أرشيف المقالات

على هامش ذكرى المعري

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 (داعي الدعاة) مناظر المعري للدكتور محمد كامل حسين - 3 - استجاب إبن صالح المرداسي صاحب حلب دعوة المؤيد؛ فدخل المؤيد حلب ومعه خزائن الأموال والسلاح والخلع ومكث مدة يستريح ويدبر أمر ما هو مقدم عليه، ثم أخذ يرسل الكتب إلى أمراء العرب والأكراد يستميلهم إليه وإلى المذهب الفاطمي ويدعوهم للقيام لنصرته ضد طغرلبك؛ فأستجاب له بعضهم مثل ابن مروان صاحب ديار بكر وابن الأحزم الخفاجي صاحب الكوفة وابن قائد صاحب واسط ووعدوه جميعاً بإمداده بالجند كما أقاموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي، وقد حفظ لنا المؤيد في سيرته نص رسائله إلى أمراء العرب وجوابهم له مما يجعل (السيرة المؤيدية) وثيقة تاريخية لها قيمتها لمن يدرس العالم الإسلامي في القرن الخامس من الهجرة سار المؤيد ومعه خزائنه وجيوش ابن صالح حتى بلغ الرحبة حيث البساسيري وجيوشه، وخرج البساسيري ومعه أمراؤه للقائه، وفي ذلك يقول المؤيد (إلى أن لقينا أبو الحارث البساسيري والعسكر البغدادي على رحلتين من الرحبة، وإذا هم قد ضربوا مصافهم وضرب خيلنا مصافه؛ فرأيت العسكر تلاحق ميمنة نحو الجبل وميسرة طرف الفرات، وسمعت الأبواق تخرق الحجب بالأصوات، ورأيت أقطار الهواء كأنها صبغت حمراء وصفراء من أصباغ الرايات، ودخلنا الرحبة دخولاً عليه من آثار السعادة وسم، وتجاوزناها إلى شاطئ الفرات فنصبنا الخيام ووسطت جمعاً جمع كل قاطع زقاق، وكل جلال من الناس ودقاق، تراموا إلى تلك البقعة من كل آفاق تركي وكردي وعجمي على اختلاف الجنس وعربي من كل طامع ذي ناب من الطمع حديد) أخذ المؤيد بعد ذلك العهود والمواثيق على الأمراء، وخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم يشاهدوا لها مثلاً، ووهب كل فريق نصيبه من الأموال؛ فكان بعضهم يأخذ نصيبه شاكراً، وبعضهم كان يستقل القدر ويرده طمعاً في المزيد، وتذمر أكثر الجنود وطالبو بزيادة العطاء، وانتشر دعاة السوء بينهم، فحاول المؤيد أن يرضيهم بالحسنى فلم يوفق.
وأخيراً اضطر إلى أن يأنبهم وأن يسامحهم باليمين التي أقسموها بين يديه وأظهروا أن الأمر إنما هو أمر الدين قبل كل شيء؛ فعادوا جميعاً يعتذرون إليه وجددوا اليمين بين يديه، وبعد أيام دعا أبا الحارث البساسيري وخلع عليه وقرأ عهده على الناس في يوم مشهود.
ثم علم المؤيد أن نور الدين بن مزيد الأسدي وهو رجل العرب إذ ذاك وأكبر أمرائهم قد نقم على طغرلبك، فانتهز المؤيد هذه الفرصة وكاتبه ليحثه على اللحاق به والانضمام إليه؛ فذهب ابن مزيد إلى الرحبة ومعه جماعة من العلماء والأمراء، وأخذ يفاوض المؤيد في شروط الانضمام إليه وتحالفه معه، كما أوعز ابن مزيد للعلماء بمناظرة المؤيد أمامه في بعض المسائل الدينية والمؤيد مضطر إلى أن يصطنع الصبر، وأن يداهن ابن مزيد ومن معه، حتى قبل ابن مزيد بعد لأي أن يقسم يمين بين يدي المؤيد؛ فكتب المؤيد له العهد ولقبه (بالأمير سلطان ملوك العرب سيف الخلافة صفي أمير المؤمنين)، ومع ذلك كله أخذ ابن مزيد يطالب المؤيد بأمور من شأنها أن تقسم الجيش وتبعد ابن صالح والمؤيد يقابله بشيء من المكر والدهاء، ويحاول أن يسعى بين ابن صالح وابن مزيد، ولكن سعيه (كان سعي امرئ بين ضباع تتهارش، وذئاب تتجارح وتتحارش) فالجيش كما قلت كان من أجناس مختلفة ومذاهب متباينة تدب فيه روح التشاحن والتباغض، مما جعل المؤيد يصبح ويمسي في التوفيق بينهم، وفي ذلك يقول المؤيد (وكنت أصبح وأمسي في أثواب من انقطعت به الحبال، وضاعت على يده الأموال، وضاقت به من الهم السهول والجبال، غير أني أظهر في خلال ما أقاسيه جلداً، ولا أشعرت بحزازات صدري أحداً، وازداد الأمر سوءاً بورود نجدة من دمشق من بعض الأمراء الكلبيين الذين سرعان ما ضجوا وتذمروا زعماً منهم بأنهم جردوا على أن يشهدوا جيش القبائل العربية خارجاً عن جماعة الأتراك والأكراد، فاضطر المؤيد إلى أن يغريهم بالأموال الجزيلة، وأن يضاعف عطاءاتهم، فساروا مع باقي الجيش إلى أن ظفروا بالانتصار على جيوش طغرلبك في رمضان سنة 448 في موقعة سنجار، وهي الموقعة التي أشار إليها ابن حيوس الشاعر بقوله: عجبت لمدعي الآفاق ملكاً ...
وغايته ببغداد الركود ومن مستخلف بالهون يرضى ...
يذاد عن الحياض ولا يذود وأعجب منهما سيف بمصر ...
تقام به بسنجار الحدود بانتصار المؤيد في هذه الموقعة استطاعت جيوشه أن تدخل الموصل في شوال، واستطاع كذلك بعض الأمراء الذين ترددوا من قبل في محالفة المؤيد أن يسارعوا بالانضمام إليه وشد أزره، وأن يقيموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي صاحب مصر ولكن الجيش عاد إلى الانقسام وأنفصل عنه بنو عقيل، وتبعهم عدد كبير، وانتهز طغرلبك هذه الفرصة فأسرع للانتقام منه، كما أن الكندري وزيره أخذ في الاتصال بالأمراء الذين انضموا للمؤيد، وأخذ الكندري يخدعهم ويمنيهم بالولايات المختلفة فاستجاب له بعضهم، ولما رأى البساسيري حالة جيشه اضطر إلى الهرب؛ فتشتت بذلك شمل جيش المؤيد الذي كان في الرحبة، وكان يظهر للناس جلداً ويشجعهم ويقوي من نفوسهم ويحاول لم شعثهم.
أما في قرارة نفسه فكن كما وصف نفسه، (وأنا في باطن أمري متكفن متخبط أنتظر تخبط الأيدي لي من كل مكان، وأجمع أمري على أنه إن دهمني ما أحذره رميت بنفسي في جانب البر؛ فلا أزال أضرب فيه إلى أن يحضرني حاضر الجوع والتعب والعطش فأهلك، وإن أدركني طالب من جهة العدو أبيت أن أعطيه قيادي دون أن أقطع قطعه قطعة تفادياً من أن أقاد إليهم حياً).
وأمر المقربين إليه بالابتعاد عنه، أو الهرب من الرحبة خوفاً عليهم من سطوات العدو.
وأخيراً اضطر المؤيد نفسه إلى أن يهرب من الرحبة؛ فدخل حلب سنة 449 ومكث بها يترقب ويكاتب الأمراء والقواد، وفي حلب ناظر المعري في مسألة تحريم أكل اللحوم، وهي المناظرات المتداولة المعروفة.
وسنتحدث عنها فيما بعد أخذ المؤيد في إرسال الرسائل للأمراء يستميلهم إليه مرة أخرى، ويعدهم النصر على أعدائهم، وكان على صلة بالبساسيري الذي لم ييأس، بل جمع إليه بعض الجند، وكاتب المؤيد يطلب مقابلته دون أن يفطن أحد إلى هذا اللقاء، فتقابلا في دير حافر، (وهي قرية بين حلب وبالس)، واتفقا على الخطة التي يجب أن يسيرا عليها حتى ينجح مسعاهما.
ثم جاء إلى المؤيد وفد من قبل إبراهيم بن نيال يطلب من الظاهر الخضوع لطغرلبك، وفي الباطن يطلب من المؤيد أن يخلع على ابن نيال، ويلقبه إذا غدر بطغرلبك، وشايع المؤيد وملك البلاد باسم الفاطميين، فرحب المؤيد بذلك، وأمر البساسيري بالرجوع إلى الرحبة، وتمت المؤامرة بالنجاح، إذ استطاعت جيوش البساسيري أن تدخل بغداد سنة 450هـ.
وأن يدعي على منابرها باسم المستنصر الفاطمي، وأن يأسر القائم بأمر الله العباسي، وأن يصلب ابن المسلمة وزيره عدو المؤيد القديم الذي أرسله الخليفة العباسي لأبي كاليجار البويهي لإخراج المؤيد من شيراز، وقد أظهر المؤيد شيئاً من الابتهاج بصلب هذا الرجل، وظهر ذلك في شعر المؤيد بقوله: وعبوس يوم لابن عباس به ...
لاقى الردى متشخصاً لعيانه إذ بات يعثر في ذيول مذلة ...
يعتاض ضيق الحبس عن إيوانه وأرى على الصاري ابن مسلمة الذي ...
ضجت فم الإسلام من عداوته فسقى الإله سجال رحمته ثرى ...
قبر ثوى فيه أبو عمراته إن ابنه كم من مقام قامه ...
صعبا بثبت جنانه ولسانه في رفع رايات النبي وآله ...
وضرابه لعداتهم وطعانه واتجه المؤيد إلى مصر، وفي الطريق قابله صاحب البريد ومعه أمر من الوزير المغربي بأن يعود المؤيد إلى حلب؛ فدهش المؤيد من هذا الأمر وأخذ يفكر فيه، وأخيراً استقر رأيه على أن يواصل سيره إلى مصر، ولكنه فوجئ بأمر ثان كالأول فلم يأبه وواصل رحيله.
فإذا بأمر ثالث مما جعل المؤيد في حيرة من أمر هؤلاء الذين يحاولون منعه من دخول مصر بعد هذه الخدمات التي أداها لهم، وبعد أن نشر دعوتهم وبسط سلطانهم في قلب أملاك العباسيين، بل بعد أن أزال سلطان العباسيين من عاصمة ملكهم وبعد أن أسر الخليفة العباسي نفسه، وبالرغم من وصول هذه الأوامر إليه فقد أصر على دخول مصر وخشي أن يتخذ في سيره إلى مصر الطرق المألوفة فيفاجأ بمثل هذه الأوامر، لذلك عمد إلى أن يتخذ طريقه في المجاهل، وسار إلى مصر متنكراً في رحلته إليها، كما جاءها متنكراً في رحلته الأولى، فما شعر به أحد حتى رأوه على باب القاهرة فأسقط في يد الوزير ولم يدر ماذا يصنع. يخيل إليّ أن المؤيد لم يجد من الوزير المغربي ما كان أهلاً له وما يجدر بمثله، ولكن الوزير اضطر إلى أن يكل إلى المؤيد أمر الدعوة، وبذلك أصبح المؤيد حجة الدعوة وداعيها المطلق ولقب (بالرئيس الأجل عصمة أمير المؤمنين).
وبذلك وصل المؤيد إلى ما كانت تصبو إليه نفسه وبلغ أعلى درجات الدعوة الفاطمية فقد أصبحت مرتبته تلي مرتبة الإمام مباشرة، ولكنها مرتبة روحية قبل كل شيء، وليس لصاحبها أن يتدخل في شئون السلطة التنفيذية ولا أستطيع أن أحدد المدة التي مكثها المؤيد في هذه المرتبة ولم يحدثنا أحد من المؤرخين عنه، ولم يحدثنا هو نفسه عن حياته بعد سنة 450 هـ، وكل الذي وصلنا أن الوزير عبد الله بن يحيى ابن المدبر (الذي تولى الوزارة مرتين إحداهما في صفر سنة 453 هـ وصرف عنها بعد شهور، والأخرى في ربيع سنة 455هـ وتوفي عنها في جمادى الأولى من هذه السنة) قد طلب إبعاد المؤيد من مصر ونفيه إلى الشام فسير المؤيد إلى الشام وعاد إلى مصر بعد مدة، ولا أدري متى كان ذلك، ولا أشك أن المؤيد أصبح له بعض النفوذ في مصر حتى خشي الوزير سطوته ونفوذه، فاقترح بإبعاده عن البلد ثم نرى بعد ذلك شيئاً من نفوذ المؤيد إذ تولى صنيعته وكاتبه ونائبه في ديوان الإنشاء أبو الحسن بن الأنباري الوزارة سنة 457 هـ ومع ذلك كله فحياة المؤيد بعد سنة 450هـ غامضة أشد الغموض إلا ما كان من أمر علاقته بقاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الذي جاء مصر على رأس وفد من علماء اليمن ومكث في دار المؤيد خمس سنوات وأخذ عنه كل علوم المذهب الفاطمي، وعاد إلى بلاده يبشر بآراء المؤيد وعلومه، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد.
ولا تختلف المصادر في أن المؤيد توفي سنة 470 هـ ودفن في دار العلم بالقاهرة وصلى عليه إمامه المستنصر الفاطمي. (يتبع) دكتور محمد كامل حسين بكلية الآداب بالقاهرة

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير