أرشيف المقالات

ابن خلدون

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 مؤرخ الحضارة العربية للأستاذ عيسى محمود ناصر حياة ابن خلدون قصة من أعجب قصص الخيال، ومغامرة لم تتح لكثير من عظماء الرجال، لا يزال تراثه فريداً في بابه بين آثار التفكير الإسلامي، وما يزال يحتفظ بقيمته وروعته، ويتبوأ مكانته بين التفكير العالمي.
وهانحن أولاء بدأنا نتبّه إلى رجالنا لنقدرهم قدرهم، وندرس آثارهم، ونحفظ لهم مكانتهم، ونحيي ذكرهم، بما أدخل من نظام المسابقات التي تعقدها وزارة المعارف لطلبة السنة التوجيهية في مواد الدراسة المختلفة، وكان منها دراسة مقدمة ابن خلدون.
ونحن بهذا النظام نحيي ذكرى فيلسوفنا الاجتماعي الكبير، وقد مضي عليه أكثر من ستمائة عام، وهو على قدمه يجب أن يكون مثالاً عالياً لجميع الشباب، وأن يقرءوا مقدمته القيمة، فهي ثروة لا تقدر في تراث البيان الغربي، والتفكير العربي.
على أن لابن خلدون صلة خاصة بنا نحن المصريين؛ فلقد كانت له بمصر جولات ونظريات، كما كانت مصر مئوي إقامته، وإن كانت تونس تفخر به لأنها مستهل ولادته.
وحسب ابن خلدون فخراً أنه السابق إلى وضع مبادئ علم الاجتماع الذي ما زال موضع إعجاب الغرب وتقديره، ولست في هذه العجالة متعرضاً لنشأته، وتاريخ حياته فهي في متناول الطلبة.
على أنه عني بنفسه فوضع ترجمة له دونها بقلمه، وصور فيها كثيراً من أطوار حياته، وما تقلد من مناصب، وما قام من رحلات ومغامرات. بدأ ابن خلدون مؤلفه التاريخي العظيم وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد نضجت مباحثه ومطالعاته في الكتب والحياة بعد أن قطع نحو ربع قرن يخوض معترك السياسة متقلباً في خدمة القصور والدول المغربية يدرس شئونها ونظمها، ويستقصي سيرها وأخبارها متغلغلاً بين القبائل البربرية يدرس طبائعها، وأحوالها، وتقاليدها في الحياة العامة والخاصة، وقد أعانه على ذلك ذهنه الخصب المتوقد ذكاء، وعزلته في قلعة (سلامة) على حدود تونس الغربية فلقد كانت عزلة مباركة موفقة لبث فيها أربعة أعوام نعم بالاستقرار والهدوء المستمر بعيداً عن غمار السياسة والدسائس السلطانية والمخاطر التجوالية والحربية، وقد استغرن في كتابة مقدمته خمسة أشهر ثم نقحها وهذبها بعد ذلك ثم شرع بع إتمامها في كتابة تاريخه، وقد رفهه إلى السلطان أبي العباس المغربي، وأنشده قصيدة طويلة يشيد فيها بسيرته وأعماله، ويستدر عطفه ورعايته، وينوه بكتابه يقول فيها: وإليك من سير الزمان وأهله ...
عبراً يدين بفضلها من يعدل والله ما أسرفت فيما قلته ...
شيئاً ولا الإسراف مني يجمل ولقد كان ابن خلدون أعظم سياسيّ ومفكر عرفته إفريقية والأندلس في القرن الثامن الهجري. ابن خلدون في مصر غادر ابن خلدون تونس لينتظم في ركب الحجاج، ولكنه لم يحقق تلك الغاية فقد نزل القاهرة ليقضي أيامه بمصر في هدوء ودعة واستقرار، وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب ولبلاطها الشهرة الواسعة في حماية العلوم والآداب، فبهرت ابن خلدون ضخامة القاهرة وعظمتها كما بهرت كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب فوصفها بقوله: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، وإيوان الإسلام، وكرسيّ الملك) ولقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته، ولاسيما مقدمته التي أذاعت فضله، فأقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب، وقد كان ابن خلدون محدثاً بارعاً، رائع المحاضرة، يخلب ألباب سامعيه بمنطقه؛ هذا إلى فصاحته وجمال صورته، فتقرب من السلطان الظاهر برقوق. وإنه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه، ومن حوله العلماء والكبراء يشهدون الدرس الأول حيث يقول: (وانقضى ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار) عين ابن خلدون قاضياً لقضاة المالكية تنويهاً بذكره، وإعلاناً لشأنه، وقد ثارت حوله عاصفة شديدة بسبب الحقد والسعاية، وقد بين ما كان يسود جو القضاء في مصر في ذلك الحين من جهل وفساد الذمة، وأنه حاولي إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وما زال أمره بين جزر ومد إلى أن عزل من منصبه، وغادره موفور الكرامة والهيبة، فانقطع إلى الدرس والتأليف إلى أن أذن له السلطان بأداء فريضة الحج، ثم عاد بطريق البحر حتى القصير مخترقاً الصعيد بطريق النيل فوصل القاهرة وليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة التي قضاها بمصر ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاطين القاهرية والمغربي، فهو يصف المهاداة بين صلاح الدين، وبني عبد المؤمن من ملوك المغرب، وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين، ويصف الهدايا المصرية والمغربية فبدأ سلطان تونس بإهداء خيل مسومة وسروج ذهبية لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء أربعة عشر عاماً وكان بالفيوم يعني بقمح ضيعته التي يستحقها من الأوقاف، فاستدعاه السلطان إلى القضاء، فلما استقرت الأمور بمصر استأذن في السفر إلى بيت المقدس فإذن له؛ فشهد المسجدِ الأقصى وقبر الخليل وبعض الآثار ثم عاد من رحلته إلى القاهرة.
ثم وردت الأنباء بانقضاض (تيمورلنك) بجيوشه على الشام واستيلائه على حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب فروعت مصر، وهرع (الناصر فرج) بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، وقد اشتبك جنود مصر بجند الفاتح في ظاهر دمشق في معارك شديدة ثبت فيها المصريون، وبدأت مفاوضات الصلح بينهما، ولكن خلافاً دَبّ في معسكر المصريين، ومؤامرة دبرت لخلع السلطان؛ فترك السلطان دمشق لمصيرها ورجع إلى القاهرة.
وهنا تتجلى لنا نزعة مؤرخنا الفيلسوف في مغامراته، فقد رأى أن يعتصم بالجرأة وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح فيستأمنه على نفيه ومصيره، ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء بقوله: (ودخلت عليه (المراد تيمورلنك) بخيمة جلوسه متكئاً على موقفه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، فلما دخلت عليه انحنيت بالسلام، وأومأت إيماءة الخضوع فرفع رأسه، ومد يده إلى فقبلتها)، وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ، وحدثه المؤرخ بأنه كان سمع به، ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة، واستطاع ابن خلدون أن يقنع الرؤساء بالتسليم، وفتحت دمشق أبوابها للفاتح فنحت من بطشه.
وقد قدم ابن خلدون إلى الفاتح هدية هي: مصحف رائق، وسجادة أنيقة، ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة.
فوضع (تيورلنك) المصحف فوق رأسه ثم سأله عن البردة، وذاق من الحلوى ووزع منها على الحاضرين، وقد أنكر مؤرخ مصري معاصر هو المقريزي هذه الروية، وانضم إليه ابن إياس المؤرخ المصري وما لبث ابن خلدون يولي منصب القضاء في مصر ويعزل ست مرات بسبب كيد خصومه ودسائسهم له إلى أن توفي سنة ثمان وثمانمائة هجرية وقد بلغ نيفاً وسبعين سنة من حياة باهرة حافلة بجليل الحوادث ورائع التفكير والابتكار، ودفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة المعزبة وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء قضي ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاماً كانت أقل مراحل حياته حوادث وإنتاجاً؛ فقد عاش بعيداً عن شئون الدولة السياسية بعد أن لبث بالمغرب ربع قرن وهو يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر.
على أنه لم يستطع أن ينشئ له بمصر مدرسة يطبعها بطابعة وآرائه ومناهجه وذلك راجع إلى روح النفور والخصومة، فقد سبقه إلى مصر حكمه على أهلها بأنهم قوم يغلب عليهم الفرح والخفة والغفلة عن العواقب، على أن ابن خلدون كان يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي العام المصري المفكر وعلى رأسه العلامة المقريزي الذي تأثر بنظرياته تأثراً كبيراً كما يظهر أثر ابن خلدون في اعتماد بعض أكابر الكتاب المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء القلقشندي صاحب صبح الأعشى. أثر ابن خلدون الفكري والاجتماعي اعتبر ابن خلدون التاريخ علماً يستحق الدرس لا رواية تدون وتقرأ، فانتهى به البحث إلى وضع نوع من الفلسفة الاجتماعية، وكتب مقدمة مؤلفه التاريخي لتكون تمهيداً يقرأ على ضوئها التاريخ، وتفهم دقائقه فجاءت وحدة مستقلة من الابتكار الفائق تسجل مذهباً جديداً في فهم الظواهر الاجتماعية وتعليلها، وفي فهم التاريخ ونقده وتحليله؛ فهو يحاول أن يتبع المجتمع في جميع أطواره منذ نشأته وبداوته إلى استقراره وانتظامه في المصر والدولة وتردده بين الضعف والقوة والفتوة والكهولة والنهوض والسقوط مقسماً موضوعه هذا إلى ستة فصول كبيرة هي: 1 - العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض 2 - العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل 3 - الدولة العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية 4 - العمران الحضري والبلدان والأمصار 5 - الصناعات والمعاش ووجه الكسب 6 - العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وهذا التقسيم يشهد بتفوق هذا الذهن العبقري وطرائقه وقوة تدليله وجدله.
وأجود هذه الفصول (الفصل الثالث) وهو خاص بالدولة والملك وخواصهما مبيناً أن للملك طبائع وللدولة أعماراً كالأشخاص، فهو يقدر لها ثلاثة أجيال في الغالب، ويقدر الجيل بأربعين عاماً متأثراً في هذا التقدير بما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل حين فقدوا عصبيتهم وكانوا عاجزين فعاقبهم الله بالتيه في قفار سيناء أربعين سنة ليخلق منهم جيلاً جديداً يقوى على المطالبة والتغلب.
وفي هذا الفصل تبدو نظرياته الاجتماعية وتحليله للمجتمع، كما يدل ذلك على براعة ذهنه.
ثم يتناول الدولة وتحولها من البداوة إلى الحضارة في الفصل الرابع، وبيان أطوارها المختلفة، وأثر الموالي والمصطنعين في هذا التطور.
ثم يتناول الملك والإمامة والخلافة واختلاف الآراء في شأنهما ومذاهب الشيعة والخطط الدينية من القضاء والعدالة والسكة، ثم الوزارة ودواوين الأعمال والجباية والرسائل والشرطة وقيادة الأساطيل ورسوم الملك والحروب ومذاهبها والمكوس ونظم التجارة، ثم يتحدث عن البلدان والأمصار ونشأة المدن واختلاف ظروفها من خصب ورفاهية وجدب وقفر وتفاوت في الغلات والصناعات واللغة من هذا كله تتبينون أن ابن خلدون مخترع هذا العلم وصاحب الفضل الأول في ابتكاره وهو ما يسميه (بالعمران والاجتماع البشري) فقد أفاض في هذه النظريات مصحوبة بالشواهد مترابطاً بعضها ببعض، وكل ما خلفه أسلافه لمحات مبعثرة ضئيلة.
على أن هذا العلم الذي استحدثه ابن خلدون اتخذ من حيث مادته وموضوعاته مكانة بين علومنا الحديثة في الاجتماع وفلسفة التاريخ والنظام السياسي والاقتصاد السياسي.
وفي دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية ما يؤيد ذلك أما أسلوبه فخاص يتميز به ابن خلدون من غيره في العرض والتنظيم، كما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها وروعة أسلوبها الأدبي الذي جمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل، وحسن الأداء والتناسق.
والمقدمة مثل حسن للفصاحة المرسلة والغرض الشائق المنظم؛ وذلك على الرغم مما يطرأ أحياناً من ضعف في التأليف وغرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ يرجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية.
وأسلوبه في تاريخه أقل درجة من أسلوبه في مقدمته.
على أن لهذه المقدمة تأثيراً قوياً في الكتابة في أوائل العصر الحاضر إذ كانت الأسلوب الأمثل لكتاب الصحف والمجلات في بدء النهضة الحديثة، فقد نشرت المقدمة لأول مرة في مصر سنة 1857م فرفعت الأسلوب الأدبي في مصر والشرق من السجع وتكلف البديع والزخارف اللفظية التي تستهلك المعاني، إلى الاسترسال في الكتابة فكانت نموذجاً يحتذي ويرب به المثل، فارتق النثر الفني والعلمي إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من الإجادة والإتقان.
(البقية في العدد القادم) عيسى محمود ناصر المدرس بمدرسة الفيوم الثانوية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١