أرشيف المقالات

في معرض الآراء

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 للأستاذ عباس محمود العقاد مرت بنا في هذه الأيام آراء كثيرة حول الكتابة والكتاب وحول التأليف والمؤلفين، منه ما يفيد للمناقشة فيه والرد عليه، ومنه ما يفيد للدلالة على بعض الإفهام والأذواق.
وفيما يلي طائفة من هذه الآراء، على سبيل التمثيل لا على سبيل الحضر والاستقصاء من ذلك قول الأديب الحجازي الأستاذ عبد القدوس الأنصاري إنني أستدل على حماقة بثينة بحديثها مع عبد الملك بن مروان حين قال لها: ما الذي رأى فيك جميل؟ فقالت الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك! ويقول الأديب: (والذي يلوح لي أن إجابة بثينة لا تنبئ عن حمق، بل هي تشف عن حصافة رأى ورجاحة عقل.

فعبد الملك إنما سألها بما سأل مبكتاً غاضاً من جمالها وقادحاً في جميل.

إلى آخر ما قال وخطأ الأديب في هذه الملاحظة راجع إلى نسيانه أول الحديث الذي تناقلته كتب الأدب ونقلناه فقلنا: إنها دخلت على عبد الملك بن مروان (فرأى امرأة خلقاء - أي حمقاء - مولية) فقولنا إنها لم تخل من حماقة منظور فيه إلى هذه الرواية المتناقلة لا إلى السؤال أو الجواب بينها وبين عبد الملك، وقد يكون في جوابها قصاص سريع من عبد الملك، ولكن الأجوبة المسكتة كثيراً ما صدرت من الحمق والمجانين قم قال الأديب عبد القدوس يشير إلى كلامنا في رسالة جميل بثينة: (يقرر الأستاذ خطأ مدرسة الاستحسان التي تقرر بأن من وصف محبوبه بأنه كالشمس أغزل ممن شبهه بالبر أو كوكب من الكواكب.

بيد أنه خرج من ذلك في الصفحة 78 إلى أن قول جميل: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ...
وفي الغر من أنيابها بالقوادح ينأى به عن اتباع المذهب الاستحساني في تغزله.
والذي يبدو لي في هذا القول أنه ليس فيه ما يجافي جميلاً عن المذهب المذكور) وخطأ الأديب في هذه الملاحظة راجع أيضاً إلى نسيانه المدرسة الغزلية الأخرى التي تكلمنا عنها وهي مدرسة الرقة في خطاب المحبوب أو في التحدث عنه.
وقد نسي أيضاً أن الذي يتمنى التشويه لمحبوبته لا يرضى مذهب الاستحسان بهذا التمني.
وقد قلنا معترضين: (إن جميلاً - مثلا - أبطل المبطلين في عشقه وغزله عند مدرسة الاستحسان أو مدرسة الرقة.

لأنه سأل الله تشويه ما هو حسن في عيني حبيبته وثغرها وهما أجمل ما يتمنى له الجمال في وجه محبوب) وعلى أية حال لا مساس في هذا ولا ذاك بالحقيقة التي نقررها وهي أن الاستحسان غير العشق وغزل العشاق، لأن الإنسان قد يستحسن ولا يحب، بل قد يجمع الكره والاستحسان، وقد يتمنى تشويه محبوبه ليتركه له الناس كما ضربنا المثل بأمنية جميل وأمنية كثير، وهنا موضع الإشارة في كلامنا إلى مدرسة الرقة ومدرسة الاستحسان وننتقل من هذا الكلام إلى يحسبه كله كلاماً فارغاً ويحسبنا نحن الكتاب أو النقاد رجعيين جامدين لأننا نحفل في هذا العصر بشعر عمر بن أبي ربيعة أو شعر جميل، ومن جاراهما من الشعراء فقد حمل إلى البريد مجلة أسبوعية على موضع منها علامة حمراء تومئ إلى حديث دار بين المجلة وبين آنسة من الطالبات أو (الأديبات) السوريات سئلت فيه عن رأيها في أدباء مصر فقالت: (مما يؤسف له أشد الأسف أن معظمهم رجعيون.

أفكارهم.

كتبهم.

مؤلفاتهم.

مقالاتهم.

كلها تدل على أنهم من أنصار الرجعية.
ثم أطلقت الآنسة ضحكة رشيقة وقالت: أنظر.

نحن الآن في عصر الطيارات والراديو والمخترعات الحديثة، ولكن الأدباء ما يزالون يتحدثون عن عصر ابن أبي ربيعة!.
) وبودنا نحن أن نعرف ما هي العلاقة بين الطيارات وإلغاء شعر ابن أبي ربيعة أو شعر غيره من أدباء العصور الأولى هل كان ابن أبي ربيعة صانع دراجات أو مركبات خيل فبارت صناعته باختراع الطيارات؟ هل حلت الطيارات محل النساء اللاتي كان ابن أبي ربيعة مشغولاً بهن فوجب أن يشتغل بمغازلة الطيارات عن مغازلة النساء؟ هل أصبح الناس بغير قلوب وبغير ألسنة لأنهم يركبون الطيارة أو يستمعون إلى المذياع؟ هل ألغي الأوربيون مخترعو الطيارة شعر هوميروس وهو سابق لعصر عمر من أجل هذا الاختراع؟ لا وحق المحروسة الغالية التي تعلم كتاب مصر وأدباءها ماذا يكتبون وماذا يدرسون فالأوربيون الذين اخترعوا الطيارات على أنواعها، والذين شغلتهم الطيارة في كل ميدان من ميادين القتال أو ميادين السلام، والذين يبتدعون الأزياء للعقول والجسوم، لم يتركوا أدباءهم الأقدمين أو المحدثين ليستبدلوا بهم مصنوعات المعامل من آخر طراز، ولم يحسبوا أن هؤلاء الأدباء مرجوعات تباع في سوق (الخردة) كلما ظهر طراز جديد من المصنوعات وإلى يساري الساعة رفوف عليها أكثر من خمسين مجموعة شعرية ظهرت في إبان الحرب الحاضرة بين ضرب القذائف من الطيارات وإطلاق الأسراب بعد الأسراب من الطيارات، وقيام الرؤساء وقعودهم بالحديث عن الطيارات والغارات بالعشرات بعد العشرات بل في هذه المجموعات نفسها قصائد من نظم الطيارين الذين يعيشون على الطيارة ويموتون معها ثم يعودون إلى شعرهم القديم ويذكرون أساطير اليونان الني تحدثت عن الطيران قبل الأوان فلا علاقة إذن بين الطيارة وإلغاء عصر ابن أبي ربيعة.
وإن كان هناك شيء قد صنعه عصر الطيارة على التحقيق فهو أنه لا يقبل الآن ما كان يقبله عهد القرون الوسطى من ثرثرة الكبيرات أو الصغيرات من بنات حواء، لأنهن بنات حواء فإذا كانت المحروسة الغالية تفهم هذا فلا تستغرب أن تلقي بعض جزائها على الخوض فيما تجهل وعلى التعرض بذلك الأسلوب لأناس لهم على كل إنسان مهذب حق الرعاية والتبجيل ونستأذن عصر الطيارات مرة أخرى لنرجع إلى موضوع (رجعي) عتيق وهو موضوع اللغة ثم موضوع التاريخ القديم، وكلاهما قد يحرم على المخلوق الناطق في عصر الدوي والأزيز؛ فقد أجبنا الأستاذ الفاضل محمود أبا رية بما نراه في استعمال كلمة الفشل بمعنى الإخفاق، فقلنا: (إن هذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر، لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق) فعقب على هذا عالم فاضل من رجال اللغة عندنا قائلاً في العدد الماضي من الرسالة: (وأنا أقول إن الإخفاق لا يلازم الضعف والتراخي حتما.

فالضعف شيء والإخفاق شيء آخر، ولو صح هذا التقارب بين المعنيين، حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر لجاز أن يطلق الإخفاق ويراد به الضعف أو ما يلابسه من المعاني) ونحن كما يرى حضرات القراء لم نقل أن الإخفاق والضعف شيء واحد، ولكننا قلنا إنهما متقاربان قد يحل أحدهما محل الآخر، فكل ضعيف مخفق في حالة ضعفه وقوة خصمه عليه، وكل مخفق ضعيف في حالة إخفاقه ونجاح خصمه.
ولنا أن نقول إن فلاناً مخفق الرأي ونعني به الضعف الذي يحول بينه وبين النجاح، وليس التحرج في هذا بأنفع من التسهل، وما كان العرب يجهلون إطلاق الكلمة على المعنى لمناسبة قريبة بل بعيدة في أحايين كثيرة.
وحسبنا أن الأستاذ نفسه قد تردد بين التسهل والتشدد في هذا الموضوع لنعلم أن التسهل فيه لا يخلو من حجة يحسب لها حساب وقد وردت علينا آراء أخرى لا نحب أن نعرض الآن لجانب اللغة منها، لأننا نود أولاً أن نحيل صاحب تلك الآراء على المراجع الكبرى ليهتدي إلى صوابه قبل أن نهديه إليه ولكننا نتناول ناحية التفكير من آرائه لأن المجال فيها متسع لشيء من التنبيه والتذكير فقد كتب الفهرسي المجتهد الأستاذ بشر فارس في مجلة المقتطف مقالاً استغرق نحو سبع صفحات منها عن كتابنا (الصديقة بنت الصديق) زعم فيه زعماً لا يقبل الشكر كما قال (إن المؤلف ما أراد أن يولج كتابه في جانب العلم الصرف) وهذا الزعم الذي لا يقبل الشكر هو الزعم الذي لا يحسب من العلم الصرف في شيء لأن الحق الذي توخيناه هو أننا أردنا متابعة العلم في كل حقيقة من الحقائق التي بسطناها، ولكننا لم نولج كتابنا على حد تعبيره - في باب الفهرسيات وما إليها، لأنها صناعة تليق بمساعد في مكتبة علمية، ولا تليق بعالم أن يفرغ لها أو يجعلها كل قسطه من العلم والكتابة ففي كل (دفتر خانة) من دواوين الحكومة كاتب صغير أو ساع يعرف الكتابة والقراءة ويعرف من الرفوف والأرقام ومراجع المواليد والوفيات والمزارع والبيوت والأسناد والعقود ما يستنفد السنوات من حفاظ الفهارس والعناوين ولكنني أؤكد التوكيد الذي لا شكر فيه أنهم لا يحسبون من العلماء والأدباء، ولا فرق بينهم على الإطلاق وبين من يحفظون الفهارس والجزازات ويستخرجونها (عند الطلب) من مواضعها على الرفوف وفي الأمر ما هو أكثر من ذلك وأدعى إلى الحذر والانتباه؛ فإن هذه المحفوظات الفهرسية خطر على التفكير وإصالة البحث قد يعطل الأفكار ويعوق الفهم عن درك حقائق الأمور، لأنه يعود الفارغين لها أن يعرفوا الأشياء بأسمائهم وعناوينها ويغفلوا عن مسمياتها وحقائقها.
ولا خير في ألف عنوان لألف مذهب أو كتاب إذا كانت هي قصارى المعرفة عند جماعة الفهرسيين ومن عوارض ذلك في كلام ناقد المقتطف أنه يذكر مثلاً كلمة النقد الداخلي ويسوقها إلينا كأنها شيء غريب لم يخطر لنا ولا لأحد على بال، لأنه عرف الشيء بعنوانه ولم يعرفه بحقيقته ولبابه.
ولو أنه عرف ما هو النقد الداخلي على الحقيقة واللباب لفهمه في عشرة كتب على الأقل كتبناها عن شخوص مختلفين، وكلها دائرة على النقد الداخلي لطبائع أولئك الرجال.
وليس بفاهم ما هو هذا النقد الداخلي من لم يفهم أنه هو النقد الذي توخيناه ونحن نكتب عن محمد وعمر والصديق وعلي وعائشة وجيتي وابن الرومي وأبي العلاء والمتنبي وسعد زغلول وعشرات آخرين كذلك يقول مثلاً: (كيف تكون عائشة جارية صغيرة على نحو ما وصفتها بريرة - تنام عن عجينها - وهي ابنة ستة عشرة أو فوق ذلك؟) فلولا الفهرسيات لاستطاع ناقد المقتطف أن يفهم ذلك حق فهمه، لأننا كتبنا ثلاثة فصول نقرر فيها أن السيدة عائشة قد نشأت مدللة بحكم ولادتها في الحضر، وبحكم ولادتها في قبيلة بني تميم خاصة، وبحكم ولادتها في بيت الصديق على الأخص، وبحكم الحظوة التي لقيتها في بيت زوجها العظيم.
فإذا كانت فتاة في السادسة عشرة لا تنام عن عجينها في هذه الحال فماذا يسميها الناقد الفهيم؟ أيقال إنها امرأة نصف؟ أيقال إنها عجوز شمطاء؟ إنما الآفة آفة الفهارس كما قلنا، وإنما كان صاحبنا يفهم ما ذكرناه لو أنه ظفر بجزازة فهرسية قيدت عليها كلمة العجين وقيل فيها - مثلاً - (ومن العجين ما تنام عنه الفتاة وهي في السادسة عشرة، كما جاء في ترجمة عائشة - راجع كذا وكذا وكذلك وكذاك.
) ويومئذ يكون هذا هو العلم الصرف وهذا هو التحقيق العجيب.
وإذا كان لهذا الكاتب عذر من قلة الفهم فقد كان ينبغي أن يتجنب قلة الذوق لئلا يجمع بين الفقرين السيئين، وفي واحد منهما كفاية فلا يحسب علينا أن نطيل القول في حديث الإفك دفاعاً وتصحيحاً وهو يطيل القول فيه للتوهين والتشكيك (فنحن نقول (على الذي يقبل وشاية كتلك الوشاية الواهية أن يروض عقله على تصديق أمور كثيرة لا موجب لتصديقها.

عليه أن يصدق أن صفوان بن المعطل كان رجلاً لا يؤمن بالنبي ولا بأحكام الإسلام، وأن يصدق أن السيدة عائشة كانت وهي زوج النبي لا تؤمن به ولا تعمل بدينه) فإذا بالناقد الفهيم يعقب على ذلك فيقول: (والذي أراه أن هذا الاستدلال مجتلب بل محض ذاتي، وذلك لأننا نعلم من طريق المشاهدة والملاحظة أن البشر يتفق لهم أن يزلوا وإن كانوا من أهل التصديق والإيمان) وهذا كلام فيه سوء فهم وسوء ذوق مجتمعان! سوء فهم، لأن المسألة هنا ليست مسألة الزلل وكفى، ولكنها مسألة الشك في اتصال النبي بعالم الغيب وقدرته على كشف الحقيقة مع إنكار المنكرين.
وليس في المشاهدة والملاحظة التي يتشدق بها هذا الكاتب الفهرسي أن امرأة نبي تفعل ذلك وهي مؤمنة به، وتفعله بغير إغراء يستطير الألباب من الرءوس أما سوء لذوق فكفى أن نشير إليه ولا نطيل فيه، وكفى الآن من هذا الموضوع إلى حين. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

المرئيات-١