أرشيف المقالات

فوضى الأدب في مصر

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للدكتور محمد صبري تكلمت في مقال سابق عن التبعة التي تقع على عاتق مجلاتنا الأدبية الكبرى، من جراء تيسير نشر مقالات (لكتاب) معروفين بالفهم السقيم والغباوة.
وقد خشي قوم أن نرمي إلى الحد من حرية النقد، والواقع أنه لا نقد في مصر قد نقرأ في الصحف من آونة لأخرى مقالاً قيماً مفعماً بالرزانة والاعتدال، وسطاً بين الإفراط والتفريط، ولكن الشاذ لا يمكن اتخاذه قاعدة في الحكم على الأشياء.
وقل أن تجد كاتباً في نقده الكتب يدرسها ويحللها كما يفعل كتاب الغرب.
وأكثر ما نرى الإفراط في المدح تارة، وفي الذم طوراً.
ومن الغريب أن كتابة أولئك النقاد لا يمكن (مناقشتها) لأنها لا تستند إلى منطق من الذوق أو الفهم، وإنما تستند إلى شهوة تدفع صاحبها إلى الكتابة إرضاء لغاية شخصية أو إرواء لغلة حسد أو حقد تأكل صدره وخير لأولئك النفر أن يريحوا أنفسهم قليلاً فانهم لن يبلغوا الجبال طولاً، ولن يخرقوا السماء أو الأرض بقلمهم، ولن يقف الفلك الدوار من جراء ما يكتبون وفي مصر (كتاب) كثيرون يتوهمون أنهم في مقدورهم أن يأخذوا الشهرة غلاباً، وأن يسخروا التاريخ لتسجيل ما تكتبه عنهم الصحف، أو ما يكتبونه هم عن أنفسهم في الصحف، وما ينتحلونه من صفات، كأن يدعوا أنهم من (كبار) الكتاب.
وإني لأذكر بهذه المناسبة أن ممثلاً أعلن عن نفسه مرة أنه (الممثل العالمي) وأعلن عن شوقي في الوقت نفسه أنه (شاعر النيل).
ولما كان العالم يسع النيل والسين والطونة والرين ومئات الأنهار والبلاد أخذت شخصية شاعرنا تتضاءل شيئاً فشيئاً، بينما وقف الممثل كالمارد الضخم يطأ بإحدى رجليه المشرق وبالأخرى المغرب.
وقد وقع كثيرون من رجال السياسة في عين الخطأ الذي وقع فيه بعض رجال الأدب، فأصبحوا يعتقدون أن الدعاية هي كل شيء، وأنها (تصنع) التاريخ كأنما كان التاريخ عبداً (نلقنه) ونأمره بكتابة ما نريد فيطيع.

ناسين أن التاريخ هو أمس واليوم وغداً، وإن الفلك يدور، وأنه في دورته يغربل الحوادث والرجال، ويضع الأمور في نصابها، وأن حياة الأمم مكونة من أجيال فإذا ظلم جيل أنصف جيل، وأن الناس متباينون في طبائعه ومذاهبهم، وأن هذا التباين نعمة لا نقمة لأنه يكفل نظام البقاء ويمنع الاستبداد بالحياة والشهرة واحتكارهما واغتصاب العظمة وما إليها ولاشك أن الذوق الأدبي قد ارتفع مستواه في مصر، ولكن مصر يعوزها ذلك الجمهور المستنير الذي يزين بلاد الغرب، وبعبارة أدق وأبين أن أكبر نقص يعتور حياتنا الاجتماعية هو عدم وجود نخبة وافية من رجال العلم والأدب والسياسة وهو ما يسمى هذا فيما يتعلق بالقمة، أما فيما يتعلق بالقاعدة فيلاحظ عدم وجود طبقة متوسطة.
وكل حياة سياسية أو أدبية لا تستند إلى هذه النخبة وإلى تلك الطبقة، فهي حياة مختلة التوازن فعدم وجود النخبة الكثيرة العدد مثلاً يفسح للمجال أولاً للتحاسد والنزاع بين الأفراد بعضهم وبعض في دائرتهم الضيقة المحدودة، ويفسح للأدعياء طريق التسلل في قطرهم وقلب المقاييس والأوضاع وكلنا نذكر أن زعيماً كبيراً مرض ذات يوم، وكان مرضه مرض موت، فهرع إليه من الأطباء الحابل والنابل والصغير والكبير.

وكانت دقة الحالة تستدعي بالطبع أن لا يذهب إليه إلا الراسخ في صناعته المقدم على أهلها، وأن يتنحى الصغير للكبير عن مكانه دون النظر إلى رتبة يحملها أو لون سياسي يتباهى به.
وسبب هذه الفوضى هو كما قلنا عدم وجود نخبة وافية من الأطباء تؤلف كتلة متزنة في نظامها وهذه الفوضى نشاهدها في الأدب كما نشاهدها في الطب ونشاهدها في جميع أنواع الحياة العامة في مصر.
والعجيب أن الأدعياء يجدون صحفاً ومجلات تنشر لهم.
والأدعياء في مصر فريقان: فريق المتأدبين الأغبياء الذين يحاولون الوصول بكل الوسائل ظناً منهم أن مجرد الحصول على (شهادة) أو مجرد تأليف كتاب أو ألف كتاب يكفي لاكتسابهم صفة الأدباء.
وفريق الأدباء الذين وصلوا بطرق ملتوية إلى الشهرة واغتصبوها اغتصاباً، فألئك يزعجهم ويقض مضاجعهم أن يتنفس أو يتكلم كل أديب صادق النسب، فهم لا يفتأون يتقلقلون ويتململون وراء ابتسامتهم الصفراء فالأديب في مصر لا يجد عوناً من أهل صناعته، ولا يجد عوناً من الجمهور، لأن الطبقة المستنيرة لا تعد إلا بالمئات في حين أنها في البلاد الغربية تعد بمئات الآلاف.

بل ولا يجد عوناً من أصحاب المكاتب والناشرين، فأكثر الأخيرين أميون أو شبه أميين لا يهمهم من نشر الكتب إلا الربح والتجارة ولو ظهرت الكتب مشحونة بالأغلاط ممسوخة.

وقد عرض أحدهم على مؤلف قبل الحرب أن يطبع له كتاباً ويعطيه خمسة جيني! وأكثر كتبنا تباع في بلاد الشرق والأقل منها يباع في مصر.
وأكثر الكتب رواجاً هي بلا شك الكتب الدينية.
وتجد الجمعيات المستشرقة في أوربا أكبر عون في حكوماتهم لطبع الكتب العربية النادرة، ولذلك فإن أهم دواوين العرب وآثارهم.
كان أول ظهورها في أوربا، وأوربا هي التي أحيت آدابنا ونشرتها نشراً علمياً، هذه حقيقة مؤلمة تجب مواجهتها وفي مصر لا تتألف جمعية علمية أو مجمع أو معهد ثقافي أو لجنة استشارية إلا ويصبح فيها أصحاب الأبهات والمناصب أكثرية، ورجال الفن أقلية، والظل الأعوج يتبع العود الأعوج. محمد صبري

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن