أرشيف المقالات

حكمة غاندي

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
8 وضع أحد كتاب اليونان الشباب ترجمة للمهاتما غاندي أسماها (الحياة المقدسة) ونحن نقتبس منها حديثاً لغاندي يقارن فيه بين عصر الآلة وبين الحياة في عصر الصناعة اليدوية التي يحدثنا عنها في تأثر وحنين: كانت حياتنا في الأزمنة الخالية، قبل أن يحل بيننا هذا الوحش وأعنى به الآلة، حياة إنسانية جميلة.
فقد كان عندنا متسع من الوقت للتفكير والخلو إلى النفس في المعابد صباحاً، وتحت ظلال الأشجار في هجيرة الظهر، وفي أفنية المنازل مساء، حتى في أوقات العمل ونحن جلوس إلى المناسج أو قائمون في المزارع نفلح الأرض، نجد الوقت للإنشاء وللتوجه بأرواحنا إلى ملكوت الجمال والحق، أما أخواتنا فأنهن قبل الشروع في أعمالهن في الحقول، يضفرن أكاليل الزهر ويعلقنها على قرون البقر، فلم يكن للزمن عندنا في يوم من الأيام من المعنى ماله اليوم عند الأوروبيين.
ولم يعلمنا واحد من حكمائنا هذا المبدأ المنكر (الوقت من ذهب) فلم نكن من الهيام بالذهب بحيث نضحي كل وقتنا من أجله.
لأن العمل في اعتقادنا هو خلق الجمال والتوجه بأرواحنا إلى الله. وأني لأذكر أن أبوي في صغري أخذاني معهما لأشهد كيف يكون بدء اشتغال الفتى بصناعة أبيه.
فقد كان الفتى أول الأمر يمضي للاغتسال في النهر ليكون لجسمه طهارة نفسه.
ثم تأخذه أمه إلى المعبد.
ويكون أبوه وشيوخ القرية في انتظاره حول النار المقدسة وعند ذاك يسأله أبوه: - أتريد استئناف صناعتي؟ أتريد أنت أيضا أن تصبح حداداً؟ - نعم يا أبت. ثم يقسم اليمين المفروضة: (أقسم بالنار وبأجدادي، وبالله الحي القيوم، أني راغب في أن أكون حداداً، وأني راغب في خلق الجمال والمنفعة للناس) وإذ ذاك يقدم له أبوه (أخوته الصغار) ويعني بها الأدوات، لأنها له بمثابة الخلان الأوفياء في حياته العاملة الكادحة. ويتناول الفتى محراك الجمر والمطرقة والكير والميدع من أدم وأنه يتناولها بحنان كأنها أحياء، ويقول مجدداً بيمينه: (أقسم أني لا أدنس هذه الأدوات.
وإنما استخدمها في خلق الجمال والمنفعة للناس)
. ثم يستطرد غاندي في ذكرياته: لقد عرفت العهد السعيد الذي كان فيه ناسجو الشيلان مثلاً في عداد الفنانين، أي صنو المثالين والرسامين سواء بسواء. وكانوا يجلسون صبيانهم حول المنسج يمسك هذا كبة الصوف الأزرق، والآخر والأحمر، وذاك الصوف المعصفر، وذلك الأخضر.
وفي صباح كل يوم قبل البدء في العمل، يرفع المعلم الشيخ عصاه.
فيسود السكون مطلقاً شاملاً.
هذه آونة التأمل، ثم تعقبها الصلاة.
فيبتهلون إلى الله أن يعينهم على صنع ما هو جميل ونافع للناس.
فإذا فرغوا من الصلاة، أخذوا في الإنشاد على فريقين سائل ومجيب: - ماذا تنسجون؟ ننسج السماء ونجومها - ماذا تنسجون؟ ننسج الأرض وزهرها - ماذا تنسجون؟ ننسج البحر وحيتانه وسفائنه والصبيان يداولون خيوط الصوف، كل في دوره، في حركة موزونة موقعة.
والمعلم جالس في وسطهم يضبط الإيقاع، وينظم بعصاه الصغيرة حركة الذهاب والإياب للخيوط المتداولة زرقاً وحمراً وخضراً.
.
فتتولد شيئاً فشيئاً قطعة موسيقية من النسج عجيبة التأليف من الشيات والألوان. ويتجدد هذا العمل كل يوم بين الصلاة والإنشاد وبعد أسابيع ثلاث يتم الشال.
وإذ ذاك يستعرضه كل صبي ويقلبه بين يديه معجباً بجماله، هذا صنيعهم أجمعين.
وهم يحبونه كأنه مخلوق حي لا تقوم نفاسته بثمن، فيرمقونه طويلاً بأنظارهم، ويمسحون عليه بأيديهم، ولا تكاد تطاوع أنفسهم على التخلي عنه ويقول المعلم الشيخ: - هيا أطلقوا عليه اسماً. فيقول الشيخ: - بل نسميه (البهيج) أليس هو وليد البهجة وصنع الفرحة والحبور؟ فيهتف الجميع استحساناً، ويمضي الشال في طريقه إلى الدنيا الواسعة، ويأخذ المعلم وصبيانه من جديد في عملهم.
وهكذا في كل ثلاثة أسابيع يطلعون الدنيا آية جديدة. عبد الرحمن صدقي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢