيها من النباتات الخاصة وبحركة الحيوانات التي تعيش في باطنها.
كما أن منهم من يتخصص في معرفة فوائد الأعشاب فيبرعون في استعمالها لمعالجة قومهم، وهكذا يتدرج الإنسان في التخصص ويبرع فيه كلما ارتفعت مرتبته في المدينة.
فنشأ عن تراكم الخبرة أن وضعت أسس العلوم ونظمت فروعها إلى أن أصبحت كما نراها اليوم. بدأت العلوم نظرية، وذلك أن ذوي العقول الممتازة من بني الإنسان فكروا فيما حولهم من دقائق الكون مدفوعين بقوة عقلهم وصفاء روحهم وعمق تفكيرهم، فاجتهدوا في حل أسرارها عن طريق المشاهدة والاستنتاج المنطقي المؤيد في كثير من الحالات بتجارب عملية تؤيد صدقها.
وبهذه الوسيلة وضع علماء الأمم السالفة من مصريين وبابليين وهنود وصينيين وإغريق ورومان وعرب وغيرهم الحجر الذي أسست عليه العلوم الحديثة. فالعلوم السماوية والفلسفية هي أول ما شغل عقول البشر. أما العلوم المادية الحديثة فلم تصل إلى حالتها من التقدم إلا بعد مشاهدات ودراسات وتجارب بنيت على أسس علمية وقواعد منظمة قام بها عدد عظيم من الباحثين المدربين على أسس البحث السليمة في جو يضمن لهم مطلق الحرية في إدارة بحوثهم من غير أن يتأثروا بالمؤثرات الخارجية التي تعطل سير تفكيرهم وقيامهم بحل ما يطلب منهم من المسائل مستعينين برؤساء متيني الخلق مجردين عن الأهواء والأغراض المفسدة للنفوس.
لا هم لهم سوى الوصول إلى الحقيقة المجردة لخير بني وطنهم خاصة والإنسانية عامة والواقع أن المدنية الغربية الحديثة لم تصل إلى ذروتها المعروفة إلا بفضل من كونهم من جيوش البحاثين في العلوم الطبيعية والكيميائية والطبية والبيولوجية والهندسية وغيرها. وقد أخذت فرق هذه الجيوش تزداد بتشعب العلوم وتقدمها إلى أن عمت كل مرافق الحياة الحديثة، فأصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة معاهد للبحث خاصة بها ومؤتمرات دولية يعقدها أفرادها لمناقشة دراساتهم ونتائج بحوثهم، فأصبح كل مصنع من المصانع الحديثة مزوداً بمعهد للأبحاث كامل العدة يقوم فيه اختصاصيون يجرون البحوث للتوصل إلى رقي هذه الصناعة وتقدمها تقدماً يضمن للمصنع خاصة وللبلاد عامة التفوق في جودة منتجاته وسرعة إنتاجها مع رخص ثمنها وذلك لكسب معركة التنافس.
وهم ينشرون نتيجة بحوثهم في نشرات ومجلات علمية تتناول في جميع أصقاع الأرض.
ومن أمثلة ذلك معاهد البحوث الخاصة بصناعة البيرة والشوكولاته والخبز والصناعات الزراعية على اختلافها كحفظ الخضر والفاكهة واللحوم والألبان ومشتقاتها بالوسائل المختلفة التي من أحدثها التجفيف.
ناهيك عن معاهد البحوث في كافة صناعات التعدين والآلات وغيرها وبناء المساكن الحديثة والطائرات والسيارات وكل ما يؤدي إلى رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته. ونتج عن التخصص في البحوث أن أصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة اختصاصيون ترجع إليهم الحكومات والهيئات في حل مشاكل الحياة الحديثة وتعتمد عليهم في تسيير دولاب أعمالها. الشروط الواجب توفرها في الباحثين يجب لكي تنجح البحوث وتأتي بثمارها المطلوبة أن يقوم بها أناس يتوفر فيهم: حسن الخلق، وغزارة المادة العلمية، وقوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج، والقدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص نتائجها، والقدرة على ترتيب النتائج وإعدادها للنشر، وحسن علاقة رؤساء البحوث بمرؤوسيهم. أما حسن الخلق فأن كتب العرب تفيض ببحار من آداب البحث وشروطه، والواجب علينا أن نعمل بها ونسير على منهاجها؛ لأن البحث أمانة في عنق الباحث هو مسئول عنها أمام ربه وضميره.
لذلك يجب عليه أن يكون متفرغاً بقلبه لبحثه غير ملتفت إلى سواه، وأن يكون محباً للعلم صدوقاً منصفاً بالطبع متصفاً أكثر من غيره بالفضيلة والصدق والأمانة في أقواله وأعماله، لأن فضيحة البحاث إن هوى عظيمة وسقطته إن كبا مميتة، فالحق لابد أن يظهر ولو بعد حين. ويجب ألا يكون الباحث فضاً سيئ الخلق بل يكون كريم النفس سمحاً يرحم من دونه في المرتبة ويحترم كباره وأساتذته وذوي النصح له لأن قدره من قدرهم. ويجب ألا يهاب تجشم المشاق في أبحاثه وألا يستهين بآراء غيره ومعلوماتهم مهما انخفضت مرتبتهم عنه فلكل فرد نصيبه من خبرة الحياة.
وقد يستفيد أعلم العلماء من أقل الناس علماً. ومن الأمانة ألا يغمط حق من سلفه في البحث وأن يعترف بفضلهم مهما قل أو ضؤل.
وليتخذ التواضع في أقواله ومناقشاته ومناظراته ديدنا له فيحترم رأي مناظريه ولو كانوا بعيدين عن الصواب.
وليعمل بقول الفيلسوف المصري القديم (بتاح حتب): - لا تكن فخوراً بعلمك، وأعط الجاهل والعالم قسطاً متساوياً من الاحترام. والواجب على البحاث أن يكون صريحاً في كل أقواله وكتاباته غير هياب في الحق فلا يخشى المجاهرة برأيه ولو كانت نتائجه غير متفقة مع نتائج زملائه الذين يشتغلون في نفس موضوعه؛ فإن الحقيقة لا يحجبها مثل الجبن في الدفاع عنها ونشرها بين الناس وهي بنت البحث لا وصول إليها إلا بالمناقشة والمناظرة. وينبغي ألا يخالف قوله فعله فلو كذب مقاله حاله ينفر الناس منه ولا يسترشدون به، لأن المقلد ينظر دائماً إلى حال المرشد وينبغي على الباحث أن يكظم غيظه ولا يخلط جده بهزله ولا ييأس إذا لم يقبل قوله وأن يكون مثالاً حسناً لزملائه ومرؤوسيه في الخشية والشفقة والإحتمال والحلم والصبر والتواضع وعفة اللسان واليد والاشتغال بمصالح عمله وإفادة الغير بعلمه وخبرته دون انتظار شكر أو جزاء. وليعلم الباحث أن من وضاعة الخلق وضعف النفس أن ينشر بحثاً يبنيه على آراء ونتائج أسرها إليه أحد زملائه أو حصل بطريقة غير شريفة كاستراق سمعه لمناقشة، أو أن ينقل إليه ناقل تفاصيل تجربة رآها، فإن نشر وجب عليه أن يعنعن أي يذكر من أخذ عنه.
وليجعل الباحث لنفسه في نظر نفسه قيمة قبل أن يكون لعمله قيمة، فاحترام المرء نفسه يوجب احترام الناس له.
وليربط لسانه عن التفوه بنتائج بحوثه لمن يشتغل في نفس موضوعه قبل نشرها لأن ذلك يحفظ له حق الأولوية ويقلل من سوء التفاهم الناشئ عن التنافس الطبيعي بين أفراد المهنة الواحدة، وليس ذلك معناه ألا يساعد زملاءه فيما يطلبونه منه، كلا بل الواجب عليه أن يكون كريماً.
فإن كشف في بحثه نقطة تخص أحدهم فليبادر باطلاعه عليها لأن التعاون من روح البحث.
وإن عثر على كتب أو نشرات تفيد أحدهم وجب إرسالها إليه لأن ذلك يبعث على توثق العلاقة ومحو التنافر وغرس المحبة والوئام بين أفراد يجب أن يكونوا أدعى الناس إلى التضامن في خدمة العلم والإنسانية. وواجب البحاث لا يضايق إخوانه ولا يزعجهم بكثرة الأسئلة، لا يلح عليهم في الإطلاع على نتائج بحوثهم قبل نشرها، ولا يخشى الاعتراف بالخطأ فأن ذلك يقربه من الحقيقة، ولا بالضعف لأن ذلك يزيده قوة. وعليه أن يجعل الأمانة والصدق وسيلة لبلوغ أغراضه فإن الغش والتدليس وطبخ النتائج والتهريج العلمي كلها عوامل تؤدي إن آجلا أو عاجلاً إلى موت أدبي محقق.
فما التهريج إلا آلة الجهلاء وصناعة الضعفاء وهو آفة من الآفات التي تنخر في عظام الأمم التي لم تضرب بسهم وافر في المدينة الحديثة.
فتراها متفشية في شتى المهن والحرف والصناعات دون زاجر نفسي أو قانوني وواجب الحكومات أن تعمد بشتى الوسائل لمحاربة هؤلاء الأدعياء الذين كثيراً ما يحتمون بمؤهلاتهم وألقابهم الضخمة فيسيئون إلى العلم والعلماء. ولعل أحسن نصيحة للباحثين هي التي ألقاها البروفسور الروسي إيفان بافلوف مخاطباً الشباب الجامعي السوفيتي إذ قال: (يجب عليكم أن تنموا ملكة النظام في عملكم لأن النظام في عملكم من أهم العوامل في الأبحاث العلمية؛ لذلك ينبغي عليكم أن تعودوا أنفسكم من مبدأ دراساتكم على جمع معلوماتكم بطريقة متتابعة منظمة.
والواجب عليكم أن تتعلموا أبجدية العلوم قبل أن تتسلقوا جبالها فلا تقصدوا فعل شيء إلا بعد أن تمهروا في أداء ما يسبقه من الأعمال.
والواجب ألا تخفوا نقص معلوماتكم بالتخمين والظنون والنظريات الجريئة، ويجب أن تدربوا أنفسكم على رباطة الجأش وحكم النفس والصبر والقيام بالأعمال العلمية الشاقة المضنية، فادرسوا وقارنوا وأجمعوا الحقائق؛ فالحقائق هي الهواء الذي بدونه لا يعيش العلم ولا يتسنى الوصول إلى حل المشكلات العلمية. فبدون الحقائق تصبح نظرياتكم مجهوداً ضائعاً.
ولكن ينبغي عليكم ألا تقنعوا بالحقائق وحدها في دراساتكم وتجاربكم ومشاهداتكم، بل يتحتم عليكم التعمق للوصول إلى أصول هذه الحقائق ومعرفة النواميس التي تسيطر عليها وتتحكم فيها. والواجب أن تكونوا متواضعين لا يأخذكم الغرور فتظنون أنكم تعرفون كل شيء.
فيجب عليكم أن تقولوا دائماً (نحن جهلاء) مهما ازداد مدح الناس لكم.
فلا تكونوا عبيداً أذلاء للغرور.
والصلف يجعلكم عنيدين بدلاً من أن تكونوا مرنين.
ويجعلكم ترفضون النصح الصادق وتفقدون الهداية إلى الطريق المستقيم والغرض المنشود.
والواجب أن يكون المشتغلون بالبحوث العلمية كخلايا الجسم تعمل منسجمة متعاونة مع بعضها البعض كل يؤدي وظيفته وعمله الخاص بمعاونة الآخرين للوصول إلى النتيجة المنشودة فالأنانية هي ألد أعداء العلم والعلماء. والواجب عليكم أن تعلموا أن العلم يتطلب من طالبه أن يقصر عليه حياته ويتفانى في حبه.
فالعلم شره لا يقنع بغير المجهود الجبار فكونوا متوقدين في حبكم له. والواجب أن تكون العلوم مغروسة في دم أبناء الأمة لأنها هي سلاحها التي نحافظ بها على كيانها)
(لها بقية) الدكتور مأمون عبد السلام وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١