أرشيف المقالات

مسيلمة

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 بات مسيلمة والكرى لم يطرق جفنه، يفكر في محمد اليتيم كيف انتصر، وصارت له عصبة وقوة، وكيف سر أعداءه وقد بدا لا عدة ولا عدد، وها هو ذا يريد أن يكتسح جنوب الجزيرة بعد شمالها، فتنفرد مضر بالرياسة.
لا ورب الشعرى ما تذل ربيعة، ولا ينبغي لها ذلك، وان كان قد دعا لنفسه، فلم ينفرد بالرسالة؟ أولست مثله؟ ولي لسان كلسانه وقومي كقومه بل أشد شوكة.
انهم أعراب غلاظ شداد لا يعصوني ما أمرتهم، تدفعهم النعرة إلى نصرتي ظالماً أو مظلوما - والله لأوقدنها نارا ولأكون صاحبها. دخل عليه صديقه (مجاعة) عند انبثاق النور، واشد ما أدهشه أن رآه جالساً القرفصاء قد دفن وجهه! بين ركبتيه، فنادى مسيلمة فرفع إليه رأسه في صمت وسكون وقد بدت من وجهه عينان أدماهما الأرق فسأله مجاعة؛ - ما بك يا أخي؟ أسوء إعتراك؟ - بل الخير كل الخير - وكيف صممت عن دعائي وقد ناديت مرارا؟ - ما كنت واعيا - وما شغلك؟ - كنت في فكر أقض مضجعي، وأطار نومي، وما أحسب أحداً غيري يقوي على احتماله - وأخوك الذي أذهب ميعة شبابه بجانبك، وأخلق ديباجته مقتحماً الأهوال بين يديك؟ ألما تجده لسرك أهلا؟ - كلا ما ذهبت إلى ذلك، وما أردت أن أثقلك بما ينقض ظهرك، وأشركك في كأس مرة - ما دمت تشرب منها، فكيف تبخل علي بها؟ وهبها كأس المنية - بارك الله فيك من عشير، إذن فأصغ إلي - أنت تعلم العداوة التي بين أهلنا ربيعة وبين مضر، وكم أوقدنا الحرب نمدها بأفلاذ أكبادنا ونرميها بزهرات اولادنا، ولم نرض في حال بالذل وسوم الخسف - وماذا فعلت مضر بنا؟ هل أغارت على حينا؟ هل أرسلت شياطينها على عيرنا؟ هل حمت البيت دوننا؟ هل وترتنا في أهلنا أين.
ماذا فعلت؟ - ما فعلت من ذلك شيئا.
ولكنها أوقدت نارا وأخال أن ألسنتها ستمتد إلينا، فيهبط العرش على الفرش ويذهب الولد والوالد - وما هذه الداهية؟ - ألم تعلم أن محمدا ظهر أمره، وزهر نجمه، وكنا حسبناه شرارة ما تضيء إلا لتخمد، وخطباً ما ينزل إلا ليهون.
ولكن خاب فألنا، فالركبان يتناقلون أنه استحوذ على ما بين مكة والمدينة؟ والناس يدخلون في دينه أفواجاً، وأخشى على اليمامة.
منزلنا العتيد ومهد الجدود، أن يأخذها منا على غرة فنذل بعد عزة، ونبوء بالخسران المبين. - وما بدا لك أن تفعل؟ - إن الحديد بالحديد يفلح، والدعوة بمثلها تقابل، له الشمال ولنا الجنوب.
ليت شعري لم يكون النبي من مضر ولا يكون لربيعة نبي؟ قرب سمعك مني.
لابد من الحيلة لقومك حتى يستقتلوا ويطيعوا، ولابد من السيطرة على قلوبهم حتى ينصاعوا، ولا يكون ذلك إلا بغزو عقولهم وخدعة عيونهم فلا يرون إلا ما نرى ولا يسمعون إلا ما نسمع. - أذن فاعمل كيدك حتى تأينا بآيتك التي تبهر وتسحر - ما تظنني عن هذا غافلا - بل إن فكري ليحلق في آفاق أبعد، وكيف أنصب قدرا قبل تهيئة الاثافي، ومثلي الذي جاب الآفاق وجال في الأسواق، ونفذ إلى ما وراء الحيرة والأنبار، واقتحم سواد فارس واجتمع بأوشابها، فوقف على ألاعيب فتيانها وكيد دهاتها واختلط بتجار الهند وعرف حكمتهم واستجلى شعوذتهم - لا يخلو من كيد وحيلة، فكم خدعة عندي يحسبها الأعراب معجزة، وكذبة يظنونها حقا! - يا لك من داهية يا أبا ثمامة! وما وراءك بعد؟ - سأزعم النبوة كمحمد، وأدعي المعجزة، ولابد من ردء يصدقني ويشد أزري.
وأظن فيك - بعد ما بلوتك - ذلك الرجل - قد أجبت سؤلك.
ما دام في ذلك مرضاة لحمى الجدود، وبر لرفاتهم، فماذا تريد أن أفعل؟ - تذيع في الناس أمري، وظهور رسالتي، وتحشدهم إلى دارك بعد غد.
ليشهدوا آياتي أليس الموعد بقريب؟ - بلى، سيتم ذلك على أحسن حال.
إلى اللقاء هب الناس على دار (مجاعة بن مرارة)، وكانت رحبة الفناء ضمت ألوفاً من الأعراب وكلهم يشيع في وجهه السرور، ويهنئ صاحبه، لأن الله حباهم نبياً من أنفسهم، عزيز عليهم، به رجحت كفتهم، وأنقذوا من نير مضر وسورة سلطانهم، وها هم أولاء يجتمعون ليشاهدوا آياته، فتملئ قلوبهم إيماناً وفي الأصيل وقف مسيلمة على دكان بصدر المجلس وقد اختفت قسمات وجهه تحت لثامه الغليظ فلم تبد منه إلا عينان خبيثتان تدوران في الجمع الحافل، وتلحظان فيض العاطفة على الوجوه، وتقرءان في العيون الأيمان والسخرية.
وكان ممتقع اللون، يرفض جبينه عرقاً، يهوله ما يقدم عليه من خطب ويخشى العاقبة.
ثم ثبت يده على عكازه التي اعتمد عليها واستفتح كلامه حامداً الله الذي حمى اليمامة وأعزها بنبيها، وأفاض في الثناء على أهلها وثباتهم، وناشدهم أن يعينوه بقوة على محمد شريكه في الرسالة، ليستخلصوا نصيبهم من بين يديه.
ثم أعلن أنه سيعرض عليهم معجزاته الناطقة برسالته، لتطمئن قلوبهم.
تنفس الجمع الحاشد، ونظر بعضهم إلى بعض متلهفين إلى ما يأتي به من خوارق ومعجزات، وكان مسيلمة قد اختفى وراء ستر نصبه بينه وبين الحائط، فرجع وفي يده قارورة داخلها بيضة، كان قد أطال انقاعها في الخل حتى لان قشرها الأعلى، فمدها فامتدت كالعلك فأدخلها قارورة ضيقة الرأس، وتركها حتى جفت ويبست، وكلما انضمت استدارت حتى عادت سيرتها الأولى قال: هاكم آية من آياتي نزل بها عليّ الرحمن، ترتفع عن قدرة البشر.
بيضة كبيرة، غير مقشورة، في قارورة.
أجيبوني بآبائكم، من أدخلها فيها غير ربكم.
أم هل فيكم من يفعل من ذلكم شيئا؟ وناول القارورة أحد الجلوس، فتقاذفتها الأيدي، متأملين المعجزة العجيبة، والبدعة الغريبة. ثم دار بعينيه في دار (مجاعة) فرأى زوجاً من الحمام مقصوص الريش، واقفا على عود في حائط كانت الأعوان قد هيأته لتلك الفرصة، فالتفت إلى مجاعة وقال له: - إلى كم تعذب خلق الله بالقص؟ ولو أراد الله للطير خلاف الطيران ما خلق لها أجنحة، وقد حرمت عليكم قص أجنحة الحمام فقال مجاعة كالمتعنت -: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطائر الساعة. - فان أنا سألت الله ذلك، فطار وأنتم ترونه، أتعلمون إني رسول الله إليكم؟ - أجل: أجل - أريد أن أناجي ربي، وللمناجاة خلوة فانهضوا عني، وإن شئتم اختليت به وراء الستر ودعوت الله ثم خرجت به اليكم وافي الجناحين ولما خلا بالطائر أخرج ريشا كان قد هيأه، فأدخل كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص من عند المقطع - ولما أتم جناحيه خرج به وأرسله على رءوس السامر فرفرف عليهم - فصاحوا معجبين، ونهض منهم خلق كبير، يبايعه ويشهد الله على ما في قلبه، وانفض السامر وقلوبهم شتى، ولكنهم جميعاً أخذوا يفيضون فيما رأوا وما سمعوا. وفي غداة اليوم التالي دخل مجاعة على مسيلمة، فرآه مشرق الوجه، فما لمحه مسيلمة حتى اندفع إليه قائلاً: - ماذا كان من أمر القوم بعد ما رأوا الأعاجيب أمس؟ - منهم المصدق ومنه المكذب ومنهم دون ذلك.
ولا يخفى عنك أن فيهم من رأى اعجب من آياتك في سياحاته وتجاراته على أيدي الكهان والسحرة وغير هؤلاء. - وماذا ترى؟ - محمد جاء بقرآن ليعقل به ألسنة العرب ما بقيت في افواههم، وليسلبهم بسحره ألبابهم، ولا أرى إلا أن تصنع كلاماً ككلامه. - ما أبعد روق الشامخ على الطرف! كلما صعدته إليه ارتد البصر حسيرا، هذا يا صاح يعقد لساني - ولا أكتمك شيئاً - انه جل عن أن يبدعه قلب من لحم، ولسان من عضل، وإنما هو آية كخلق الله تعجبنا وتطربنا، كما تشهدنا على عجزنا. - ولكن قومك يطلبون منك آية كقرآن محمد، وهم لد الخصام.
وما دمت زعمت مشاركته في رسالته - فهات كتابك مثله بيمينك، وإلا عبثت بك العيون. - حق ما تقول، إذن نحاول، ولكن أين الظهير؟ - ربما تكون العناية قد لحظتنا، فقد قدم علينا صباح اليوم رجل من المدينة على دين محمد حسن السمت، سليم الطوية، قد هم فتيان من العشيرة أن يقتلوه، ولكن استبقيته لعلنا نستفيد منه في أمرنا.
فيزعم أنه صاحب الرجل، وقد حفظ كلامه، وقرأ بعينه صفحة جهاده. - وكيف نملك قلبه؟ - بالمال؟ - وما يدريك الوصول إليه؟ - بلوته فوجدته رطب العود قريب الغور - وماذا نأخذ منه؟ - يسمعنا قرآنه فنقيس على الآيات مثلها، ونصب في القوالب ما يملؤها، - كيف والعرب صيارف كلام، يقلبون الكلمة ويحكونها كالدينار لا يخدعهم وشمها، أو يخطف بصرهم وسمها - اجتهد أن تكن مزيفاً ماهراً، فهذا ما لابد منه مادمت تصر على رأيك. - نعم لابد من صنعاء، ولكن ألا ينفعنا في سبيل آخر، فنلقي إليه أن يزعم أن محمداً أخبره بأني شريكه في رسالته، وقد بعثه إلي بذلك النبأ. - نعم ما رأيت، وأظن أن الإبل والشاء كفيلة بأن تركبه الصعبة وهو الذلول كما أعلمتك. اجتمع نفر من بني حنيفة في ساحة من القرية تحن شجرة ليستروحوا بفيئها ساعة الهجير، وهم أخلاط في أسنانهم ونزعاتهم، ابتدأ أحدهم يقول: - بالأمس قدم رسول محمد فأعلن على رؤوس الأشهاد أن مسيلمة شريكه في رسالته - فهنيئاً لليمامة بصاحبها. آخر - الآن لزمته الحجة، فتثاءب شيخ من الجلوس وقال: وما يدريكم أن الرجل رسول محمد، وأنه أرسله لذلك الشأن، وكيف جاء اليوم وقد ظهر أمر محمد من سنين، أبعد ما جاهد وكابد، وصار له النقض والإبرام، يعلن شركة مسيلمة؟ فهل كان الأمر والخطوب به مكتنفة، والأعداء له متربصة، فيستعين بشريكه، ويحمله نصيبه في جهاده.
ما أحسب ذلك إلا خدعة. فدارت عيون القوم وقد انبسط فريق منهم لهذا الكلام الذي أجلى المبهم فكان كالبرق في الظلمات وانقبض آخرون.
ولكن الشيخ أخذ يقول: وما ذلكم الكلام الذي ينحله الله؟ أأعجبكم قوله في الضفدع: (يا ضفدع بنت ضفدعين.
نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين،)
.
أي عجيبة أبانها في الضفدع، وأي حكمة اظهرها؟ أمرها بالنقيق فهل رآها أمسكت عنه؟ ولعله أعجب بنغماتها فأثارت أشجانه، وحركت بيانه، فصار يستوحيها، ويطلب المزيد من هديرها. - إن أنكرت بيانه يا عم فكيف تنكر آياته الشاهدة التي لمستها أعيننا.
أتراها قد خانتنا فأرسل منها الكذب إلى نفوسنا وخيل إلينا. قد كنت في ذلك السامر يا ابن أخي، فهاج سخريتي بكذبه الفاضح، أرأيت البيضة والقارورة يزعم أن الله أدخلها! فلم أدخلها وراء أظهرنا ولم لم يخرجها أمامنا؟ ورأيت الحمام المقصوص كيف زعم أن الله ينب له ريشا في ساعة.
ما باله لم يسأله ذلك أمام أعيننا؟ وهل لا يجيب الله داعيه إلا بخلوة؟ فتحوا أعينكم يا قوم فلا تضلوا انه لعمري ليس بمتنبئ صادق ولا بكذاب حاذق. - أصوات: مه مه! أيها الشيخ لقد كبرت.
ولئن كان كما تزعم لنتبعنه، فكذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر - قد محضت لكم نصيحتي وأنا شيخ كبير قد تقلب وجرب.
وأخشى أن تسندوا باطلا فيقع عليكم، أو تشعلوا نارا فتكونوا وقودها، - فنظرة إلى محمد وقرآنه تجدون اللبن الصريح.
ولعمري إن نفسي لتنزع إلى دينه كما ينزع الفطيم إلى ثدي أمه.
ولكني أخشى.
- فتيان ينهضون - لقد خرف الشيخ آخرون باقون معه - لا ضير عليك من هؤلاء فأنهم سفهاء يتبعون أول ناعب. فتى يتحدث إليه - قديما ظننت في مسيلمة البركة فأحضرت له وليدي ليباركه غداة يوم فدعا له بطول العمر فما جاء الأصيل ألا وقد كفنته بثوبه الأصفر آخر - وجارنا أمسى له بغلامه فمسح له رأسه، فما مضت أيام ثلاثة حتى لف فيه القرع - وأمتنا المريضة ذهبت إليه لتستشفي فكأنها ذهبت إلى حتفها - وأنا أعتقد ضلاله.
ولكن يكبر على نفوسنا أن نمد أيدينا لمحمد، كما يكبر علينا أن نحاربه أو نؤذي قومه.
ونخاف الفتنة إذا ما غزانا فلا ندري أنحارب معه اخوتنا، ونقضي على بني عمومتنا، أم نحاربه وهو أقرب إلى قلبنا، أم نمسك ونعتزل فيظن بنا الجبن والعار، ونصير مضغة الألسنة في حينا؟ الشيخ - حقاً أنها لحيرة يا بني.
فلننتظر ما تأتي به المقادير، ويفعل الله ما يريد. سمع مسيلمة بقدوم خالد إليه فاستنجد ببني حنيفة، فتبعه أربعون ألفاً لعزته وعصبته، وفر قوم من وجهه، وكرهوا أن يشهدوا مقارعة الباطل للحق، وقبعوا في واد ظاهر القرية وأخذوا يتجسسون الأخبار فرأوا قادماً عليهم - مم قدمت يا فتى؟ - من القرية. - أشهدت خالداً وصحبه؟ - كنت بين ظهرانيهم. - ما عندك فيه؟ - انه ليعسوب قريش وفتاها، ولئن طاولته الكواكب لأحسب أنه ينزلها من منازلها، ما تقولون في عقل سديد، وقلب شجاع، وأمر مطاع. - وكيف رأيت صحبه؟ - شباب مكتهلون، أشداء على أعدائهم، رحماء بينهم، أبصرتهم موهنا متثنية أصلابهم على كتابهم، فسمعت منهم دوي النحل، وأزيز المرجل، وشهدتهم في المعمعة ينظرون الشزر ويقذفون الجمر.
فرأيت النار المحرقة، ليستعجلوا حتفهم مرضاة لرِبهم طامعين، في الجنة والحرير، والملك الكبير. - وما فعل مسيلمة بهم؟ - قارعهم فلما أثخنوه جراحا ولى ظهره واستقبل (عقرباء) وتحصن بحديقته - تلك حديقة الموت، وهل حسب القصر يضم جيشا - انه لغمر. هو ما تقول - فتقدم خالد إليهم بجيشه، ووضع السيف في رقابهم.
فهلك مسيلمة ومشيخة قومه ونادى مناد: الله أكبر - وما فعل قومك بعد؟ - دخلوا في دين محمد أفواجاً وسموا مسلمين.
وقد تركت أكابرهم يتحملون إلى أبي بكر ليبايعوه ويشهدوه على إسلامهم. - الآن نكون معهم. أبو بكر - ويحكم، ما هذا الذي استنزل منكم ما استنزل؟ - يا خليفة رسول الله لقد كان الذي بلغك مما أصابنا، كان أمر لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه - هل فيكم من يحفظ من أسجاعه؟ - أجل - يا ضفدع بنت ضفدعين.
- ويحكم.
ان هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين يذهب بكم؟ - بربك حسبنا عدلا.
كان ما كان، واليوم تبنا وأنبنا واشهد بأنا مسلمون. احمد احمد التاجي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢