أرشيف المقالات

التربية السياسية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ عباس محمود العقاد أحسنتم في كلمتكم التي شيعتم بها عهد الدكتاتورين هتلر وموسليني، وأشرتم إلى موضع العجب العاجب من أمر الأمة الألمانية التي يستطيع رجل كسائر الرجال.

(فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسة بسمارك، ولا أدب جوتة، ولا فلسفة نيتشة، أن يسيطر ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم أثنى عشر عاماً في ابتكار أفظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار) والحق أن أعجوبة الأعاجيب في هذه الأمة الألمانية أنها على وفرة نوابغها وشيوع التعليم بين طبقاتها وازدهار المعارف والصناعات فيها، لا تزال تستسلم لطاغية بعد طاغية سواء من عواهلها أو من المغامرين بالحكم فيها، ثم تمضي معهم في مخاطرة بعد مخاطرة من أيسر شرورها هزيمتهم وامتلاء الأرض كلها بالوحل والبلاء بضع سنوات ولكنها عبرة من عبر التاريخ الكبرى تساق إلينا نحن الشرقيين خاصة لنعلم هوان المعارف والصناعات ووفرة النوابغ وكثرة المتعلمين إلى جانب التربية السياسية الني تتوارثها الأمة جيلاً بعد جيل في ظل الحرية والمعاونة البصيرة بين الرعاة والرعية فالأمة الألمانية قد استوفت كل مزية من مزايا العلم والصناعة والنبوغ إلا هذه المزية التي لا غنى عنها، وهي مزية التربية السياسية وأولى خصائص هذه المزية هي الاستقلال بالرأي في محاسبة الحكام، أو هي اشتراك الجميع في الحكم ببداهة المعاونة التي تنشأ من طول المرانة وكثرة المراس فالأمة الإنجليزية مثلاً قد نشأت في جزيرة يحوطها البحر، فاستغنى ملوكها عن الجيوش القائمة الكبيرة التي يدفع بها الملك خطر العدوان من جيرانه، وأمن رؤساء العشائر أن يسومهم الملك طاعة لا مراجعة فيها ولا مشاورة، لأنهم كانوا جميعاً في عشائرهم بمثابة الملوك الصغار، وكان لهم من الجند والأتباع ما يستعينون به على مكافحة العسف والطغيان كلما تجاوزا حدود المصلحة الكبرى التي يرتضونها أجمعين وكان الإنجليز أمة تجار وبحارة ينفردون بأنفسهم في لجج البحار.
فتعلموا من التجارة مساومة الآخرين، وأن الأمر لا يؤخذ في الدنيا بالغصب والإكراه، وتعلموا من البحر كيف ينفردون بمكافحة الأخطار، وكيف يستقلون بآرائهم في مداورة الصعوبات وجيل بعد جيل بعد ثالث بعد رابع على هذه الوتيرة كفيلة بتربية الاستقلال والخبرة بمداولة الشؤون وإقامة الحدود المعقولة بين الحاكم والمحكوم لكن الألمان على نقيض ذلك، قد شاء لهم سوء الحظ أن يقيموا في الرقعة الوسطى من القارة الأوربية، وكانوا في حاجة دائمة إلى الطاعة العسكرية، لأنهم يغيرون على جيرانهم ويغير جيرانهم عليهم في كل حين، ولم يزالوا على ذلك عرضة لسطوات الأقوياء كلما ظهروا من حولهم في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال فمن ظهر في الشرق أخذهم في طريقه غرباً إلى حيث يريد الفتح أو القتال، ومن ظهر في الغرب أخذهم في طريقه شرقاً كما يشاء وحين يشاء، وكذلك كان يصنع بهم من يمتد بسلطانه من الجنوب إلى الشمال، أو يمتد به من الشمال إلى الجنوب وكانوا من قديم عصورهم قبائل متفرقات تعمل في الرعي والقنص والزراعة، فعاشوا عيشة القبائل الأولى وهي عيشة طاعة وتسليم، وجاءتهم النظم العسكرية التي لا فكاك منها، فزادتهم طاعة على طاعة وتسليماً على تسليم خاص وقد تعددت ولاياتهم حتى زادت على ثلاثمائة في نهاية القرون الوسطى، ولم تنقص هذه الولايات عن مائة وسبعين في أيام الثورة الفرنسية، ثم تجمعت بعض التجمع في زعامة ولاية من أكبرها في العدة العسكرية، ولكنها من أقلها نصيباً في الثقافة والأخلاق الاجتماعية، وهي بروسيا التي عرفت في تاريخها بأنها آخر القبائل الجرمانية حضارة وأقلها دماثة وأدباً، فطبعتهم من جديد بطابع الإذعان الذي لا يعرف المراجعة ولا يؤمن بتعدد الآراء وقد ثار الإلمان على الكنيسة أو على البابوية، ولكنهم لم يثورا قط على طغيان الحكومات وعسف القادة، وإنما ثاروا على البابوية لأنهم كانوا في طاعة القادة والحكومات قلنا في كتاب تذكار جيتي الذي ظهر منذ بضع عشرة سنة: (.

يجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها: كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية. فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين.

على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب الثلاثين المشهورة، فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميراً، وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين، ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحرفي الأمم الأوربية الكبرى) من هذه العوامل التي فصلنا بعضها في (تذكار جيتي) وبعضها في كتاب (هتلر في الميزان) أصيبت الأمة الألمانية بتلك الآفة الجائحة وهي نقص (التربية السياسية) وكان بعضها من صنع يديها وبعضها من صنع الحوادث والملابسات. لا جرم يطيع الألمان حكامهم تلك الطاعة العمياء ويعتقدون فيهم كما يعتقد الأطفال في آبائهم (إن أبانا لعلى كل شيء قدير) وقد خدعهم في هتلر - فوق خداع التربية السياسية الناقصة - أنه نجح في ضم السار والرين والنمسا وبلاد السوديت بغير قتال، فخيل إليهم أنه يلعب بأوربا وبالعالم وأنه يملك من قوة الدهاء وقوة السيف ما يخضع له أوربا إذا خالفته ويخضع له العالم كله إذا وقف في طريقه. وذلك هو الظلال الأكبر في القياس والتفكير. لأن مصطفى كمالاً - كما قلنا في كتاب هتلر في الميزان - (لم ينفق جزءاً من ألف ربوات الملايين التي أنفقها هتلر على التسليح، واستطاع مع ذلك أن يفتح الآستانة فتحاً ثانياً وفيها جيوش الحلفاء، وأن يعيد إليها الحصون التي منعت إقامتها بعد هزيمة الحرب العظمى، وأن يلغي الامتيازات الأجنبية والمعاهدات التي سبقت ألمانيا الحديثة ونشأت من أيام سليمان الكبير).
ولم ينجح مصطفى كمال ولا هتلر فيما صنعاه لأنهما أقوى من الدول التي كانت تأبى ما صنعاه، وإنما سر المسألة كله صعوبة الإقدام على حرب عالمية سواء كان المقدم عليها من الحكام الدستوريين أو من الحكام المستبدين، فالذي صنعه هتلر إذن هو أنه غير هذه الحالة بسياسة الخرقاء وجعل الصعب سهلاً على الدول في مدى ثلاث سنوات، وما ثلاث سنوات في تواريخ الأمم وحوادث الدنيا؟.
) نعم هذا هو الضلال الذي طير صواب هتلر فطار معه صواب الألمانيين، لأنهم لا ينظرون إلا كما ينظر القادة والزعماء في أصغر الهنات وأخطر الأمور. لقد عصفت التربية السياسة الناقصة بكل فضيلة من فضائل هذه الأمة الألمانية، وحرمتها ملكة الابتداع حتى في العلم والصناعة.
فاشتهر الألمان بأنهم محسنون مكملون لما يخترعه الآخرون ولم يشتهروا بأنهم مخترعون مبدعون.
وتبين ذلك في الطيارات والدبابات التي هي عدتهم في مقومة الأساطيل البحرية، فإنهم كانوا يشتغلون بالمناطيد يوم كان العالم كله يشتغل بالطيارات على اختلافها، ولما التفتت الأمم إلى الطيارات واستخدامها في الحرب كرة أخرى كانت طيارات الألمان دون غيرها في الصناعة والقيادة والتأثير. ولقد شاع بين الشرقيين كما شاع بين غيرهم أن هؤلاء الألمان يحسنون ما لم يحسنه الأوربيين، لأنهم يصنعون الأدوية والمواد الكيمية التي تنقطع عن العالم بانقطاع مواصلاتهم فلا تعوضها الأدوية من سائر البلدان وهو وهم فارغ كان يسهل علينا نحن المصريين أن ندرك حقيقة إذا التفتنا إلى ما يجري في بلادنا ونصنعه بأيدينا، فنحن نستورد القمح والدقيق وبلادنا تستورد القمح ونطحن الدقيق، وإنما نفعل ذلك من لأن زراعة القطن أنفع لنا - أو كانت أنقع لنا - من زراعة الحبوب.

فليس في الأمر عجز ولا قصور. وكذلك الألمان والصناعات الكيمية في القرنين الماضيين، فإن علم الكيمياء الحديث قد راج في أوربا يوم كانت البلاد الإنجليزية والبلاد الفرنسية ذوات منشآت تدار على نسيج الصوف والقطن وعلى مصنوعات المعادن والأخشاب، فلم يكن معقولاً أن تلغى هذه المصانع والمنشآت وأن تحل الشركات التي تديرها لتعود إلى إدارتها على الأدوية والكيميات، وإنما كان المعقول أن تترك هذه الصناعة لألمانيا كما تركت صناعة الألبان للدنمارك مع وفرة الألبان في المراعي الإنجليزية والفرنسية.
وما اضطرت أمم أوربا وأمريكا قط إلى استخراج مادة كيمية إلا أتقنتها كما أتقنها الألمان أو فوق إتقان الألمان فالنقص في التربية السياسية هو علة النقص في استقلال الرأي حيث كان، ولو تجاوز مجال الحكم والشورى إلى مجال الرأي والابتداع. والنقص في التربية السياسية هو الذي ضيع على هتلر وأتباعه كل ما استكملوه من العدة الحربية، فليكن لنا في ذلك عبرة نحن أبناء الشرق المترددين بين المذاهب والآراء.
فلا تعدل بالحرية بديلاً من الخيرات التي يقال إنها تنوب في عهود الطغيان عن الحرية والاستقلال. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣