أرشيف المقالات

راية الروحية الأدبية

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للدكتور زكي مبارك فيما كتب الأستاذ الزيات والدكتور عزام عن (البلايا التي تكابدها البلاغة في هذا العصر) تذكير بغضبات ابن قتيبة في القرن الثالث، والجرجاني في القرن الخامس.
وقد جاء هذا التذكير في الوقت المطلوب، جاء بعد انحراف قد يزعزع مركز مصر الأدبي في الشرق، إن لم تسنده الأقلام المصرية بأسندة متينة من الحق والصدق واليقين وأقول من جديد أنه لا حياة للأديب مصر إن لم تكن لأهله عقيدة أدبية، عقيدة يرحب صاحبها بجميع المتاعب في سبيل الأدب الصحيح، ولا يبالي أين يكون مصرعه ما دام على وفاق مع ملائكة الفكر وشياطين البيان والعقيدة الأدبية توجب أن نكون صادقين فيما نكتب وفيما نقول، بحيث يطمئن القراء إلينا كل الاطمئنان، وبحيث لا تخفى عليهم خافية من سرائرنا الفكرية، ولو جنحنا في التعبير إلى الرموز والتلاميح القارئ صديق - وإن لم يتعرف إلينا بصورة شخصية - وللصديق حقوق أهمها اطراح الرياء، فمن العبث أن يخطب قوم وداد القارئ وهم لا يلقونه إلا مرائين والأصل في الأدب أنه تعبير طريف عن أغراض الحياة والأحياء.
وإنما قلت (تعبير طريف) لابدد الشبهة التي تقول بأن الأدب هو تصوير المشاعر والعواطف بالصدق الذي يماثل صدق الصورة الشمسية، فالقارئ لا يفرح بأن الكاتب حدثه عما يجول في صدره بالحرف، وإنما يسره ويبهره أن يجد في تلك الصورة ألواناً لم يلتفت إلى مثلها من قبل، على شرط أن لا يزيغه التلوين عن الصدق، وعلى شرط أن يكون الجانب الطريف اظهر الجوانب في الأداء فأين نحن من هذه المعاني في هذا الزمان؟ من المحقق أن الأدب عندنا في ازدهار، ولكني مع ذلك أعاني ضروباً من التخوف.
فالجماهير في مصر لم تشعر إلى اليوم بأن الأدب صار قوتاً لا تطيب بدونه الحياة.
ولم نسمع أن الجماهير مستعدة للمساعدة على نشر كتاب يعجز عن نشره أحد كبار المؤلفين.
ولم نسمع أن كتاباً أعيد طبعه عشرين مرة في اشهر معدودات، كما يقع ذلك في بعض الممالك التي تعاني شهوات العقول فما أسباب هذا الخمود؟ أخشى أن أقول أننا لم نصر كتاباً ولا مؤلفين بالمعنى الصحيح للكتابة والتأليف أخشى أن أقول أننا عجزنا عن خلق الجاذبية الادبية، وسيحكم علينا التاريخ بما لا نريد، فسيقول أقوام إن مصر عانت زمناً لم يعرف أدباؤه كيف يرفعون البراقع عن الاقلام، ولم يفكروا في رفع الأمية الفكرية عن عقول القراء أعوذ بالله من بعض ما أرى وبعض ما أقرأ وبعض ما اسمع! وبالله استعيذ من زمن تضعف فيه الأبوة الروحية، أبوة الباحثين والمفكرين! ومع هذا فالأمة المصرية هي هي لم تتغير ولم تتبدل، الأمة التي تستمع كل قول، وتستجيب لكل نداء، ولم يفتر نشاطها الذهني في أي وقت، ولكن أين من ينتفع بالحيوية المكنونة في ضمير الأمة المصرية؟ انتفع السياسيون من أمثال: مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، لأنهم جاهدوا وناضلوا وكافحوا، ولأنهم جددوا أهدافهم تحديداً لا يتطرق إليه الارتياب، ثم رحبوا بجميع المتاعب في سبيل تلك الأهداف فماذا صنع الأدباء ليسيطروا بالقوة الروحية، كما سيطر أولئك بالقوة السياسية؟ قد يقال إن الوطنية وتر حساس، فهي السر في نجاح أولئك الرجال وأقول إن النزعة الإنسانية اقدم واعمق من النزعة الوطنية، فلو جاهد الأدباء جهاد الصدق لكان لهم في أمتهم تأثير لا يصل إليه كبار الوطنيين، ولكان من السهل أن تكون مبادئهم شرائع يعتصم بها السياسيون واعجب العجب أن يكون في الأدباء من يطلبون الاستقلال لامتهم ولا يطلبونه لأنفسهم، كالأدباء الذين يعيشون تحت وصاية الأحزاب السياسية راضين وادعين ناعمين، كيانهم ظفروا بكنوز قارون، وكأن آلهة الفن هي التي ألهمتهم ذلك المذهب من مذاهب المعاش، مع أن القلم أكبر واعظم واشرف من أن يتشوف صاحبه إلى الاستظلال بظلال الأحزاب لا عيب في أن يكون للأديب حزب ينتمي إليه إذا اقتنع بالتحزب في سبيل القومية.
ولا عيب في أن تكون للأديب مطامع سياسية، ولكن العيب كل العيب أن يكون الأدباء ذيولاً تجرجرهم التقلبات الحزبية، وتدوسهم سنابك الأهواء إن جهاد مصر الأدبي لا يقل عن جهادها السياسي، فقد استطاع فريق من أدباء مصر أن يرفعوا اسم وطنهم في الشرق، ولكنهم مع الأسف عجزوا عن رفع اسم الأدب في وطنهم، لأنهم غفلوا عن واجب المصابرة تحت الراية الأدبية، واكتفوا بالتغني تحت الراية الوطنية ألم اقل لكم إن الأديب ليس أجيراً للوطن ولا أسيراً للمجتمع؟ وما قيمة الوطن إن لم يفرح بأن ينبغ فيه المفترعون لأبكار المعاني؟ في القسم المصري بمتحف اللوفر في باريس تمثالان ناطقان: تمثال الفلاح المتربع تحت الشمس وهو يتذوق السكون والخمود، وتمثال الكاتب المتربع وهو مهموم يستعد للإنشاء.
وتلك صورة مصر في القديم والحديث، فمن أبنائها من يفرح بالنعيم البليد، ومن أبنائها من يفرح بالشقاء السعيد.
والأشقياء بالمعاني هم السعداء، يوم يوضع للسعادة تعريف صحيح ألم يأن للأدباء أن يعرفوا واجبهم نحو الأدب؟ ألم يان للزمن أن يسمح بأن تقوم في مصر دولة أدبية لا تعرف غير الصدق في البيان عن أوهام الأهواء وأحلام القلوب واوطار العقول؟ أمن المستحيل أن يقول أديب (أنا) في هذه البلاد؟ ألا يوجد فينا من يتوكل على الله وحده ليملك الغنى عن الناس فيكتب ما يكتب ويقول ما يقول في صراحة وإخلاص؟ عذرت من عاشوا في زمان الظلم، فما عذر من يعيشون في هذا الزمان؟ إن حرية التفكير مكفولة للجميع، على شرط السلامة الفكرية، فما الذي يوجب أن يكون الأديب إمعة لا ينطق أو يصمت إلا وفقاً لبعض الموحيات الأجنبية عن جو العقل والروح؟ وما الموجب لأن يتفاضل الأدباء بالقدرة على الرياء، وهو سناد المهازيل، وعماد المعاليل، ودعام المناخيب؟ لقد وضع الورق في التسعيرة الجبرية قبل أن يوضع الفول، ومع هذا لا يفهم ناس أن قوت العقول يسبق قوت البطون! إن الأدب الكاذب ينفع، فكيف يضر الأدب الصادق؟ والأدباء المستعبدون يفلحون، فكيف يخيب الأدباء المستقلون؟ جربوا الصدق مرة واحدة، يا أدباء هذا الزمان، وحاولوا مرة واحدة أن يكون لكم وجود منزه عن التبعية، ولو كانت في اشرف الأوضاع، ليصح لكم القول بأنكم من دعاة الحرية والاستقلال إن محنة الأدب في هذا العصر محنة عاتية، وهل توجد محنة أقسى من محنة العبودية؟ ولأي سبب؟ للقوت الذي لا يبخل الله به على ضعاف النمال! إن الأديب المصري لم يخلق بعد، الأديب الذي يستوحي نجوم السماء لا نجوم الأرض، الأديب الذي لا يخاف الجوع، لأن له زاداً من الحب والنسيم، الأديب الذي لا يخشى التوحد، لأن التوحد هو انس الأسود التصوف خلق أول مرة في مصر، في عهود سبقت عهود الفراعين.
عنا اخذ الناس معاني الروحية، فهل يعاب علينا أن ندعو إلى الصوفية الأدبية؟ ولكن أين الأديب؟ أين لا أين، فقد طوقت المنافع الباب الأدباء في هذا الزمان؟! أن وجد الأديب المصري المنشود فسيكون المرجع لأقطاب السياسة واعيان المال، لأن الأدب هو الميزان لفهم مطالب الحياة وحقائق الوجود وهنا تظهر إحدى الدقائق الروحية: فالميزان لا يستفيد مما يزن، وإنما يستفيد الوزان، فيا أدباء مصر كونوا موازين لا وزانين آه ثم آه!! إن الذي يملك بعض المنافع في هذه البلاد يعتز ويستطيل، فكيف يجوز لحامل القلم أن ينسى نعمة الله عليه فيتمسح بهذا الركن أو ذاك؟ وما الذي يمنع من أن نجرب حظنا مع الله، وقد جربنا الحظوظ مع الخلائق؟ لقد عفا الله عن سفهاء الأدب فأورثهم الخلود، برغم ترديهم في هوة التزلف إلى الوزراء والأمراء والخلفاء قال أبو نواس في مدح الأمين: عقتُ بحبل من حبال محمد ...
أمِنتُ به من طارق الحدثانِ فغضب الله عليه وعلى اللامين وأوردهما موارد البلاء واعتر البحتري بصحبة المتوكل فضاع الأول وهلك الثاني أنا أدعو الأدباء إلى التخلق بأخلاق الصوفية.

هل تذكرون بعض مذاهب الصوفية؟ اسمعوا هذا الحديث: انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين إيابي أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا انهم ارفع من الانبياء، وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان، لأن المهم أن تصح الصلة بصاحب العزة والجبروت، والإنباء عباد الله قبل أن يكونوا مرسلين وبعد أن كانوا مرسلين، وهم اشرف من أن يدعوا مشاركة الخالق في طاعة المخلوق ومشكلة الأدباء أيهون من مشكلة الصوفية، فنحن لا ندعوهم إلى الترفع على الأنبياء، وإنما ندعوهم إلى الترفع على الناس.
ندعوهم إلى أن يعرفوا أنفسهم.
ندعوهم إلى أن يعرفوا نعمة الله عليهم.
ندعوهم إلى التنسك في سبيل المبادئ الروحية.
ندعوهم إلى إنقاذ الأدب من مزالق الرياء فلان الذي يكتب في المجلة الفلانية عن الدين والأخلاق لا يستبيح المرور بشارع فؤاد ولا عبور جسر قصر النيل، مخافة أن يقول الناس انهم راوغه يسير هنا أو هناك فكيف تعبدون الله يا عبيد الناس، وهل يعبد الله من يخاف الناس؟ اطرحوا هذه البراقع.
اطرحوها، اطرحوها، والله المسؤول عن أقواتكم، أن ضاعت بسبب الصدق، فبينكم وبين الله عهد وثيق، عهد يقضي بأن لا تكون العزة لغير الصادقين، والله لا ينقض الميثاق في كل ميدان فرص ينفع فيها التمرين والتدريب، إلا الأدب، فهو موهبة ربانية لا تنال بجهاد الأنفس والاموال، ولا يظفر بها الملوك، إلا إن كانوا موهوبين تستطيع الشعوب أن تجلس على عرش الملك من تشاء، ولكنها تعجز عن خلق الأديب، لأن الأديب من إبداع المبدع الوهاب، ومن كرم الله على الإنباء أن جعلهم فصحاء.
وهل فات موسى أن يسال الله تأييده بلسان هارون؟ الأدب سلطنة لا يجوز عليها الذل والكفر بالأدب كفر بحق الله في اصطفاء من يشاء ثم ماذا؟ ثم يبقى القول بأن إيمان الأدباء بالله ضعيف ضعيف، فما زالوا يتوهمون أن لهم حوائج مع الخلائق، وهذا شرك لا يرضاه الله ولا نرضاه أنا أعرف السر في انهيار دولة الأدب في جميع الأجيال، فقد كان الأدباء يجافون الله ويصافون الناس فيا أيها المبدع الأول والأخير لأنوار القلوب وأضواء العقول، تفضل فاجذبنا اليك، حتى لا نرى روحاً سواك، ولا نشهد إلا اياك، ولا نستجير بغير حماك، ولا نعتمد إلا عليك فما يعتمد على الخلائق غير الأذلاء الأدب خير ما أبدعت، فهو منك واليك، ولك الحمد وعليك الثناء. زكي مبارك

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢