أرشيف المقالات

الله. والإنسان. والحياة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف - 1 - جددوا الإيمان بالله رب الوجود واهب الحياة كما وصفه القرآن القديم، وحدثنا عن أعمال يده العلم الحديث! فروا من طنين لشكوك والفلسفات الحائرة حول (الموجود الأول) الذي صدرت عنه جميع الموجودات وأنشئت بتدبيره واختراعه، ونسقت بفنه وابتداعه، ودامت بحفظه ورعايته! واعلموا أن مفتاح الشر وباب الضياع هو الشك في تلك الحقيقة الأولية العظمى، والانفلات من قيودها وهي قيود أمانات الحياة كلها! ابدءوا حياتكم الفكرية بالحديث النفسي والقلمي عن تلك الحقيقة لتتعرفوا إلى جلالها وجمالها، ولتطردوا عن أذهانكم وسوسة الشر وشوشرة الباطل ابنوا أساس حياتكم على صخرة تلك الحقيقة الراسية، وقاعدتها العريضة الواسعة؛ لتطمئنوا على أن وجودكم مستند إلى وجود اعظم! وليس وهما طائراً في أجواء هذه القوى العمياء التي يزخر بها الكون المادي. اضربوا في رحاب الحياة ومتاهاتها ثم عودوا إلى مكانكم الأول في أحضان تلك الحقيقة مهتدين بالنور الذي يشع من هيكلها بالعرى الوثقى التي تمتد منها في كل اتجاه إلى الغرقى والضائعين والشاردين! املئوا وجودكم بهذه الحقيقة واجعلوها تستبد بخواطركم؛ فستكونون سعداء بهذا الاستبداد، لأنه استبداد أساس البناء بالبناء كله إن يحدث نفسه بالبعد عن دعامته الأولى؛ فينهار ويذهب هباء تذروه الرياح إنها حقيقة تبعث ذلك الشعور الصادق العجيب بالانسجام مع الكون كله، وحسبكم به من سعادة! وبالاستناد إلى دعائم الكون كله، وحسبكم به من حماية! وبالوصاية على أماناته كلها وحسبكم بها سيادة! وبارتفاع العقل والقلب إلى مستوى رفيع يعلو بنظراتهما ويرحب بخطراتهما ويعمق بأسرارهما؛ وحسبكم بها كرامة! وعلى الباحثين عن مصادر السعادة الفردية والجمعية وعن المسرات الأصيلة في الحياة أ يفتحوا عيونهم وعيون الناشئين في الجيل الجديد على هذه الحقيقة دائماً ويمسكوا بعرى أسبابها، ويعرفوها معرفة الرأي في عقولهم والدم في قلوبهم وعبث لا طائل وراءه، بل عناء ضائع، بل جريمة موبقة أن يتجه محبو الإصلاح بقلوب الناس إلى قطب غير قطب تلك الحقيقة، فإنه لا حق ولا طهر ولا عدالة ولا أمانة إلا في محيطها فليعرف ذلك الذين يدعون إلى تأسيس حضارة نفسية جديدة ويريدون أن يلائموا بين سياسة الاجتماع الإنساني والسياسة التي تتجلى في الطبيعة كلها وحسب الإنسانية ما مضى من تجارب الشرود والجحود واللعب بالألفاظ.
والانطلاق وراء خداع الفلسفات الشاذة وافتنان أرباب (الترف العقلي) الذين يتشهون كل غريب من الآراء يقدم إليهم على موائد الفكر، كما يتشهى أرباب الترف المادي كل غريب يقدم إليهم على موائد البطون - 2 - آمنوا بالإنسان الذي تحملونه في أجسادكم، وتستوحونه في أفكاركم، وتبادلونه ما صح وما فسد من شئونكم! آمنوا به لتؤمنوا بالكون ورب الكون.

فلن يؤمن بهما من لم يؤمن به؛ لأن عقله هو المنظار الذي ترون به كونكم وربكم.
فإذا أهدرتم قيمة الإنسان أهدرتم عقله، فلم يبق لكم ما تدركون به وجودكم وربكم! ولكي تدركوا اللمحات التي تتراءى في أعماق معنى الإنسانية حاولوا أن تتحروا وتتجردوا وتخرجوا من نفوسكم ونوعكم وترصدوا الإنسان بعيون غريبة عنه وتروه بنظرات الملأ الأعلى ممن هو فوقه، والملأ الأدنى مما هن دونه! فأيقظوه لنفسه، ونبهوه إلى امتياز وضعه، وأقروه ما يكتبه الآن على صفحة الأرض واتركوا الجدليات القديمة حول قيمته فقد هدرت شقاشقها حين كان عاجزاً عن شق الطريق أمام فكره اخرجوا من غبار التاريخ القديم، وافتحوا عيونكم على العالم كمخلوقين الآن، تفكيرهم ابن زمانهم هذا، ومنطقهم من وقائع الحاضر انظروا إلى الإنسان في نصابه الأعلى دائماً، ولا تنظروا إليه في حضيضه الأدنى، فإن من طبيعة كل كائن حي أرضي أن يكون له جذر في الطين والعفونات، أو أصل في الدم وبعض القاذورات وإن النطفة التي خلق منها الإنسان أخلاط وأمشاج أخذت من العناصر الحادة والقوى العمياء، ما يجعله منها على اضطراب وابتلاء.

وإن الفرد يحمل في مجاري طعامه وفي أحشائه أوضاراً وأقذاراً نجسه تشمئز منها نفس حاملها، ومع ذلك هو يقنع من نفسه بتقدير الوجه والرأس الذي يحمل الشخصية وقوى الفكر.
فلا تنظروا دائماً إلى الذين هم فضلات في جسم الإنسانية، وتتخذوا منهم (مقطع) النظر إليها جميعاً.
فيحملكم ذلك على التشاؤم والسخط والشك في الخير والجمال الذي فيها هم كالثمار الفجة المعطوبة عطبت وتلوثت، لأنها سقطت لضعف روابطها بفروع الشجرة التي تسمو إننا نحمل اقباساً منيرة مطهرة من عالم الحق والطهر والجمال ولكنها وضعت في أجسامنا: تلك الأوعية الطينية السريعة التعفن.
فمن الناس من يدوم على تطهير وعائه وصقله حتى يستحيل إلى زجاجة شفيفة رائعة تساعد ذلك القبس على السطوع والإشراق ومنهم من يتركه كما هو من غير تطهير وصقل بالعلم والتهذيب فيظل معماً ويحول بين ذلك القبس وبين السطوع الكامل.
ومنهم من يضع في ذلك الوعاء ما يزيده عتمة وكثافة تطغي على ذلك القبس وتمحق شعاعه وتجعله منيع ظلام فلأجل النور! نبهوا كل مصباح إلى رسالته، وحولوا بين الظلام وبين زجاجته.
ولا تحملنكم حياة الظلام الراهن على أن تتشاءموا وتسخطوا وتحطموا ما بقى لكم من مصابيح، فتعيشوا في عمياء نهارها كليلها.
وصدقوا الحياة وكذبوا المتكلمين الذين يعارضونها، ويزعمون أنهم أصدق منها، ويغرون الناس بسبابها وتحقيرها، ويملئون قلوب فتيانها الناشئين بأحاسيس السخط عليها قبل أن ينالهم منها ما يبرر ذلك، ويخلقون لأنفسهم عوالم خيالية منفصلة عن الحياة ومنطقها العملي، ويقذفون بكلمات جوفاء على كلمات البداهة والطبع فيحجبونها عن أنظار القاصرين الذين ينظرون نظراً سطحياً، فيذهبون ضحايا الانخداع بزخارف القول الغرور وأوهام الفكر الشرود والحياة بالغة الحجج مفحمة المنطق جارفة التيار، تدفع الإنسانية دائماً إلى مجراها الذي يعب عبابه وتتضرب أمواجه على رغم هؤلاء المتكلمين المتشائمين.
فلا سبيل إلى الوقوف في وجهها وتحويلها.
وكل من زعم أن منطقه أصدق من منطقها فله ما شاء من زعمه.
أما أبناء الحياة الذين سادوا فيها فلا يعرفون إلا وجه أمهم الواضح القسمات المعروف السمات.
واعتقادي أن الذي جنى على التدين أن الناس حسبوا منطقة الدين منفصلة عن الإحساس العام بالحياة، وزعموا الدين لغير الحياة الدنيا، فجابهوهما بقلب موزع وفكر حائر بينهما، وحاول المتعبدون منهم الفرار من الدنيا قبل أن تستوفي ضرائبها منهم ويستوفوا تجاربهم فيها، وظنوا العبادة فترات انسلاخ من الحياة بالطقوس والرسوم وما إليها من المظاهر التي هي مواقف (استعراض) للمؤمنين لا أكثر.

مع أن لب العبادة هو أن تشعر دائماً في نفسك بفيض الحياة: ذلك الشأن الإلهي العجيب! وأن تتيقظ لفعله في ضربات قلبك وخطرات فكرك، ونبضات خلاياك وهمسات نفسك ولمحات عينك.

وألا تنسى أنك دائماً نتلقى ذلك الفيض من ينبوعه الأعظم إلى أجل.

فيحملك ذلك الشعور الملازم على أن تحافظ على وجودك الذي هو مظهر تلك الأسرار ومشكلة تلك الشعلة، فلا تعطل قوة من قواه، ولا تطمس رسماً من رسومه، ولا تقعد به عن الزحام في مجالات العمل الكريم الذي يذكي شعلة الحياة ويلقى إليها حطباً يشب ضرامها.

والوجود الإنساني الكامل الصحيح هو الذي ينتج الشعور الصحيح والفكر الصحيح والخلق الصحيح والعمل النافع الدائم؛ وهو الذي أنتج وسائل التغلب والسيادة على عقبات الطبيعة، والقدرة على تمهيد الأرض للإنشاء والتعمير، وتخفيف المشقات والآلام؛ وهو الذي حقق تلك (الكرامات) العجيبة الدائمة التي أكرم الله بها الإنسانية على أيدي علمائها الذين جعلوا همهم البحث عن أسرار صنعة الله وقراءة كلماته الظاهرة والباطنة في الآفاق وفي الأنفس ومحاكاة نماذجها. وإذا كانت كرامات الأولياء أمراً مؤقتاً خاصاً بهم، فأن كرامات علماء الطبيعة أمر دائم مشاع للإنسانية جميعها.
فلنعرف ذلك جيداً ليحملنا على الاعتراف بصدق الحياة والإقبال على الكشف عن أسرارها، والإيمان بأن جميع أحلام الإنسانية في السيطرة على شئون الأرض ستحقق قبل انقضاء رحلتنا على سطحها وينبغي ألا نخلط بين شرور الإنسان وبين آلام الحياة التي لا دخل للإنسان فيها حين نتحدث عن صدق الحياة.
فإن الحياة من يد الله بريئة صحيحة قليلة الشر والألم، ولكن الذي يضاعف الشر ويمحو بشاشة الحياة هو الإنسان القاصر الجاهل الناشئ في أحضان السفاهات والجرائم والإهدار لقيمته.

ومن هنا وجب الإيمان بالإنسان وإيقاظه لنفسه أولاً على نحو ما قدمناه في هذا الصدد لكي يحتجب شره وينمو خيره فيظهر وجه الحياة الجميل البرئ، ويظهر وجه الإنسان الكامل المنشود، ويظهر وجه الله الرحمن ذي الجلال من خلالهما حتى يراه كل فكر جحود وقلب كنود! (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق!) وتلك نبوة الحياة الصادقة، يبعثها سر الإنسان الذي نفخ الله من روحه وجعله خليفة في الأرض ليظهر غيوبها ويثير دفائنها، ويلبس بروحه الحية موادها الميتة فيجعلها تحيا بروحه وتفكر بعقله وتخطو بسرعة فكره! (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم! فسجدوا.
)
ذلك هو حديث الزمان يرسله هامساً في أذن الإنسان خلال صيحات وحوش الحديد والفولاذ الرابضة والسائرة والسابحة والطائرة، وبين دوي الآراء والمذاهب الهدامة والفلسفات الشاردة الحائرة.
وأعتقد أنه نداء يجب أن يكون عنوانا لتجديد الدعوة الدينية في هذا العصر الحائر المتهافت، وأساساً فكرياً صالحاً لوصل العقول والقلوب بأعناق الكون ولباب الإنسانية وصدق الحياة! عبد المنعم محمد خلاف

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣