أرشيف المقالات

ذكرى الهجره

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ محمد فريد وجدي إننا إن ذكرنا هجرة النبي ﷺ إلى يثرب في العام الثالث عشر من الرسالة المحمدية، وجب علينا أن نذكر أنها كما كانت فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية، كانت كذلك مقدمة لقيام أمة عالمية، تألفت من طريق الإعجاز على غير السنن الطبيعة، أمة نموذجية لما يجب أن يكون عليه العالم تحت سلطان الأصول الخلقية، ولآداب النفسية، لا تحت حوافز الحاجات المادية والضرورات المعاشية إن اجتماع القبائل لأجل أن تقوم من مجموعها أمة، ليس بالأمر الشاذ في تاريخ البشر، وإن كان يستدعي مقتضيات كثيرة، وآماداً طويلة، فإن الحاجات الحيوية، والمطالب المادية كثيراً ما تدعو إليه وتحتمه.
فالعوامل التي اضطرت الأفراد إلى الاجتماع على هيئة قبيلة لتأمين حياتهم، وضمان معاشهم، هي نفسها التي تضطر تلك الجماعات الصغيرة إلى التآلف والتضامن لتأليف أمة.
وإذا كانت هذه العوامل تضطر بعض الحيوانات لتأليف جماعات منها لتتعاون على تدليل العقبات التي تحول بينها وبين ما هي في حاجة ماسة إليه، فلا محل للتعجب من حدوث ذلك في العالم الإنساني، ولكن العجب كل العجب أن تتألف أمة تحت سلطان أصول خلقية، وآداب نفسية، ومبادئ عالمية، لم تقم عليها أمة من قبل حتى ولا في عهد الرسالات الدينية في مثل هذه البرهة القصيرة التي تألفت فيها الأمة الإسلامية إن كل العوامل التي عملت لتأليف الأمة الإسلامية، ليست من جنس العوامل التي دفعت لتأليف الجماعات البشرية، فقد جرت السنة الطبيعية في تآلف الجماعات العظيمة، أن تنتدب قبيلة كبيرة تحت قيادة زعيم معترف به، لدعوة القبائل المجاورة تحت حافز قوي من مطلب أو مطالب مسلم بضرورتها لدى الكافة للقيام بتحقيقها، فتحدث أولاً بينها اتفاقات جزئية مع حفظ كل منها لاستقلالها الذاتي، ثم تأخذ هذه الاتفاقات في التطور تحت تأثير الحوادث الاجتماعية، فتسقط موجبات التخالف بين هذه الجماعات الجزئية شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الأمر باندماج بعضها في بعض، بعد مرور آماد طويلة. ولكن الأمة الإسلامية قامت على غير هذه السنة الطبيعية فبدأت بدعوة رجل واحد إلى عقائد ومبادئ غير مسلم بها من الكافة، بل كان قومه وعشيرته الأقربون أشد معاداة لها من غيرهم، وتبعه أفراد منهم لا يغنون عنه ولا عن أنفسهم شيئاً.
ثم اتفق أن تأثر بدعوته أفراد من قبيلتين في مواطن بعيدة عن موطنه، تولوا دعوة ذويهم فقبلها كثيرون منهم.
وهنا يجب أن يعلم أن العرب الجاهدين لم يكونوا يأبهون بتمحيص العقائد، ولم يعتادوا أن يقتبسوا شيئاً من غيرهم، بل كانوا يأنفون أن يخضعوا لزعيم من غير قبائلهم، بله أن يعينوه على قومه ويستجلبوا بذلك على أنفسهم عداوة قبيل ليس بينهم وبينه ثأر قديم، ولا سخائم موروثة فلما هاجر النبي إلى موطن هؤلاء الذين قبلوا الدخول في دينه، احتفلوا به أيما احتفال، وخولوه الزعامة عليهم، وعاهدوه على أن يحموا دعوته وينافحوا عنها بأموالهم وأنفسهم.
وانتشر الإسلام في تينك القبيلتين بيثرب وهما بنو الأوس وبنو الخزرج، حتى لم يبق بيت فيهم لم يصبأ أهله إليه تطور غريب لم يعد له شبيه في عالم الاجتماع البشري: جماعتان كانتا بالأمس على الوثنية تقبلان ديناً ليس بين دينهما وبينه أقل شبه، ومناقض لما نشأنا عليه كل المناقضة.
وليس ذلك فحسب، بل يدعو إلى أصول ومبادئ كان يمقتها العرب قاطبة، ولا تتفق وما طبعوا عليه، وأشربوه من العصبية الجاهلية، كمبدأ التوحيد في العقيدة، ومبدأ المساواة بين الأجناس البشرية، ونبذ التفاخر بالآباء، والمباهاة بالمغامرات الحربية، ويصرفها إلى العمل على تطهير القلوب بالمجاهدات النفسية! هذا تطور عجيب في ذاته، وأعجب منه أن يكون في بيئة كل ما فيها يدعو إلى التعويل على الوسائل المادية، والإخلاد إلى الحياة الأرضية؛ وأدعى للعجب منهما أن يتم ذلك التطور طفرة، وهو لا ينشأ عادة إلا بعد تطورات متوالية، وظروف مواتية قلنا في مقدمة هذه المقالة أن تأليف هذه الجماعة كان مقدمة لقيام أمة عالمية جعلت نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الأمم، بعد أن تبلغ من التطور حداً يسمح لها أن تقوم على مثل ما قامت عليه من الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية.
فإذا صح ما يقال من أن الحياة الإنسانية أصبحت في حاجة إلى مقومات اجتماعية غير التي تقوم عليها اليوم، تتفق ومقررات العلم، وتتلاءم وما هدى إليه البشر من الأصول الإنسانية، بحيث تبطل بالقيام عليها الحروب، ويتم بينها التعاون على توفير الخير لجميع الشعوب، فلا سبيل إلى ذلك إلا باستبدالها الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية، بالأصول المادية البحتة التي تقوم عليها.
وقد آنسنا في غضون هذه الحرب العالمية المستعرة أن التفكير أخذ يتجه صوب هذا التطور العظيم، بإقامة الصلح على قواعد إنسانية تسمح لكل شعب أن ينال حظه من المواد الأولية، وأن يعيش على قدم المساواة مع غيره من سائر الشعوب الأرضية.
وهذه من مبادئ الدولة النموذجية التي كانت الهجرة النبوية فاتحة لإقامتها فإذا احتفل المسلمون بيوم الهجرة وجب أن يذكروا معها أن هذا اليوم كان بدء إقامة الدولة الإسلامية التي بلغت من امتداد السلطان، ورونق المدينة، وزعامة العلم والسياسة إلى ما لم تبلغه أمة قبلها، وشيدت للمبادئ الإنسانية صرحاً لن يزال قائماً ما دامت الحياة الأرضية. محمد فريد وجدي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢