أرشيف المقالات

عندما فاض النيل. . .

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 للشاعر التركي إبراهيم صبري بقلم الأستاذ عثمان علي عسل بحثت عن شاطئ حصباؤه تلمع، شاطئ منحدر رحب.
وقد غطيت حصباؤه برمل ناعم كريش الطيور.
إن اشتياقي إليه كالحنين إلى الوطن. فما وقع بصري على شاطئ إلا تعلقت به.
هناك أنعم النظر في الشمس.
فما أجمل نزولها في اليم. حينما يحجب نصف قرصها سحاب أسود.
تغيب عن الأنظار كأنما تخلع رداء أشعتها.
فيخيل إلى الناظر أن السحاب يستر وراءه قواماً جميلاً. وإذا بألوان الأفق تمتد وتعانق سطح البحر. وعلى هذا الجيد الفضي ترتجف أمواج هادئة تخالها رعشات.
.
وبينما الألوان الوردية والبنفسجية والحمراء.
تنشئ في السماء قوساً شبيهاً بعالم خرافي، يبدو البحر كأنما ارتفعت أعماقه. فيتراءى كسماء مقلوبة غاصت في قراره.
سماء تتجلى فيها الأفلاك.
ولكي تصعد الأنظار إلى هذه القبة العميقة، تهبط كأنها تنزلق على سطح زجاجي.
ومن احتضان البحر للسموات يتجلى في روع الناظر عالم آخر فيرى في ضفافه حدود الأبدية.
إن اتساع البحر يجعل الأنظار التي ترى اللانهائي تبحث عن عالم مجهول.
أما الآفاق فهي ستار أزرق أسدل على الأفكار، يحول بين المتأمل وبين النفاذ في محيط الكون.
إن الثرى إزاء الماء فانٍ.
ففي كل قطرة من الماء قوة كامنة خالقة لا تحد. وحكم التراب كالعدم فهو نهاية.
عجباً لهذا التراب إنه من أسباب الفناء، وإنه لمن أسباب الحياة! ومصير المخلوقات إليه.
وكأنما الأمواج حينما تتبخر تهرب من الفناء.
وهذا الإنسان اليائس الذي يلقي بنفسه في اليم، يشتاق إلى حياة أبدية في عبابه، ليعيش بعيداً عن التراب. لاشك أن الشمس قد ذابت اليوم في أفق مصر.
هاهي أشعتها مادة سائلة، تنحدر من السماء كأنها حمم تذيب الأرض معها.
بحثت كسائر الناس عن خميلة أتفيأ ظلها، فذهبت إلى شاطئ النيل، وإذا بالنيل قد فاض وغمر. فأين مني الآن قوافل الجمال ذات اللون الأغبر التي ترسم على الشاطئ صورة الخمائل؟ أين تلك الأشرعة التي ترفرف بين الأشجار كأجنحة فراشة فضية؟ وأين هاتيك الكواعب الريفيات اللائى يحملن على رءوسهن جرات ذات قوام له دلال العرائس يباهي دلال من يحملنها، وقد عكست ظلالها على سطح النيل.

يا للعجب إن هذا الماء كلما تدفق أسرع جريانه.
أين هذا النيل الذي رصع جِيد (أم الدنيا) بعقد من الياقوت بمجراه الذي تسري في أمواجه ثمار النخيل الحمراء؟ أين تلك المياه التي تفيض بالأسرار كمقلة خضراء تزخر أعماقها بألوان مباينة؟ أين هذا النيل الذي يتجلى في لونه الزمر ذي إشراق الفجر.
هذا النيل الذي تمس أعماقُهُ الأهرامَ والسماءَ والكواكبَ.
هيهات! ليس أمامي الساعة غير نهر من اللهيب.
بحثت عن ضفافه فألفيتها قد سالت معه، وبدا لي أن هذا الفيضان يندفع كالكارثة.
لم يكن هناك في هذا المحيط اللجي موطئ لقدم، كأن الطوفان قد ابتلع الغبراء.
هاهو النيل يجري كنهر من الطين انطلق إلى الشمس، كأن من أجراه يريد أن يبني أجراماً في السماء، وهو يجيش بأمواج فوارة تكاد الشمس وهي في مغربها تغرق في تيارها.
كأن هناك عاصفة هوجاء تكتسح هذه الأمواج، فلا يسمع إلا زمجرة صاخبة.
ربما كان في هذا الطين أسرار، فهو لا يخرِّب بل يعمِّر.
أما حقول بلادي الظامئة فإنها تتلهف إلى قطرات تتساقط من سماء الحظ، كأنما النيل سحر قد انساب ماء، فهو يجعل الرمال أخصب من أي تراب آخر.
هو يتدفق إلى الحقول وإلى القرى وإلى المساكن، فالنيل هو مصر، ومصر هي النيل. ما أعجب هذا السيل إنه قوام الحياة.
ما أعجب هذا السيل فهو أينما جرى وأينما طغي انبثق النبات واستحال القفار عماراً.
قد منح أهلَ بلاده قدرة فوق طاقتهم.
هل السحر جاء إلى مصر مع النيل، فهو كبحر مطلسم غمر أرضاً وجرى نحو محيط في أغوار الأساطير، وكأنما الأهرام أحجار رسبت من مجراه في وادي الشياطين.
وإنه ليرد من أرض حزينة؛ فهو يسيل أحياناً كالدم وأحياناً كدموع تنحدر من عيون تلك الأرض التي حرموها نعمة الأبصار.
إنهم يروون أن غادة كانت في الزمان الغابر تلقى في عبابه.
إنني أعتقد أنها أسطورة، غير أن هذا الفيضان الذي يدعو إلى الحيرة، لابد له من سرّ خارق كهذه الأسطورة. ترجمة عثمان علي عسل

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١