أرشيف المقالات

البريد الأدبي

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 حول بعث القديم نشرت (الرسالة) بعددها الأخير لأديب أظنه أحد طلبة المدارس تعليقات على مقالي بعث القديم.
ولم يكن هذا المقال يقصد إلى تحقيق جزئيات بل إلى استخلاص حقائق عامة بقيت بنفسي من تدريس الأدب المصري المعاصر بالجامعة.
والظاهر أن الطالب الأديب لم يفهم ما قصدت إليه فحشد كتبه المدرسية ليحتاجني بها قلت: (إننا لم نستطع أن نستخدم الطباعة إلا في سنة 1822) وفي موضع آخر، (إننا لم نستخدمها على نحو مطرد إلا منذ سنة 1822) والمعنى واضح، فالمقصود هو ابتداء طبع الكتب.
وهذا ما يثبته ما نقله جرجي زيدان في تاريخ الأدب العربي الجزء الرابع ص 58 عن بيانكي إذ قال (إن أول ما طبع كان قاموساً إيطالياً عربياً سنة 1822)، وأضاف جرجي زيدان إلى ذلك في نفس الموضع أنه (اطلع في مكتبة محمد بك آصف بمصر على كتاب في صباغة الحرير ترجمة القس رفائيل راهب عن الفرنسية وطبع في بولاق سنة 1822) وإذن فما قلته صحيح.
ومع ذلك يأتي الطالب الأديب فيخبرني مشكوراً أن كتب التاريخ حتى ما كان في أيدي صبية المدارس الابتدائية تذكر أن مطبعة بولاق أسست سنة 1821.
وهذا ما لم أتحدث عنه.
ومع ذلك فأنا أخبر الطالب الأديب دون أن أنتظر منه شكراً أن كتب صبية المدارس التي اطلع عليها كذابة وأنه قد اكتشفت منذ عشر سنوات ببولاق لوحة تركية دون فيها تاريخ افتتاح مطبعة بولاق ونشر صورتها الدكتور إبراهيم عبده في كتابه عن (تاريخ الوقائع الرسمية)، وهي تثبت أن هذه المطبعة قد افتتحت سنة 1819 - 1820لا سنة 1821 كما حدثته كتب صبية المدارس وذكرت أن (أقدم الجمعيات التي تألفت لنشر الكتب وهي جمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860) وإيراد التاريخ على هذا النحو لا يفيد تحديداً ومع ذلك لم يفهم الطالب الأديب فقال وكتبه المدرسية بيده إن مؤسس الجمعية هو إبراهيم بك المويلحي وإن تأسيسها كان سنة 1867 والأمر لم نتركه بغير تحديد إلا لأنه ليس من البساطة بحيث يظن الطالب الأديب، ونحن لم نكن بحاجة لذلك التحديد لتستقيم المحاجة، ولهذا لم نقف عنده.
وفي المرجع الذي أشرنا إليه فيما سبق يذكر جرجي زيدان أن محمد عارف باشا قد أسسها سنة 1868، ولكن نفس المؤلف يذكر في (تراجم المشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) طبعة سنة 1911 جزء 2ص 115 ما يأتي: (اتفق المويلحي مع المرحوم عارف باشا أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى على نشر الكتب على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها وأنشأ هو مطبعة باسمه سنة 1285 لطبع تلك الكتب وهي من أقدم المطابع المصرية.
على أن الجمعية كانت تطبع كتبها في مطابع أخرى وخصوصاً المطبعة الوهبية)
.
والذي يستفاد من هذا النص هو أن المويلحي قد أنشأ مطبعة سنة 1285هـ أي حوالي سنة 1867 ميلادية، ولكن المطبعة شيء والجمعية شيء آخر، وأظن أنه من الطبيعي أن المطبعة لم تنشأ إلا بعد تأسيس الجمعية خصوصاً وأن الجمعية كانت تطبع في مطابع أخرى، والراجح أن اتفاق المويلحي مع عارف باشا كان على طبع الكتب التي تريد الجمعية نشرها في مطبعة المويلحي، ولقد تفادينا في المقال كل هذه التفصيلات التي لا تحتملها مجلة وأخذنا بخصوص مؤسسها برأي زيدان الذي صرح فيه أن المؤسس الحقيقي للجمعية كان عارف باشا، وأما عن تاريخ إنشائها فحيث أننا لم نستطع أن نجزم به فقد قلنا إطلاقاً إنه لا يرجع إلى أبعد من سنة 1860، وفي هذا ما يكفينا لنمضي في محاجتنا هذه هي الوقائع التاريخية.
وأما ما دون ذلك من الآراء التي أوردها الطالب الأديب، فهي لا تستحق المنافسة لأنها مبنية على عدم فهم لما ذكرنا أو خلط فيه لالتماس مجال للكلام.
فالذي نقصده بأسبقية الشعر على النثر في النهوض قائم على الموازنة بين النثر الأدبي الفني والشعر في بدء النهضة.
والنثر الفني الأدبي غير نثر الترجمة أو التأليف، بل إن هذا الأخير نفسه لم يتحرر من الزخرفة اللفظية إلا من عهد قريب، وعناوين الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي ومن يليه بل والكتب التي ألفت كانت مسجوعة مثل (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) للطهطاوي ومع أنه كتاب ذكرياته عن مدة البعثة بفرنسا.
وفي كتاب جواهر الأدب الهاشمي مئات من الأمثلة للنثر الفني الأدبي في ذلك العصر من رسائل شكر على هدايا إلى وصف لفصول العام إلى منظرات بين مدن القطر المختلفة مما يعرفه الجميع صبية المدارس القدماء، وأما عن الطهطاوي؛ فأنا لم أقل إنه أول من بعث القديم.
بل قلت إنه كان يؤمن به ويدفع إليه بحكم ثقافته المستنيرة التي عاد بها من أوربا، وهذا ما أقر به الطالب الأديب بعد أن نفاه وأما عن المعلومات الكثيرة التي سردها الطالب الأديب عن الصحف والترجمة ففي الكتب الأكبر من مراجعه معلومات أكثر منها وهو يستطيع أن يعود إلى كتب برو كلمان وشيخو وزيدان وعبد الرحمن بك الرافعي وغيرهم كثيرين لينسخ صفحات مكدسة بأسماء الكتب والكتاب والصحف والصحفيين، ولا شك أن هذه المراجع أغنى من (المجمل) (والمفصل)، ولا شك أن وضعها في الهوامش يدل على علم أغزر واطلاع أوسع.
وهذا لا ريب خير من المهاترة التي ضيعت على الطالب الأديب ما كنت أود أن أتبسط معه في شرحه وإيضاحه لو أنه قصد إلى فهم ما لم يفهم بدلاً من التخبط والتناقض الباديين في مقاله المضحك محمد مندور عمرو بن العاص استعرض الباحث النابه الأستاذ سيد قطب في صحيفة النقد بالعدد 281 من مجلة الثقافة، مؤلف (عمرو بن العاص) للكاتب الجليل عباس العقاد؛ فجلا روائعه أحسن جلاء يستوجب جزيل الشكر وعاطر الثناء ولقد رأى مخالفة المؤلف في عدّه عمرا من عباقرة الأخلاق لأنه لم يكن عظيما في أخلاقه، ولكنه لم يدعم ما ارتآه بدليل على أننا لا نظن أن شيئاً من هذا يجل عن أن يقف عليه أستاذنا العقاد ولو قد وقف لكان له من أخلاق عمرو موقفه الصائب الحكيم ومما يشهد لعلم الإسلام بسمو سجاياه وجلال فضائله؛ قول إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر: صحبت عمرو ابن العاص فما رأيت رجلاً أبين منه قرآنا، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه. دسوقي إبراهيم تلاشي أخذ الأستاذ الشيخ علي محمد حسن في عدد سابق من الرسالة، على بعض الشعراء استعماله كلمة (تلاشى) وذكر أنه لا يعرفها في لسان العرب وطلع علينا العدد السابق بمحاولة يرمي الكاتب فيها إلى تصحيح هذه الكلمة، وكلها نقل عن مجلة المجمع من بحث للأستاذ الجليل النشاشيبي وهي تدور على قطبين، أولهما وجود الكلمة في النهج، ونقل الشارح كلمة (لشا) عن بعض أئمة اللغة - فأما وجودها في النهج فإن أول من يدفع الاستشهاد بما فيه هو أستاذنا النشاشيبي، وأمر الخلاف فيه بيّن، ويكاد الإجماع الأدبي ينعقد على أن بعض ما فيه عن كلام الصدور بمنأى.
وأما وجود (لشا) فغير مدفوع، بيد أنه لا يقتضي بحالٍ وجود تلاشي، والأستاذ خبير بأن جمهرة المزيدات غير مقيسة، ثم هذا التحول في المعنى ماذا أحلَّه - فإن (لشا) من الضعة والخسة، وأختها أو لصيقها (تلاشى) من الاضمحلال والقطب الثاني هو ورود الكلمة في كلام المؤلفين الثقاة، ولكن متى كان كلام المؤلف - مهما كان موثقاً حجة ثبيتاً - قاطعاً في ثبوت كلمة لغوية، ودليلاً على أنها صريحة النسب في اللسان العربي كثر أولئك الذين روي لنا عنهم الكاتب ناقلاً عن الأستاذ الجليل، ولكنها كثرةُ قِلَّةٍ لا تأتي بقطع دليل، ولا بغير برهان وكأنها إلى معاونة النفي أقرب منها إلى مؤازرة الإثبات. كامل السيد شاهين المدرس بمدرسة رأس التين الأميرية الاتحاد والحلول ووحدة الوجود كثرت المناقشات حول وحدة الوجود في الأعداد السابقة من الرسالة الغراء، واتجهت في آخر كلمة للأستاذ الفاضل دريني خشبة إلى الرغبة في تحديد وجهة الخلاف وبيان مقدار سلامة أو عيب دعوى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود ولست أريد بهذه الكلمة الرد على الأستاذ دريني أو الأستاذ المفضال زكريا إبراهيم وإنما أقصد بها عرض هذه القضايا عرضاً موجزاً مع مناقشتها والرد عليها فإن فكرة التصوف الأصلية بعيدة كل البعد عن ترهات الحلول وضلالات الاتحاد وظلمات الوحدة، فقد ظل مذهب التصوف غير مشوب بها إلى القرن الثالث حيث تمكن واشتد اختلاط المتصوفة بغلاة الشيعة القائلين بدعوى الحلول فنقلها عنهم متأخرو الصوفية الذين قال بعضهم بأن السالك إذا أمعن وتوغل وجاهد فعبر (لجة الوصول) وانتهى سلوكه إلى الله وفي الله واستغرق في بحار التوحيد وكان صادقاً في هذا السلوك؛ فإن الله (عند أصحاب هذه الدعوى) قد يحل فيه! هذا وقد ظهر الاتحاد والحلول عند النصارى فقد قالوا بأن الله تعالى ثلاثة أقانيم هي الوجود والعلم والحياة وهي ما يعبر عنها (بالأب والابن والروح القدس) وتفصيل ذلك معلوم كما أن هناك جماعة من غلاة الشيعة، رأوا جواز ظهور الله في صورة بعض الكاملين من الناس وقدموا بطبيعة الحال سيدنا علي على سائر الكاملين، كما قدموا أيضاً أولاد سيدنا علي ولئن فرض علينا التحقيق العلمي دراستها كتراث عقلي إنه ليفرض علينا أيضاً التأمل في بطلانها والرد عليها وإنا لنقول بصدد الرد على دعوى الحلول والاتحاد إن الله واجب والواجب يتنزه عن صفات الحلول وأن الحلول محال على الله تعالى لأسباب كثيرة؛ ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث ثم إن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول، لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعاً لما حل فيه كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثراً به، بل إنه ليصبح في غير الإمكان تصور الحال إلا بتصور المحل! وإذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى ثم إن الله واجب الوجود، والواجب ليس عرضاً أو ليس جوهراً.
فإذا كان الحلول حلول عرض في جوهر؛ فلا يمكن بالنسبة لله تعالى لأنه ليس بعرض، وإذا كان حلول جوهر في جوهر؛ فلا يمكن أيضاً لأن الله تعالى ليس بجوهر .

هذا من ناحية الحلول، أما من ناحية الاتحاد؛ فكما تنزه الواجب عن الحلول، فهو يتنزه عن الاتحاد، لأنه لو حدث أن اتحد الواجب يغيره نتج عن ذلك حالتان: إما أن يبقيا موجودين، وإما أن يدركهما العدم معاً ويخرج منهما ثالث أو يدرك لعدم أحدهما ويبقى الآخر ففي بقائهما موجودين: فهما إذاً في هذه الحال اثنان متباينان متمايزان، وهذا التمايز ينافي الاتحاد، لأن الاتحاد يستلزم أن يصبحا واحداً وفي عدمهما معاً يبطل الاتحاد، لأن المعدوم لا يتحد بمعدوم، وفي حالة عدم أحدهما فقط فإن الاتحاد لم يتحقق أصلاً أما وحدة الوجود فمذهب أحدثه في الإسلام متأخرو الصوفية المتكلمون فيما وراء الحس، وخلاصته أن الله تعالى هو الموجود المطلق وأن غيره لا يتصف بالوجود أصلاً، فلو قيل إن الإنسان موجود فمعنى ذلك عندهم أن له تعلقاً بالوجود وهو الله تعالى.
وإن جميع العوالم سواء اختلفت أنواعها وتباينت أجناسها وأشخاصها موجودة من العدم، وإن وجودها هذا محفوظ عليها بوجود الله تعالى وليس بنفسها لأنها معدومة من جهة نفسها بعدمها الأصلي، ومن ثم فوجودها الذي هي به موجودة في كل هو وجود الله تعالى فقط، وإن الوجود الحق هو عين ذات الحق أي الله تعالى، وهو واحد لا ينقسم ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتنقل ولا يتغير ولا يتعدد أصلاً، ثم هو مطلق عن الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان.
هذه خلاصة وحدة الوجود، وإننا لا ننكر كون العالم موجود بقدرة الله وإرادته، ولكن يجب أن نفرق بين وجود الله وهو وجود أزلي لا بداية له ولا نهاية، ووجود العوالم وهو وجود حادث له بداية ونهاية ثم إننا أيضاً نسلم بأن وجود العوالم مسبب عن الله تعالى ولكن لنا أن نقرر أن هناك فرقاً كبيراً بين السبب والمسبب والعلة والمعلول وأغرب ما في الأمر أنهم بعد أن أثبتوا أن وجود الله (لا ينمو ولا يتبعض ولا يتجزأ) أجاز لهم منطقهم بعد ذلك توزيع هذا الوجود على أفراد الموجودات، وحلوله فيها حلولاً أزلياً!! وبعد: ففي هذا القدر الكفاية، وللأستاذ الفاضل دريني الشكر على غيرته، وللأخ الكريم الأستاذ زكريا الإعجاب بحيويته.
ألهمنا الله الصواب (الإسكندرية) حسين محمود البشبيشي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن