أرشيف المقالات

روسيا والثقافة الإسلامية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ برهان الدين الداغستاني كبر على الأستاذ راشد رستم أن يقول الأستاذ إخناتي كراشوفسكي أحد علماء روسيا المستعربين: (ولا يزال بعض سكان داغستان يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة حتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة) فقال في مقال له: (والواقع أن للغة العربية مكانة بين هذه الشعوب لأنها لغة الدين ولغة القرآن غير أن الذين يدرسونها هم العلماء والمتفقهون الخ) وأرجو أن يسمح لي الأستاذ راشد رستم أن أوجه نظره إلى أن الأستاذ إخناتي كراشوفسكي ليس أول من قال: إن بعض الداغستانيين يتكلمون العربية ويستعملونها في التخاطب والكتابة ونظم الشعر على وفق الأوزان العربية فقد قال ذلك من قبله سعادة رشاد بك رئيس محكمة مصر سابقاً في كتابه (سياحة في روسيا) إذ يقول: (ولغاتهم (يعني القوقازيين) أكثرها لا تقرأ ولا تكتب ما عدا الداغستان فإن لغتهم لها قراءة وكتابة خاصة بها، وحروفها هي نفس حروف الهجاء العربية.
ولكن من ضمن هذه الحروف حرفا لام وكاف تحت كل واحد منهما ثلاث نقط.
وهذه اللغة لا تشبه أية لغة من اللغات الشرقية ولا غيرها بل هي لغة قائمة بذاتها وفيها كلمات عربية كثيرة.
وفي العهد الأخير أسسوا مطابع عديدة في (تيمور خان شورا) مركز ولاية الداغستان تطبع فيها كتب ومجلات باللغة العربية الفصحى، وباللغة الداغستانية.

وكل معاملاتهم وصكوكهم تكتب باللغة العربية، وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءة وكتابة لأنها لغة دينهم.
وزيادة على ذلك فإن الداغستان يقرءون ويكتبون بالعربي ويتكلمون).
وليس هذا فقط فقد قال الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي (ج 1 ص 79 - 83) من الطبعة الأولى: (.

وبلاد الداغستان متعددة اللغات.

ولكن لسان العلم في جبال الداغستان هو اللسان العربي، وهو اللسان الذي يتكاتب به أعيان تلك الأمة.
وقد صادفت سنة 1919 الوفد الداغستاني الجركسي في (برن) قاعدة سويسرة، ولزمتهم مكاتبات إلى رؤساء بلادهم فكلفني حيدر بك بامات بتحريرها لهم بالعربية الفصحى، وكثير من علماء الداغستان معدودون من علماء العربية. وجاء في الطبعة الثانية من الكتاب المذكور (ج 3 ص 368) (أما الداغستان، فهي قسمان: داغستان لزكي والثاني داغستان التركي.
فاللزكيون يتكلمون ويكتبون بالعربية، ومحاكمهم لسانها العربي) ولعلي إلى هنا استطعت أن أثبت للقارئ الكريم أن اللغة العربية لغة العلم والثقافة العامة في الداغستان وليست خاصة بالعلماء والمتفقهين فقط كما يقول الأستاذ راشد رستم ولكن بقى أن نقول في أي عصر من عصور التاريخ انتشرت اللغة العربية في تلك الربوع؟.
.
وما الذي جاء بها من وراء الحدود حتى أصعدها الجبال وأنزلها الوهاد في الداغستان؟ وفي هذا يقول الأستاذ راشد رستم: (ويرجع الفضل في انتشار اللغة العربية في القوقاز وخاصة في بلاد الداغستان واللزكي والششن إلى إحدى الطرق الصوفية المعروفة باسم المريد) وأبادر فأقول: إنه ليس في الداغستان، ولا في أي بلد من بلاد الله طريقة صوفية معروفة باسم (المريد)، إنما المريد كلمة عربية فصيحة واضحة المعنى جلية المبنى اسم فاعل من أراد يريد، وتطلق كلمة المريد في عرف الصوفية على كل سالك طريق من طرق الصوفية.
وأما الطريقة التي يشير إليها الأستاذ وكانت موجودة في الداغستان فعلاً؛ فهي الطريقة النقشبندية المشهورة؛ ولكن هل هذه الطريقة هي صاحبة الفضل في انتشار اللغة العربية في الداغستان؟ وما شأن الطريقة النقشبندية؟ ومشايخ النقشبندية قوم بخاريون؛ وليسوا من الحجاز ولا من نجد؟ لا.

لا.

الواقع أن اللغة العربية في الداغستان قديمة عريقة دخلت البلاد مع سراقة بن عمرو وبكر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن ربيعه القواد الفاتحين في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 22 ومع إخوانهم الغزاة المجاهدين من كبار الصحابة والتابعين الذين اندفعوا كالسيل يجاهدون ويرابطون. ثم استقرت واطمأنت وألقت عصاها يوم وطد مسلمة ابن عبد الملك الحكم العربي في تلك الأصقاع في خلافة أخيه هشام سنة 105هـ، وكان يؤيدها على مر الأيام ذلك السيل الذي لا ينقطع من المرابطين الذين كانوا يقصدون إلى (دربند) - وهي ثغر من ثغور المسلمين - للمرابطة في سبيل الله بقى أن نقول كلمة عن مدى انتشار اللغة العربية وحدود استعمالها في بلاد الداغستان فالأستاذ راشد رستم حاول أن يصورها لغة الأسرار والأحاجي (الشفرة) يلجأ إليها المحاربون والقواد إلى إخفاء شئونهم.
ونشر للتدليل على ذلك رسالة بعث بها أحد نواب الشيخ شامل إلى الشيخ شامل نفسه وقال: (ننشر نصها للدلالة على قدر معرفة بعضهم بهذه اللغة) وهو يريد بهذا الإشارة إلى ضعف أسلوب تلك الرسالة وغموض موضوعها بعض الشيء وأنا أكتب هذه الأسطر وبين يدي عشر رسائل مختلفة كتبت في الشئون العامة من شئون الناس في الحياة، وفيها الطويل المسهب والقصير الموجز، وليس فيها ما هو أدنى أسلوباً من الرسالة التي نشرها الأستاذ.
بل إن فيها رسائل كتبت بأسلوب أدبي عال إلى حد ما.
وكنت أريد إثبات بعضها لولا ضيق نطاق الصحف في هذه الأيام وأمامي أيضاً قصيدتان إحداهما للشيخ غازي محمد الكمراوي في تسعة أبيات، والأخرى للشيخ اسحق المشهور بجمال القرباني في نحو أربعين بيتاً، والقطعتان من الشعر الذي لا بأس به، إذا لوحظ العصر الذي قيلت فيه، وهو القرن التاسع عشر الميلادي، والبلاد التي نشأ بها الشاعران وهي بلاد انقطعت صلتها بالحكم العربي من نحو ألف عام تقريباً وفي مكتبة رواق الأتراك في الأزهر الشريف قصيدة في نحو ألف بيت من الشعر القوي الرصين للشيخ نجم الدين الداغستاني وهكذا إلى ما لا يحصى من الآثار النثرية والشعرية والعلمية التي خلفها الداغستانيون في اللغة العربية، مما يثبت أن اللغة العربية في الداغستان كانت أوسع مدى وأكثر انتشاراً مما يبدو لأول وهلة.
بل يثبت إلى حد ما أنها كانت لغة الثقافة العامة والثقافة الدينية بصفة خاصة.
ومما يزيد هذا القول أنه كانت تصدر في الداغستان صحيفة عربية إلى وقت قريب؛ أصدرها أحد العلماء قبل الحرب العالمية الماضية باسم (الداغستان) فإذا كان لا يفهم العربية في الداغستان إلا العلماء والمتفقهون - كما يقول الأستاذ راشد رستم - فهل في الداغستان من العلماء والمتفقهين تلك الكثرة التي تكفي لحياة صحيفة عربية ليس لها من القراء إلا هؤلاء العلماء والمتفقهون؟ الواقع أن التعليم في الداغستان كان إلى حين قريب أهلياً محضاً ودينياً خالصاً، يقوم به أئمة المساجد في القرى والمدن، فكان على الإمام في مسجده أن يعلم الطلبة الوافدين إليه العلوم الدينية والعربية.
وكان الإقبال على هذا التعليم شائعاً بين الداغستانيين؛ وقلما من يحسن القراءة والكتابة من غير هؤلاء الذين تعلموا في مدارس المساجد على أنه قد أنشئت في العهود الأخيرة بعض المدارس المنظمة الحديثة، وكانت عنايتها باللغة العربية شديدة إلى جانب العلوم الأخرى فاللغة العربية في الداغستان هي لغة العلم والثقافة الدينية العامة ولغة الكتابة الغالبة. وليس معنى ذلك أن الداغستانيين انسلخوا من قوميتهم، لغتهم الأصلية وتركوا عاداتهم وتقاليدهم وانقلبوا عرباً خالصين؟ لا.
فالقوم لا يزالون محافظين على مقومات قوميتهم من لغة وعادات وتقاليد، ولكنهم مع ذلك مسلمون أشد ما يكون المسلمون تعلقاً بدينهم وحباً للغة القرآن. برهان الدين الداغستاني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١