أرشيف المقالات

على هامش النقد:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 خواطر متساوقة في النقد والأدب والأخلاق للأستاذ سيد قطب كنت أعد مقالي للرسالة عن (مليم الأكبر) كتاب الأستاذ (عادل كامل) حينما وصل إليّ منها العدد الأخير، فقرأت فيه كلمة الأديب الفاضل (فوزي سليمان) الموجهة إليّ في باب البريد الأدبي عن الناقد بين الكتب والشخصيات.
وقد رأيت في هذه الكلمة ما يدعو إلى البيان المفيد.
ولم أجد بأساً من تأخير الكتابة عن (مليم).
فهذا الشاب الفقير (مليم) قد صار من أغنياء الحرب كما يقول مؤلفه.
وحسب أغنياء الحرب ما هم فيه من ثراء، ولا ضير عليه حين يتأخر نصيبه من الأدب.
بل لعله لا يحفل مطلقاً بهذا النصيب!!! ثم إنّ له لدينا حساباً عسيراً عن أخلاقه وأعماله وآرائه.
ومن حقه علينا وقد أصبح من الأثرياء أن نفرغ لحسابه بما يناسب المقام!!! يقول الأديب الفاضل: (لاحظت في سلسلة مقالاتك النقدية عن (عالم القصة) أنك تكرر في كثير منها قولك: (إنك لا تعرف - ولم تر - شخوص أغلب من تتحدث عنهم.
ويبدو هذا غريباً في نظري، فالقصة - في هذا اللون بالذات من ألوان الأدب - لاشك أن لشخصية الكاتب وحياته الأثر القوي في إنتاجها.
) ثم يقول: (فلم لا تحاول أن تخرج من عزلتك، وتتعرف إلى من تكتب عنهم.
بل وتكون معهم صداقات روحية.
فإذا أمسكت بقلمك بعد ذلك لتتحدث عن إنتاج لهم جمعت بين الصورة والأصل، كما أنك ستخدم تاريخ الأدب المعاصر، فتترك للأجيال المقبلة صوراً حية قوية من حياة المفكرين والكتاب المعاصرين) وهذا كلام صحيح في مجموعه، وإن لم يكن ضرورياً في كل حين وأنا قد قلت شيئا منه في مناسبات سابقة: فمنذ أثنى عشر عاماً كنت أقدم الديوان الأول لزميلي وصديقي الشاعر (عبد العزيز عتيق) - وكنت وإياه ما نزال طالبين - فجاء في مقدمتي هذه الفقرات (أعتقد أنني أحق إنسان بأن أكتب هذه المقدمة لديوان (عتيق) وأنه لو لم يطلب مني وضعها لتقدمت أطلبه منه.
ذلك أني قد أكون أعرف الناس بشخصيته، وبالعوامل التي تختلج في نفسه، والظروف التي تحيط به؛ وما كان هذا الشعر إلا صدى لهذه المجموعة، وصورة أخرى لها.
ولقد قاسمته كثيراً من هذه العواطف التي سجّلها الديوان؛ وشاركته كذلك بعض ظروفها.
والذي لم أكن موافقاً عليه من ناحية نسجه ومنحاه، كنت موافقاً على الظرف الذي انبعث عنه، والعاطفة التي أملته (وإني لميال إلى اعتبار شخصية الشاعر جزءاً من ديوانه، - إن لم تكن هي كل ديوانه - فمعرفة الناقد بشخصية من ينقده أمر ضروري له في تحليله.
وهو إذا لم يعرفها استعان على معرفتها بآثارها المكتوبة.
فإذا قلت: إنني قد أكون أعرف الناس بشخصية صاحب هذا الشعر، كان ذلك معادلاً للقول بأني أحق إنسان يقدمه للناس. (وأنا اليوم حينما أريد أن أعرف صدق الشاعر في التعبير عن شعوره - وهو عندي مناط الشاعرية - لا أجهد نفسي في التحليل والتمحيص.
وتخريج المعاني ومراجعة الأحاسيس.
كلا! فإن لدي صورتين حاضرتين: صورة صاحب الديوان وتصرفاته في الحياة وأفكاره وخواطره ودراسته.

الخ.
وصورته الأخرى المخطوطة في ديوانه.
وما عليّ حين أشاء معرفة صدقه من كذبه، إلا أن أوازن بين الصورتين، فينماز المشوه والدخيل.
وتتبين مواضع التزييف والمغالطة، أو تستقيم الصورتان وتنعدم الفروق.
) وأنا اليوم على هذا الرأي مع اختلاف في التطبيق والتفسير.
فالصدق الفني - كما أفهمه اليوم - ليس من الضروري أن يحقق الصدق الواقعي.
وحسبه أن يبلغ صدق الإحساس بالحياة وصحة الشعور بالطبيعة، وأن يعبِّر بعد هذا عن الخلجات المستسرة في الضمير، وإن لم يطابق تصرف الفنان الظاهر للعيان! فهذه الصورة المستسرة هي الصورة الفنية مترجمة إلى لغة التعبير على أن العجز لسبب ما عن تحقيق الشيء في عالم الواقع، كثيراً ما يقود الفنان لتحقيق ذلك الشيء في عالم الفنون.
سواء أكان سبب العجز شخصياً أو كونياً.
مثال ذلك شاعر أو قصاص مندفع بحكم بنيته أو وراثاته أو مزاجه إلى الارتكاس في حمأة الشهوات؛ ثم نجده يتغنى بالمثل الرفيعة أو يرسم شخصياته نماذج للترفع أو الصوفية.
لهذا الفنان عالمان: عالم الواقع الملموس، وعالم الرغبات المكنونة.
وعالمه الفني هذا العالم الأخير.
إنه ذو شخصية مزدوجة، نعلم ذلك من صورة شخصه، ومن صورة فنه.
وليست إحداهما بكاذبة وهنا يكون للمعرفة الشخصية قيمتها في تحليل هذا الازدواج! والموانع الكونية شبيهة بالموانع الشخصية.
وصرعاها أكثر وأكثر.
وما المدينة الفاضلة والطوبى العصرية وأمثالهما إلا من صنع هذه الموانع الكونية، والرغبات الكونية كذلك.
فأنا حريص على أن أعتقد أن للكون رغبات مضمرة في التسامي المطلق تمثلها رغبات الأفراد الفانين! ولست كذلك ممن يخشون غلبة الملابسات الشخصية على الأمانة الأدبية في النقد - إذا أنا عرفت أشخاص المنقودين - ولا ممن يخشون اتهام بعض القراء لي بأن لهذه الملابسات دخلاً في توجيه النقد، تحت تأثير الصداقات والخصومات! وقد وقفت قبل أحد عشر عاماً كذلك ألقي محاضرة عن (وحي الأربعين) ديوان الأستاذ العقاد في (رابطة الأدب الجديد) فبدأتها بهذا التمهيد: (أود قبل أن أتحدث عن (وحي الأربعين) أن أعلن إليكم صداقتي لصاحب (وحي الأربعين)! وأن هذه الصداقة شرط أساسي للدراسة والنقد - ولاسيما نقد الشعر ودراسته - فأنت لن تستطيع فهم الشاعر وتحليله حتى تتصل بقلبه وعقله، ولن يتاح لك الاتصال بهما حتى تكون صديقاً للشاعر، وحتى يكون بينكما تواد وتعارف قديم. (وربما جهد غيري في مثل هذا الموقف أن ينكر صلاته بالرجل الذي يتحدث عنه، أو ربما جهد أن يعلن إليكم انه تخلص من صداقته، ليخلص إليكم برأيه البريء! (أما أنا فلا أنكر! وأما أنا فلم أحاول التخلص من هذه الصداقة؛ لا.
بل إني لأعلن إليكم أنني اتصلت بالأستاذ العقاد لأستوضحه بعض النقط، ولأتأكد من بعض ما كنت في شك منه. (ولست أخشى من هذه الصداقة - على أشدها - أن تؤثر في رأيي.
لأن لي صداقة أخرى أقوى من هذه الصداقة.
وهي صداقتي لضميري.
لا.
بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى.
) وأنا اليوم بعد أحد عشر عاماً كما كنت يومذاك بفارق واحد.
وهو أنني لم أعد أعني اليوم - كما كنت أعنى يومذاك - بإعلان (صداقتي لشخصيتي وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى.
) إنني لم أعد أحرص اليوم على مقاومة الفناء في الشخصيات الأخرى، لأنني عدت أكثر اطمئناناً لعدم الفناء! وإني لأعرف اليوم أن صيحتي يومذاك إنما كانت صيحة الخائف الذي يحدث نفسه في الظلام، وينفي عنها الأوهام ليشعر بالاطمئنان!!! لقد كنت أتحدث يومها عن العقاد.
وكانت شخصية العقاد هي الشخصية الوحيدة التي أخشى الفناء فيها - كنت أحس هذا بيني وبين نفسي - ولقد ظلت هذه الخشية إلى وقت قريب حينما بدأت أشعر أنني قد تخلصت.
وأنني أنتفع بالعقاد ولكنني لا أقلده.
وأن لي طريقاً ألمح معالمه وأستشرف آفاقه.
وأنني أتذوق بحسي، وأنظر بعيني، وأسمع بأذني.
وإن كان للعقاد فضل التوجيه في الطريق العام. عندئذ بدأت أسكت عن كل اتهام.
وبدأت أتحدث عن أستاذية العقاد لي وتلمذتي له، وبدأت أسخر من بعض (شبان) الجيل الذين يحسبون هذا مطعناً إليّ منه الغمزات! فأؤكد لهم التهمة التي يلمحون بها أو يصرحون! وإني لأضحك وأسخر من الكثيرين، الذين كلما رأوا أنفسهم ينتفعون ببعض الشخصيات، خافوا أن يضبطهم الناس متلبسين فراحوا يعلنون تجاهلهم التام أو خصومتهم القوية لهذه الشخصيات، على طريقة السذّج من المتهمين الذين إذا سئلوا: هل سرقتم من بيت فلان؟ كان الجواب: إننا لم نعرف فلاناً هذا ولا بيته في يوم من الأيام! وبعد فأنا أرى الآن أن المعرفة الشخصية قد تكون ضرورية في أحيان، وغير ضرورية في أحيان؛ وذلك حسب طبيعة الفنان، فبعضهم يغنيك بما يكتبه عن معرفته لأنه يكتب ما يشبه الاعترافات كابن الرومي والمازني.
وبعضهم لابد أن تعرفه وبعضهم تزيدك معرفته علماً بفنه.
تلك خلاصة رأيي في النقد والمنقودين، فإذا كان الأديب الفاضل لاحظ أنني ذكرت عدم معرفتي لبعض من كتبت عنهم من الشبان، فإنما كان ذلك لأنني لم أعرفهم فعلا؛ ولم تكن لدي الفرصة لمعرفتهم من قبل.
كل ما هنالك أنني وجدت بين يدي أعمالاً أدبية تستحق التنويه؛ فلم يكن من الميسور أن أتعرف إلى أصحابها لأكتب عنها مقالة عابرة.
ورأيت أن أكون أميناً، فلا أدعي معرفتي الكاملة لهذه الشخصيات، ولا أزعم أن ما كتبته هو كل ما هنالك.
فأعلنت أنني لا أعرفهم، وهذا يتضمن في طياته بعض العذر إذا كنت لم أحط بكل جوانبهم. ومنذ عامين لديّ كتاب عن (المدارس الأدبية المعاصرة) وما يؤخرني عن كتابته إلا استيفاء بعض الدراسات الشخصية لأبطاله.
وقد استطعت أن أجمع عن كثب معظم ما أريد جمعه عن (العقاد وتوفيق الحكيم) وشيئاً مما أريد جمعه عن (طه حسين.
والمازني) وقليلاً جداً عن (المنفلوطي والزيات) ومتفرقات عن (تيمور وحقي ولاشين) وآخرين.
وبعد ما أستوفي هذه الدراسات - لا قبله - سآخذ في الحديث عن (المدارس الأدبية المعاصرة).
ولو صرفت عامين آخرين.
فأنا أقدر قيمة هذا العمل وأعرف ما هو مطلوب مني إزاءه.
ويومها سأحقق ما يقترحه عليّ الشاب الأديب. سيد قطب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣