أرشيف المقالات

ثورة في الأخلاق

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
8 للأستاذ محمد يوسف موسى (تتمة) على أنه ما بالكاتب من حاجة إلى الإلحاح في بيان أن هذا الزهد البالغ الذي يدعو إليه مذهب الغزالي ومن نحا نحوه لا يتفق والدين والعقل، وأنه من معوقات الأمة عن النهوض.
لا يحتاج الكاتب لشيء من هذا، فإننا شغلنا بالدنيا حتى لا يخطر لنا الزهد فيها على بال، ولكنا في حاجة لبيان أن بعضاً من الفضائل التي دعت إليها تلك المذاهب وأكبرت من شأنها لا تعد اليوم من الفضائل في شيء، بل بعضها انقلب بسوء الفهم والتطبيق إلى رذائل، وصار أحجار عثرة في طريقنا للرقي والنهوض. وحسبي أن أمثل لهذا بصفة القناعة لقد اتفقنا منذ عصور طويلة على أن القناعة فضيلة، وقلنا في بيان مكانتها إن القناعة كنز لا يفنى، فكانت العاقبة شراً ووبالاً على الشرق ومنه مصر! قنع الفلاح بغلة ما ورثه من الأرض فلم يغير - إلا قليلاً - من طرق استغلاله لما يملك، ولم يعمل بجد على تنمية ثروته، قانعاً بما يرزقه الله من دخل لا يزيد عن معيشته معيشة الكفاف! وقنع الصانع بأجره اليومي الذي لا يرتفع به في حياته إلا قليلاً عن مرتبة الحيوان، فلم نجد من صناعنا إلا خولا وأُجراء لأصحاب الأعمال الغربيين الذين وضعوا أيديهم على أكثر موارد ثرواتنا، والذين استغلوا ما يحيط بنا من صحارى فيها الزيت والحديد والذهب والمعادن الأخرى! وقنع جمهرة تجارنا بالربح الزهيد الذي يتبلغون به من يوم ومن عام لآخر، فقلّ منهم المغامرون أصحاب المتاجر الضخمة الواسعة! وإذا تجاوزنا الحياة المادية للحياة المعنوية، وجدنا الحال أمر وأدعى للألم.
فقد قنعنا بما ورثنا عن الأسلاف من علم فلم نحاول أن نزيد فيه، بل لم نعمل على تمحيصه! وإنما قنعنا بما وصل إلينا من كتب ومؤلفات، فأقبلنا على دراستها دون أن نجعلها أساساً نبني عليه، حتى صار منا ونحن في القرن الرابع عشر الهجري من يعيش بعقلية القرون الوسطى! كما قنع التلاميذ بالفهم السطحي دون العميق، وبالنجاح في الامتحان دون العمل للعلم لأنه في ذاته حسن وجميل وعامل من أقوى العوامل على المعيشة في عز وكرامة وسعادة! ولا أظنني مبالغاً في شيء من هذا الذي أقول! وإلا فأين ما تخرجه هنا دور الطباعة من المؤلفات في العلوم التي نقرأها ونتدارسها منذ مئات السنين؟ لكم تمنيت أن ناراً تنزل من السماء فتلتهم أكثر ما نملك من أسفار قديمة، على ما فيها من خير كثير ليكون ذهابها حافزاً لنا على الإنتاج في العلم، وعلى التخلص من الآثار الوبيلة لما جره علينا اعتقادنا بأن القناعة من الفضائل! فقد أمات هذا الاعتقاد منا الهمم والعزائم، وكان عاملاً من عوامل التثبيط والركود، وسبباً من أسباب وقوف أولياء أمورنا في السياسة والإدارة والعلم عند حد عدم النزول عن المستوى الموجود الذي يقنعون به، ويقولون في أنفسهم حسبنا أن تسير القافلة فيما رسم لها من طريق قبل أن نلي ما ولينا من أمور هذا البلد! وأخيراً، لست أدعو بهذه الكلمة إلى أن يكون المرء شرهاً لا يقف عند حد في رغباته، فهذا أيضاً رذيلة كالقناعة بالدون سواء بسواء، إنما أدعو إلى أن نتأسى بالرسول الكريم والصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فنبذل الجهد في طلب كل ما يمكن من خير لأنفسنا وأمتنا، مستغلين في هذا خير استغلال ما وهبنا من قوى مادية ومعنوية في سائر نواحي الحياة، ثم بعد ذلك نقنع بما نصل إليه بعد طرح الكسل وبذل المجهود، ففي هذا خير الدين والوطن والسعادة الخاصة والعامة.
هكذا كان صنيع الصحابة الراشدين حين لم يقنعوا بالعيش آمنين في جزيرة العرب، وتعدوها إلى ممالك الروم والفرس ففتحوا منها ما شاء الله، وعاشوا أعزة سعداء، ضاربين لمن أتى بعدهم وللعالم أجمع في هذا أحسن الأمثال.
والله يهدي للرشد، ومنه الخير والتوفيق والسداد. محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢