أرشيف المقالات

البريد الأدبي

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 حول معركة الآزور عندما قرأت نقد الأستاذ محمد التونسي لما نشرته من ترجمة قصيدة معركة الآزور لآلفريد تنيسون، أحسست برغبة يسيرة في ولوج باب مثل هذا النقاش اللغوي الذي ما أراه ينتهي.

والذي أخشى أن أقول إنه أقرب إلى اللجاج والمماحكة منه إلى البحث اللغوي الصحيح. على أني أكتفي هنا بمناقشة الفقرة الأولى من كلامه فقط؛ ليصحَّ عنده أن هذا النقد الذي أورده أوهن من أن يثبت لدى النقاش عند التمحيص، فأقول: قلتُ في ترجمة المطلع: ; كان السير رتشارد جرانفيل مرفئاً بسفينته إلى جدةٍ من جدد شاطئ الفلورز.

وقال الأستاذ: بينما كان السير رتشارد جرانفيل عند فلورز. فكأنه يستكثر عليَّ قولي: مرفئاً بسفينة إلى جدة.

وأنا أسأله بدوري: أين ترجمة الفعل فيما كتب؟ إن الذي يستكثره عليَّ هو ترجمة هذا الذي نسيه، مع شيء من التوضيح لمعناه. وقلتُ: عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يزف بجناحيه.

فقال الأستاذ: إذ أقبل من بعيد زورق حربي يخفق خفقان الطائر.
والخلاف في صفة الزورق هل هو حربي أو ذو مجاديف؟ وإذا رجعنا إلى معنى كلمة في المعاجم الإنجليزية وجدناه هكذا، وبنفس الترتيب: مركب صغير له مجاديف وأشرعة - زورق ذو ثمانية مجاديف (غالباً) - زورق حربي. لكن لا يظن الأستاذ أنه ساواني هنا في فهم المعنى؛ فإن في اختياري المعنى الذي فيه ذكر المجاديف دون غيره، التفات إلى قصد الشاعر من تشبيه الزورق بالطائر! إذ أي شبهٍ يرمي إليه إن لم يكن يقصد هذه الحركة التي تحدثها المجاديف، مما يشبه حركة أجنحة الطائر عند طيرانه؟ وقلت: وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية.

الخ فحذف الأستاذ الجملة الفعلية برمتها (وارتفع صوت.

الخ)
وهي كلام ليس له ذكر في أصل القصيدة؛ ولكن أعجب للأستاذ كيف يشوه الأساليب العربية بمثل هذه السهولة.
إن مقول القول لا بد أن يُسبق في كل كلام منثور بالإشارة إلى القائل.
ولكن قد يُتجاوز عن ذلك في الشعر فقط نظراً لضروراته المختلفة.
ألا ترى إلى الأستاذ الفاضل علي محمود طه كيف يقول في قصيدته حانة الشعراء (عدد 512 من الرسالة): زنجيةٌ في الفن تحتكم؟ ...
قد ضاع فن الخالدين سُدى! وهذا كلام يقوله على لسان روَّاد الحانه دون أن يرى ضرورة النص على ذلك.
ولكن عندما يجد في الجواب أن الأسلوب يُسعده على ذكر اسم المتكلم، يذكره فيقول: فأجابت الحسناء تبتسم: الفن روحاً كان؟ أم جسداً؟ الخ فإذا كان تنيسون قد أعفى نفسه (في هذا الموضع فقط) من الإشارة إلى القائل نظراً للضرورة الشعرية، فليس ثمة ما يعفي المترجم الناثر من أن يوضح الكلام فيقول (وارتفع صوت من داخل الزورق يقول).
وكان بودي أن أناقش سائر النقط التي أوردها الأستاذ؛ ولكن صفحات الرسالة لا تتسع لمثل هذه المناقشات اللفظية، فأرجو أن يعاود الأستاذ النظر فيما كتب على ضوء هذه القاعدة؛ وهي أن المترجم مقيد بالأفكار وبالمعاني، بل وأكثر من هذا بالروح الشائع في القطعة المترجمة؛ ولكنه مطلق الإرادة فيما سوى ذلك من الألفاظ والأساليب والتعبيرات، تلك التي لا تزيد على كونها أوعية خارجية للأفكار والمعاني. (جرجا) محمود عزت عرفة الكلمة الأخيرة في ضبط الخلاف بين العربية والعامية قرأت في العدد (513) من الرسالة، رد الكاتب الفاضل (.
)
على ردي عليه بالعدد (512).
وفيه يقول: إنني حكمت باستحالة الضبط المذكور، بينما أتيت بضابط لهذا الخلاف!.
وردي عليه الآن أن لفظ مستحيل في عنواني، ينصب على رأيه الجديد في ضبط الخلاف، لا على الضابط الذي نقلته عن العلماء، والذي عليه المعول في التمييز بين العربية والعامية، منذ 1342 عاماً هجرياً بوجه التقريب! وعلى ذلك فلا تناقض في كلامي كما ادعي وقوله: إن ردي لا يمت بصلة إلى عنوانه، لا أجد أسطع برهان على دحضه غير إحالة القراء على الرد في العدد السالف الذكر.
أما قول الفاضل: إن ردي عليه ينقل الضابط المتواضع عليه بين العلماء، مصادرة لا تصلح في مقام الرد، فالجواب عليه أني اعتبرت هذا الضابط مجمعاً عليه عند العلماء الذين يؤخذ بآرائهم في مثل هذا الشأن.
فإذا جاء أحد العلماء أخيراً برأي جديد متطرف - عد هذا الرأي خارجاً على الإجماع، فلا يعتد به.
إذن فليس هناك مصادرة، وإنما ذلك نقض للاقتراح من أساسه وقد تخلص الفاضل من إلزاماتي الموجهة إليه بما لا يجديه نفعاً، ولا يشفع له عند أهل النظر! وبعد فقبل أن يقول المجمع كلمته في قيمة هذا الاقتراح أظن أن الجدل بيننا قد يطول، فأرى أن نتحاكم إلى القراء في آينا على صواب فيما يقول.
وما أكثر قراء الرسالة من العلماء والأدباء، فإليهم نطلب الكلمة الأخيرة. عبد الحميد عنتر زهر وخمر ذلك عنوان الديوان الجديد الذي أخرجه للعالم العربي شاعر اللذة والجمال، وعاشق التيه والضلال، ونحيُّ الأرواح والأشباح، الأستاذ الكبير على محمود طه؛ فكان ببديع خياله ورقيق نسجه وأنيق وشيه وبارع تصويره وجمال طبعه، طاقة عطرية من ألوان الربيع، ومجموعة عبقرية من ألحان الحب، ونشوة علوية من رحيق الشباب، لا يزال العقل والذوق والشعور منها على لذة لا تنقطع، ومتعة لا تنفد وإن إخراج هذا العمل الفني البارع في وسط هذه الزعازع الحربية والاقتصادية والسياسية دليل على خلوص العقيدة الفنية في نفس الشاعر.
وإن القيثار الذي لا تضطرب به اليد ولا يتهدّج عليه الصوت في هذا البحران العالمي، شاهد على صلابة العود وسلامة الطبع في الفنان يشتمل هذا الديوان الجميل على عشرين قصيدة من آيات الشعر ومبتكراته، تستطيع أن تتخيل طرافة موضوعها من وحي هذه العناوين: ليالي كليوبطرة، ميلاد زهرة، حانة الشعراء، سارية الفجر، أغنية الحب، حديث قبلة، خمرة الشاعر، المدينة الباسلة، حلم ليلة الهجرة، ليلة عيد الميلاد.
الخ. وقد عرضنا عليك نماذج من هذا الشعر الرائع في بعض أعداد الرسالة؛ وهي نماذج خليقة أن تغريك باقتنائه ومطالعته.
والديوان يباع في جميع المكاتب المعروفة وثمنه عشرون قرشاً. شعر منشور! نشرت مجلة الثقافة في عددها الأخير قصيدة للأديب مصطفى محمد الشكعة بكلية الآداب هالني منها ألا ترتفع العين من خطأ في الوزن فيها إلا لتقع على خطأ.
وإلى القارئ الفاضل ما علق بالفكر منها: هاجني الشوق والولوع اشتياق ...
(حائر ساهر في سماء القلوب) وقال أيضاً منها: إيه يا قلب كم قضيت الأماني ...
(راقصاً صادحاً كالهزار الطروب) والقصيدة من بحر الخفيف وهو (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) وإذن فالشطرتان اللتان بين القوسين خطأ يبده المتأمل لأول نظرة.
وليس هذا فقط بل إن في البيت الآتي (واواً) زائدة وهو: مجمع الصحب والأحبة والخلا ...
ن (و) مأوى لكل فكر خصيب والأعجب من كل ذلك هو هذا البيت الغريب التركيب والوزن: (عصف الدهر بالكؤوس وبالمحراب والح ...
سان والرجاء الرطيب)
وبعد فجدير بالمبتدئ أن يتمهل ولا يتعجل النشر؛ وحقيق بالناشر أن يتأمل فيتجنب الزلل. حسين محمود البشبيشي رواية (زينات) تأليف الأستاذ حسين عفيف هي قصة حب عذري حوت من الغزل أرقه ومن الخلق أقومه ومن المواقف أعنفها، كل ذلك في أسلوب هو إلى الغناء أقرب، وجمل حاسمة تهز النفس هزَّا. مغزاها أن الإنسان في هذه الحياة إنما يكفِّر عن ذنوب لم يجنها.
ويحاول المؤلف تعليل ذلك فيقول: (فهل تُرى نكفر عن ذنوب نجهلها، اقترفناها في عوالم سابقة، وعاشت فينا خلال حيوات وموتات عدة، حتى إذا ما آن ان نتطهر منها، انتهى بنا المطاف إلى هذا المبكى لنغتسل عليه؟) وفي سياق الوصول إلى هذا المغزى الرهيب، تعرض الرواية لمشكلات اجتماعية خطيرة كمشكلتي الفقر والزواج، ومشاعر إنسانية دقيقة كالتضحية والصراع بين الروح والجسد. ومن جميل ما جاء في هذه الرواية قول زينات لمختار قبيل يفرها: (أذاكري أنت يا مختار؟) فيجيبها: (وما شغلي غيرك؟ نعم سأذكرك يا زينة.
سأذكرك كلما غرد طائر، فأبلغني منك رسالة، أو نشرت زهرة عطرها، فنشقت فيه أنفاسك.
سأذكرك كلما سمعت حديثك في خرير الجدول، أو أنصت لهفهفة شعرك في حفيف الغصون.
سأذكرك في كل وقت، وأراك في ركاب كل شيء جميل: في مواكب الضياء التي يجرجرها الصبح، وفي القمر المطل على المروج مساء، سأراك، نعم سأراك يا زينات.)
فتجيبه: (وأنا أيضاً سأذكرك.
وسأبعث إليك بشوقي الجريح في مغرب كل شمس.
وبالتحايا مع الطيور العائدة إلى أوكارها.
فإذا ما رأيت الدماء في الشفق تسيل، فاعلم أنها أشواقي.
أو طرق سمعك نوح حمامة، فاعلم أنه بثي ترجّعه.
وسأقطف الأزهار في الصباح، وأضعها في الجدول ليحملها إليك.
وأضمخ بالعطر النسيم الساري ليملأ به جوَّك.
ارقبني يا مختار في كل شيء.
وانظرني في كل شيء.
وإذا ما رأيت كوكباً يتهاوى، فاعلم أنني خررت صريعة حبك، ولا تترقبني بعد ذلك.)
والرواية كلها تكاد تكون على هذا النسق.
وهي وإن أغرقت أحياناً في الخيال، إلا أن جوّها الساحر الذي يوقعك تحت سلطانه، ينسيك ذلك.
كما أن أصحاب المزاج الشعري يجدون فيها بغيتهم.
ولقد فازت في مسابقة القصة التي أجرتها وزارة المعارف، كما عنيت بنشرها مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة. (م.
ع)

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢