أرشيف المقالات

عبقرية الإمام

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ محمود أبو رية لم يؤت أحد من أصحاب رسول الله من العلم والفضل مثل ما أوتي علي رضي الله عنه، ولم يرد في حق أحد منهم بالأسانيد الجياد مثلما جاء فيه.
وما ظنك برجل خرج هو والنبي من نبعة كريمة واحدة، ونشأ تحت جناح النبوة وتربي في كنفها وتولى رسول الله هدايته وتثقيفه وجعله أولى الناس به فقال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، وعلي أنه كان بهذه المكانة فإن لم ينل أحد من الظلم مثل ما ناله، ولا لقي إنسان من المصاعب والمتاعب مثل ما لقي؛ فقد أحاط به ما نغص عليه عيشه وأفسد عليه أمره من أحقاد جاهلية وسخائم أموية وضغائن بدرية وإحن أحدية وغير ذلك.
وإذا رجعنا إلى تاريخه ألفيناه قد ضاع بين متشيعين بالغوا في تشيعهم حتى ألهوه، ومبغضين أمعنوا في بغضهم حتى كفروه فمثل هذا الإمام العظيم المؤتلف في نفسه المختلف في تاريخه كان جديراً ألا يتولى ترجمة حياته ودرس عبقريته إلا مؤرخ حكيم ينفذ إلى نفسيته بفكر ثاقب ونظر نافذ، ويدرس تاريخه بعقل القاضي العادل البصير الذي يبحث ويستقرئ فيرد الأمور إلى أسبابها والأحداث إلى عللها ليخرج هذا التاريخ صحيحاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فيعرف الناس منه فضله ويقدرونه قدره ويقبلون على سيرته يدرسونها وينتفعون بها. ولقد سرنا أن يتولى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد درس تاريخ هذا الإمام وأن يجعل من هذا التاريخ فريدة في سمط عبقرياته النفيسة سماها (عبقرية الأيام) قرأنا هذا الكتاب فرأينا كاتبنا الكبير يقول في تقديمه: (في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال العظماء وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقح العبرة والتأمل)، ثم نفذ إلى ما اتصف به الإمام مثل التقوى والزهد، والى ما ورث عن أسرته العربية من النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، وبين الآثار العملية لكل ذلك مع أعدائه وأوليائه على السواء، وانتهى من هذا الفصل إلى (مفتاح شخصيته) ثم تناول هذا المفتاح ليفتح به كل مستغلق من شخصيته ويوضح كل مبهم من سيرته كسر الأستاذ العقاد كتابه على عشرة فصول بعد التقديم ختمها بفصل عنوانه (صورة مجملة) جرى قلمه فيها كلها بما عهدناه من قبل في عبقرياته التي سبقت من حيث البحث العميق والدرس الدقيق مما كنا نود أن نعطيه حقه من البيان ونوفيه قسطه من الإشادة، ولكن المقام لا يتسع فلنجتزئ بكلمة صغيرة عن فصل البيعة الذي هو أروع فصول الكتاب مهد المؤلف لهذا الفصل بفصل آخر عن عصر الإمام قال فيه إنه لم يكن عصر خلافة بل كان عصراً عجيباً بينما تقدمه وجاء في أعقابه؛ فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب فكان في ناحية كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، وفي ناحية أخرى كل عوامل التذمر من هذا النظام، ومضى يبين أسباب استقرار النظام في الجانب الذي كان من نصيب معاوية؛ فذكر أن الشام كان أرضاً أموية من يوم أن لجأ إليها في الجاهلية أمية جد الأمويين وما جاء بعده من أبنائه متجرين أو مهاجرين إلى أن تولى إمارتها يزيد بن أبي سفيان من قبل أبي بكر الذي جاء بعده معاوية من قبل عمر ذلك الدرهي الذي قضى زمناً طويلاً لا يعمل عمل الوالي، ولكن يعمل عمل صاحب الدولة التي يقيمها لنفسه ولأولاده من بعده.
وكانت وسيلته في ذلك أن يغمر الناس بالأعطية، السوقة منهم والشرفاء.
وقد بلغ من دهائه أن طوى عقيلاً أخا علي بعطائه، أما المخالفون له فكان جزاءهم العقاب والنفي، ثم أخذ يصف الجانب الآخر الذي كان يتولاه علي؛ فقال إنه كان مصاباً بعلل التنافس بين العواصم والتبرم من العيش والتطلع إلى الخلافة وما تكنه العبيد والموالي لقريش بله ما وراء ذلك كله وهو المال الذي كان في يد معاوية وحده ولما أنشأ يتكلم عن بيعة علي قال إنه بويع بالخلافة بعد حادثة من أفجع الحوادث الدامية في تاريخ الإسلام وهي مقتل عثمان؛ وأخذ يحلل الحوادث التي أفضت إلى قتل هذا الخليفة وموقف علي من هذه الجريمة، وناضل ببراهين قوية عن هذا الموقف، وانتهى من نضاله إلى أن علياً - لم يكن يقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه - وأنه صنع غاية ما يصنع رجل معلق بالنقيضين، مسئول عن الخليفة أمام الثوار، ومسئول عن الثوار أمام الخليفة، وإنه كان يعالج داء (استعصى دواؤه وابتلى به أطباؤه).
ثم أخذ بعد ذلك يناقش الذين خرجوا في وجهه يطالبون - بزعمهم - بدم عثمان، فقال عن طلحة والزبير إنهما كانا يمهدان أثناء حياة عثمان لتولي الخلافة؛ أما عائشة فقد كانت تنادي بقتل عثمان وتود أن يتولى الخلافة طلحة لأنه من قبيلتها أو الزبير لأنه زوج أختها وعلى أنه قد درس موقف هؤلاء الثلاثة الذين كانوا يتآمرون على عثمان قبل قتله، ثم خرجوا على علي بعد ما تولى وأبان وجه الحق في ذلك فإن قلمه كان رفيقاً بعائشة فلم يجر بشيء من مؤاخذاتها وقد عرض المؤلف لما قام بين علي ومعاوية من خلاف فاستقصى أسبابه البعيدة والقريبة وانتهى إلى أن أمر معاوية لم يكن كما يبدو في ظاهره من أنه كان من أجل عثمان وإنما كان من أجل أبهة الملك وسلطان الحكم، وقضى بحق أن هذا الخلاف لم يكن بين علي ومعاوية وإنما كان (بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين، كان صراعا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في علي، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية) ولا ريب في أن يكون الغلب للدولة الدنيوية، لأن هذه هو ما تقضي به طبائع النفوس وغرائز الأمم.
ولقد صدق عمرو ابن العاص في قوله: (لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر) وقد انتهى كاتبنا من دراسته لتاريخ هذا الإمام إلى أنه (هو الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية) وأجمل صورته في أنه كاد (صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله أو صورة الشهيد) ولنقف عند هذا الحد كما وعدنا إذ لا نستطيع أن نبين كل ما تناوله قلم العقاد من بحث وما نفذ إليه من استقصاء بقيت أشياء لابد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد، وذلك أني عثرت وأنا أقرأ ببعض ألفاظ كنت اقف عندها مثل لفظ (تعلاه ص 40) و (حانقين ص55) و (فشل ص81 و96 و110 و126) وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول فوجدته من لغة طي، وإذن يكون استعماله جائزاً؛ أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله: هل يجوز استعمال كلمة (فشل) في معنى أخفق وخاب وإن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق هذا إذا لم تكن هذه اللفظة من أخطاء الطبع التي كثرت في هذا الكتاب على غير ما نعهد فيما يطبع بمطبعة المعارف التي عرفت بجودة الطبع ودقته واستشهد بعبارة مشهورة وضعها شيوخ الدين وجعلوها حديثاً للرسول ليعلوا بها قدرهم، وهي (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) وكنا نود من مؤلفنا وهو الأديب الكبير أن يطيل الحديث في بلاغة الإمام، وأن يعرض لأسلوبه وطريقته في الكتابة والقول فيدرسها ويبين هذا الأسلوب لكي يعرف الأدباء من هذه الدراسة ما لعلي في كتاب نهج البلاغة وما لغيره، لأن الأدب وتاريخه في حاجة إلى هذا العمل الجليل؛ ولعله يجعل من هذا الدرس بحثاً فنياً برأسه يضيفه إلى أبحاثه القيمة التي ينفع بها الأدب والأدباء. (المنصورة) محمود أبو رية

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١