أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 2 - الجارم البريء للأستاذ حبيب الزحلاوي ركنت إلى الريف أبيع سلعي لا أنفق إلا نادراً في شراء سيجارة أو كوبة شراب أو إرضاء رغبة متواضعة، وإن هبطت المدينة فإنما أهبطها لأدفع ما علي من دين لعميلي أو أودع في المصرف ما يتبقى معي من مال أخذت أرقام ريالاتي تزداد أسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، فصرت أسخو بتحويل عشرات منها لوالدي ولأنيسة لم يكن شيء في الوجود يعادل فرحي حينما كنت أقرأ كتاباً وارداً من والدي يقول أبي في خاتمه، (أما خادمتك أنيسة فتهديك السلام وتقبل يدك). كنت اغتفر لوالدي تمسكه بعادات أصيلة واعتبارات تقليدية في كينونة المرأة، وكنت أطلق أعنة خيالي تجول في عوالم الرؤى أتصور نفسي ملقى عند أقدام (خادمتي) أنيسة أقبل يديها. اجل يا صاحبي كنت ابعث بكتاب فيه تحويل مالي وألحف في طلب وصل بالاستلام لأقرأ تحيات بريئة ساذجة ولازمة مستحبة لا يحيد والدي عن تسيطرها بالنص الواحد في كل كتاب: (خادمتك أنيسة تهديك السلام وتقبل يدك). اتقدت نيران الحرب العالمية عام 1914 وامتدت ألسنتها المحرقة إلى جميع أرجاء العالم القديم، أما العالم الجديد، ة برغم اشتراكه فيها في الساعة الأخيرة، فقد راجت أسواقه التجارية وعم الرخاء كل الناس.
كنت أن أعجب من شيء فعجبي من أخبار كانت تنشرها صحفنا العربية في أمريكا عن بؤس الناس في لبنان وموت بعضهم جوعاً، ولم يكن يخامرني شك في أن أنيسة المحبوبة ووالدي العزيزين ابعد من أن ينالهم ما ينال الناس الذين تكلمت الصحف وأطالت في وصف حالهم!.
انقطعت أسباب الاتصال بيني وبين أهلي، ولكني كنت أغالط نفسي، أتعمد المغالطة، فأرسل الرسائل والتحاويل المالية كالعادة إليهم بدون انقطاع، واتهم إدارات البريد بالتقصير في القيام بالواجب، وكنت أطمئن إلى المغالطة المستحبة لتحيد بي عن مجابهة الحقيقة.
وما كادت أجراس الهدنة تدق معلنة رجوع الإنسان إلى وعيه وانعتاقه من وحشيته التي لابسته طوال أربعة أعوام، حتى عقدت العزم على العودة إلى الشرق.
عند سفري إلى أمريكا كان الأمل يحدوني، وقد افتر لي ثغره وابتسم، فصار حين عودتي منها إلى وطني يحدوني الشوق والفرح، فهل ينضحاني يا ترى بأنداء السعادة؟ كنت في الذهاب استحث الباخرة لتصل بي إلى ميدان الجهاد والعمل، وقد توسلت إليها في الإياب أن تسرع السير لأصل إلى مقام الحبيبة، مقر الوالدين، فهل يلازمني الحظ في هذه المرة أيضاً؟ كان دنو الباخرة من الشرق ينسل خيوطاً من غشاوات غالطت نفسي في تبين ما وراءها، ويلقيني في غبش صبح يتنفس الريب والشكوك، وكثيراً ما كنت أستيقظ من أحلامي، وانفض صور الذعر واطرد الخيالات المرعبة، ولكنني كنت أتجلد وأبتسم!.
كل شيء في ميناء الوطن باق على ما كان عليه، إلا مظاهر مجلوبة، ورطانة مقتبسة، يممت المدينة، لم ألتفت إلى همة ناشطة في حركة البناء والتعمير، بل شقت سيارتي طريقها إلى الجبل.
صدمتني مشاهد بيوت خربة وقرى مهجورة، أما قريتنا (كفر شيما) مسكن الحبيبة أنيسة فقد كانت مثالاً بارزاً للأطلال الدارسة.
أين أبي وأمي؟ أين أنيسة؟ أسأل الجار ولا جار، وسألت الناس وإذا بهم غير الناس.
جبت الدساكر المتناثرة حول القرية.
لجأت إلى دير (القرقفة) إلى القساوسة، استعنت بالعجائز على التعرف على أهلي وأقربائي ففزت منهم بفيض من الأخبار المرتجلة والأكاذيب المفتعلة، والحيرة الكبرى!؟ ذهبت إلى مدينة (زحلة) أسال عن أمي وأبي فقيل لي: إنهما رحلا عن المدينة منذ سافرت! قد يكون الموت اخترم والدي الشيخين، ولكن أنيسة، الريانة الشباب، الغريضة الصبا، هل يقوي الموت اللعين على أن يمد لها يداً؟ هذا محال بل المحال هو هذا! نهض من مكانه يتمشى بخطوات واسعة، ولما عاد إلى مجلسه كنت أتخيل إمارات الهلع ترتسم على محياه فتحل عقدة صبره، وإذا بجبينه تعلوه مسحة من أمل.
فقال بصوت حازم: لا يستنيم الأمل في نفسي ولا يهجع.
سأترصد الرجاء وأقاوم شبهات اليأس، وأجد أنيسة.
سأجدها لأني أرى بصيصاً من روحها يشع في أعماق نفسي، وأصغي إلى هاتف روحها يدعوني، إذن سأجدها.
استعادتني أشغالي المتعطلة إلى أمريكا.

استغرقتني الأعمال أو كادت تنحرف بي عن اتجاه بصيص أمل كنت أتطلع إليه.
كان خيال (أنيسة) يلازمني دائماً، في الفراغ وفي العمل، ولم اكن أذكر والدي المسكينين إلا قليلاً، أستنزل عليهما الرحمة أو أكلف قسيساً إقامة الصلاة على روحيهما.
لم يكن نداء أنيسة آتياً من وراء المجهول، بل كنت أسمعها وأراها وأحس بها تتقلب على اذرع الوجود! هل تزوجت؟ أشقية هي؟! وفي يوم من أيام ربيع عام 1937 لج بي لاعج خفي فنازعتني نفسي ودفعت بي - على الرغم مني - إلى العودة إلى الوطن أعيد الكرة في الاستقصاء والاستخبار.
لم أمهل عقلي ليهديني إلى الممكنات ويريني المستحيلات، بل لبيت الهاتف الخفي وعدت إلى لبنان.
وفي صبيحة يوم بينما كنت أصعد الجبل إلى كروم العنب والتين، إذا بي ألقى فتاة تحمل سلة على كتفيها مغطاة بورق الدوالي.
نظرت إليها فإذا بها وضاحة المحيا، ساجية الطرف، مليحة المعارف.
استوقفتها فأجفلت.
لمحت في عينيها نور نفس أنيسة.
صرخت على الرغم مني: أنيسة، أنت أنيسة.؟! وقفت الفتاة مبهوتة تجيل نظرة حيري من عينين عقيقيتين مغرورقتين بدموع وقالت: لست أنيسة يا سيدي، بل اسمي أنا يمنى، أسمي يمنى. يمنى! يمنى من! أين أمك ومن هو أبوك؟ ألقيت أسئلتي بنبرات سريعة جافة كادت تربك الفتاة، ولكني استدركت الأمر بتهدئة اضطرابي فتعمدت الابتسام لأدخل الطمأنينة على نفسها، فقلت هل لك أن تحدثيني عن والدتك وأين هي الآن؟ قالت بصوت مختنق: تعيش أنت يا سيدي! لقد ماتت أمي ومات أبي من زمن بعيد.
قلت: أتذكرين صورة أمك وما وصفها؟ قالت مات والدي قبل اكتمال وعيي، وكل ما أعرفه عن أمي أنها ماتت نفساء وأنها تدعى أنيسة الخشناوي، أما أبي فارمني لا يحسن أحد نطق اسمه.
واستطردت كأنها أحست تشوقي إلى الاستطلاع فقالت: إن عائلة بطرس بك قد ضمتني إليها، وقد نشأت واستيقظت نفسي بين أولاده وخدامه. كادت عبارتها في وصف يقظة نفسها تشغلني من غرضي وقد أحسست بعاملين قويين وثبا علي وأغارا على مشاعري: عامل الأمل، وقد تحقق بلقيا هذه الفتاة التي لاشك أنها ابنة أنيسة، وعامل نفساني يماثل يقظة الحب التي استيقظت حين رأيت أمها إلى جانب والدتي ساعة الوداع في الهجرة الأولى.
رافقتها إلى بيت مخدومها، وإذ كنا في الطريق كنت ألمح فيها الطمأنينة الطفل إلى جوار أمه، وكانت الأفكار، والصور، والتخيلات، ومرائي الماضي والحاضر والمستقبل تتعاقب على ذهني فتزدحم فيه وتكتظ.
طلبت من بطرس بك يد خادمته (يمنى) فلم يمانع في الطلب بل علقه على الرضا زوجته التي كان يعز عليها فقد خادمتها اليتيمة التي لا تليق بمقامي المرموق.
لم ادع (يمنى) تشعر طوال أيام الخطوبة أنى كنت أعرف أمها، وقد غام أو كادت تمحي من ذهني صور الماضي التي تقمعت وانبثقت متجسدة في شخص (يمنى).
أخذت أوقظ نفسها وأشعرها، رويداً رويداً، بوجدانها الذاتي كإنسان له كامل الحق في وجوده وحريته في الحياة.
كانت تصغي إلى أقوالي بوعي وتتلقفها بعينيها، صرنا نقرأ الكتب فاندمجت روحها بروحي، وما عتمت أن تحولت من تلميذة نجيبة إلى فتاة تدرك وتدري وتتذوق وتتمرد.
كم تمنيت مطاولة الزمن لأيسر لها مجال الروح في حلبة الحياة بدراية وفرح، وكنت أنسى فوارق العمر وقد ناهزت الخمسين، وهي تشرف على العشرين.
لذلك أسرعت إلى عقد إكليلي وقد تطوع بطرس بك وزوجته أن يكونا (إشبينينا) في الزوج، وقد أصرت زوجة بطرس بك على إلباس عروسي (فروة) المشيخة إجلالاً لفتاة يتيمة انتقلت إلى مصاف الطبقة العليا. صمت محدثي قليلاً وقد علت وجهه سحابة غبراء، ولكن ما لبث حتى أشرق جبينه وقال: جعلت أن أنا الرجل الكهل فاتحة غرام لزوجتي الصبية وقلت: أترى تكون بنيتي هذه خاتمة غرامي كما كانت مقدمة كتاب حياتي؟ كان مجرد هذا الخاطر وقد داهم ذهني ليلة الزفاف، كافياً لأن يبعث في حيوية بكراً، ويدفعني إلى أن آلي على نفسي وقف وجودي وما أملك على زوجتي ابنة حبيبتي.
كم تمنيت في ساعات الغبطة والهناءة التي كانت تقضيها زوجتي على أن تطبق بأصابعها أجفاني فأنام اسعد نومة أبدية، ولكن سرعان ما كنت أنتفض مذعوراً إذ أتخيل استجابة أمنيتي فاقبض بذراعي القويتين على جسم زوجتي البض اللدن أتشبث به كالطفل، أتمتم بكلمات متقطعات أغمغمها بلا وعي استحياء منها ومن نفسي الملتاعة.
لا تعجب يا صاحبي إذا قلت لك أني أحيا بشخصيتين، وأعيش بماضيين، وقد كنت أقوى على صهر زوجتي في بوتقة لا دخل فيها ولا زيف، وعرفت السعادة معرفة حسية، واستبدلت أنواعاً منها عامة شائعة بنوع لدنى روحي بحت.
أذكر يا صاحبي فوارق العمر، تنوع الاختبارات، ولا تنس فواصل العقل ونزعات المشاعر، ولك أن تقدر بعد هذا اضطرابي وخلجات نفسي ووساوسي ليست سوى مجرد أوزان قلقة لرجل شارف الخمسين من عمره ليعيش في جنون العشرين.
ضحكت طويلاً من الزمن وانتقمت كثيراً منه! وسخرت من تقديرات أناس يعيشون في الضباب ويقدرون علة في زهرة لم تتفتح أوراقها في الربيع، حاسبين وجوب انطباق علم النبات على علم الإنسان، جاهلين النفس وعجائب الغريزة وأسرار الروح، وقد تفتحت أكمام روحي في غبر فصل الربيع.
سنحت التفاتة مني فلقيت رفاق الباخرة، الأمريكان الطلعة مشرئبين كان أعناقهم تمتد إلينا لتسمع آذانهم حديثنا، وكانت هذه الالتفاتة سبباً لانتشال محدثي من أعماق نفسه.
أشعل لفافة وأخذ ينظر إلى حلقات دخانها تغني في الهواء.
لم أكن أجرؤ على مطالبته بإتمام حديثه.
أطفأ سيجارته ثم التفت، فلمحت ابتسامة باكية ترتسم على فمه وقال: انقضى الصيف والخريف، ثم الشتاء والربيع، وأنا قابع في داري ارتع بنعم تفيضها علي زوجتي المحبوبة، مشمولاً بعناية خاصة منها، وكانت كلما طمأنت نفسي بالغبطة تهيئها بغريزتها لغبطة جديدة، وهكذا كنت أرى الأوضاع مقلوبة كأني أنا ولست هي الطفل الخليق بالتدليل! لم اكن زوجاً بل أباً، ولم تكن لي سوى أبنه معبودة وكان هذا الإحساس المختلط يحفزني إلى إشعارها بأني زوج قبل كل شيء، وكان الحياء يصدني تارة، وتارة أخرى يدفعني إلى إثبات رجولتي وكان من جنوني كلما داهمني إحساس تخاذل أو فتور، إنما الشعور بالتخاذل في مثل هذا الحال يخلق الحركة العنيفة دون وعي، أطلقت السيادة للجسد، وجعلت العقل خادمه المهمل، أسمع يا صاحبي لا شيء يجعلنا ننحرف عن سبيل هدى الطبيعة سوى عنعنات العقل، أليس كذلك؟ واستطرد.
كدت أغرق عند شاطئ الغريزة غير حاسب إنها أوسع وعياً من إدراك الحكيم! أقول لك يا صاحبي إن الغريزة امرأة، والمرأة إرادة والإرادة تحايل على البقاء والخلود، ولكل هؤلاء غاية واحدة هي (حفظ النسل) وقد تجمعت هذه الادعاءات وانسجمت متوحدة في ذهني حين همست زوجتي في أذني، (إنا سنصبح أبوين) سوف أصبح أباً؟ يا لجنون السرور، بل يا للسرور المجنون! أحقاً يكون لي ولد له لطف الملائكة ولغتهم وصفاء السماء وتفتح الزهرة؟ إذن سأسميه باسم المرحوم والدي سيبقى اسم عائلتنا بعدي إلى الأبد، ولكن أتراني أعيش حتى أراه رجلاً يستعجله الطمع في الاستيلاء على أموالي؟ سيان عندي.

سأعود للعمل وأضاعف ثروتي لا لتكون حجاباً بين ولدي الفاقة، بل سلماً يتوقل عليه ليبلغ قمة المجد الزمني.
هذا ما جال في خاطري ساعة وافتني البشرى السعيدة.
غدوت يا صاحبي في فردوس من الغبطة والسعادة يرف على خمائلها خيالي الفياض، وتبدع في زخرفتها وتنميقها تصوراتي.
لم اكن ذلك الراعي وقد صدمت هراوته جرة السمن فاندلقت أحلامه، وتلاشت آماله وأمانيه، بل كنت ذلك المحارب الهمجي الظافر لم يصده التهم عن الأسلاب والسبايا ولم ينتقص الحرص والحيلة من ادخاره استعداداً لحرب مقبلة.
عادت إلي أطماعي طافرة وتنبهت هواجسي وظنوني، خلت الأيدي التي تعمل في إدارة أعمالي تنهب خيراتي، وصور لي شيطان الحرص أن عمالي الأمناء ائتمروا بوالدي ليحرموه ما كسبته طوال أعوام الشباب بعرق الجين وادخرتها له وحده! (البقية في العدد القادم) حبيب الزحلاوي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢