أرشيف المقالات

من وثبات العبقرية

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 5 - نظام الضرائب في الإسلام للأستاذ علي حسين الوردي خراج الأرض وجزية الرؤوس اختلف علماء المالية حول ضريبة الأرض فمنهم من استحسن فرض المبلغ المعين على الوحدة من مساحة الأرض ليؤخذ من غير زيادة ونقصان عاماً بعد عام يقول أنصار هذه الرأي بأن تمسح الأراضي - في أول الأمر - مسحاً عادلاً متقناً، ثم تصنف بعد ذلك على أنواع حسب خصوبة التربة، أو طريقة سقيها ونوع الزرع فيها؛ ثم توضع الضريبة على كل نوع من هذه الأنواع، فيكون مقدار الضريبة كبيراً أو صغيراً تبعاً لما اعتادت الأرض أن تعطي من ريع ضخم أو ريع ضئيل ومن العلماء من يخالف هذا الرأي كل المخالفة ويدل بالحجج على بطلانه أو المضرة التي تنتج عن اتباعه ومن رأى هؤلاء ألا ينظر إلى مساحة الأرض بشيء من الاهتمام، إنما الواجب - على قولهم - هو أن تؤخذ الضريبة نسبة محدودة من إنتاج الأرض كل سنة وإنهم بهذا يفندون الرأي الأول، إذ يرون من الظلم أن يفرض المقدار الثابت على جريب الأرض سنة بعد سنة، بينما نجد الزراعة لا تنتج مقداراً ثابتاً على توالي السنين؛ فقد يأتي المحل على أرض في موسم، ثم يأتي جباة الحكومة - وفيهم الغاشمون والطامعون - ليأخذوا نفس المبلغ الذي كانوا يأخذونه في أيام الرخاء.
أو قد يأتي - على العكس - عهد الخير والإنتاج الوفير، ثم لا تستطيع الحكومة أن تجبي منه مبلغاً كبيراً، فهي تجبي المبلغ المعين على جريب الأرض، سواء أكان الإنتاج في تلك السنة قليلاً أم كثيراً وما دامت الزراعة تتبع في إنتاجها تقلبات الطبيعة من رياح وحرارة وأمواه، فليس من العدل إذن أن تفرض الضريبة ثابتة متساوية في جميع السنين أما أرباب الرأي الأول فهم لا يردون هذا الاعتراض القوي، وكأنهم يعترفون بصحته ضمناُ، أو لعلهم لا يستطيعون له رداً؛ ولكنهم مع ذلك يقولون إن الضريبة الثابتة له المحاسن ما يوازن تلك السيئة أو ينيف عليها؛ خصوصاً إذا كانت الأرض منتظمة الخصوبة تابعة لنظام محكم من الري أو عناية مستمرة من الحكومة، إذ يكون الإنتاج آنئذ متناسق المقدار في اغلب السنين ومن حسنات الضريبة الثابتة، كما يقولون، أنها تشجع الإنتاج، وتحرض أصحاب الأراضي على الزراعة فهم يعتقدون أن بعض أصحاب الأراضي من الأغنياء قد يتقاعسون عن زراعة أرضهم حباً للراحة أو ضيقا من الضريبة إذا كانت الضريبة مفروضة على الإنتاج.
وقد يجرؤ كذلك بعض من يملكون الأراضي في المدن وضواحيها.
فيتركونها بوراً سنوات عديدة، احتكاراً لها وانتظاراً للأسعار العالية فيها أما إذا وضعت الضريبة على مساحة الأرض، سواء زرعت أم لم تزرع، فسيضطر أولئك المالكون المترفون إلى عمارتها أو بيعها، هرباً من دفع الضريبة كل عام عبثاً، وبذلك يزداد إنتاج الأمة وتتقدم اقتصادياتنا تقدماً مبيناً هذه خلاصة ما قام حول ضريبة الأرض من جدال.
وقد يستغرب القارئ إذا علم أن هذا الجدال كان له مثيل في عهود الإسلام الأولى، ولعله سيعجب حين يرى أغلب البراهين التي يدلي بها علماء اليوم في تأييد كل من ذينك الرأيين، قد سبق ذكرها في كتب فقهائنا الأقدمين رضى الله عنهم ولهذه المسألة في الإسلام قصة شيقة نلخصها فيما يلي: عندما فتح المسلمون أرض العراق جمع عمر لجنة من أولي الرأي، منهم علي بن أبي طالب، وعثمان، وطلحة.

للتشاور في أمر الأراضي المفتوحة وقد قر الرأي أخيراً على مسح الأرض.
فأرسل عمر عثمان ابن حنيف لمساحة أرض الفرات، وحذيفة بن اليمان لمساحة جوخى فيما وراء دجلة وكان عثمان عالماً بالخراج فمسحها مساحة الديباج، أما حذيفة فقد لعب به أهل جوخى في مساحته إذ كانوا قوماً مناكير وجعل عثمان على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة، وعلى جريب الحنطة أربعة، وعلى جريب الشعير درهمين ووقف عمر على عامليه قبيل وفاته فقال لها: لعلكما حملتما الأرض ما تطيق؟ فقال عثمان: حملت الأرض أمراً هي له مطيقة ولو شئت لأضعفت أرضاً.
وقال حذيفة: وضعت عليها أمراً هي له محتملة وما فيها كثير فضل.
فقال عمر: انظرا لا تكونا حملتما الأرض ما تطيق.
وجرت سياسة الإسلام على هذا المنوال من فرض الخراج الثابت على كل جريب مزروع أو غير مزروع، حتى عهد الخليفة هرون الرشيد.
فلقد سأل هذا الخليفة الفقيه أبا يوسف عن أمر الخراج، وكان من رأي أبي يوسف العدول عن الخراج الثابت إلى خراج المقاسمة في الإنتاج وهو ما يقول به الرأي الثاني من الرأيين اللذين سلفا.
وقد رد أبو يوسف على ما يقول به الفريق الأول من أن الخراج الثابت يزيد إنتاج الأمة ويدعو الزراع إلى عمارة الأرض الغامرة: (.

فأما ما تعطل منذ مائة سنة أو أكثر وأقل فليس يمكن عمارته ولا استخراجه في قريب ولمن يعمر ذلك حاجة إلى مؤونة ونفقة لا تمكنه، فهذا عذرنا في ترك عمارة ما قد تعطل، فرأيت أن وظيفة الطعام - كيلاً مسمى أو دراهم مسماة توضع عليهم مختلفاً - فيه ضرر على السلطان وعلى بيت المال، وفيه مثل ذلك على أهل الخراج بعضهم من بعض)
ثم يبدأ أبو يوسف بانتقاد الخراج الثابت على ما سبق ذكره من اختلاف المواسم: (أما وظيفة الطعام، فإن كان رخص فاحش لم يكتف السلطان بالذي وظف عليهم ولم يطب نفساً بالحط عنهم، ولم يقو بذلك الجنود ولم تشحن به الثغور.
وإن كان غلاء فاحش لا يطيب السلطان نفساً بترك ما يستفضل من أهل الخراج من ذلك.
والرخص والغلاء بيد الله تعالى لا يقومان على أمر واحد.
وكذلك وظيفة الدراهم مع أشياء كثيرة تدخل في ذلك تفسيرها يطول.
)
(ورأيت أبقى الله أمير المؤمنين، أن يقاسم من عمل الحنطة والشعير من أهل السواد جميعاً على خمسين للسيح منه؛ وأما الدوالي فعلى خمس ونصف، وأما النخل والكرم والرطاب والبساتين فعلى الثلث، وأما غلال الصيف فعلى الربع، ولا يؤخذ بالخرص في شيء من ذلك)؛ إنما تكون المقاسمات في الثمرة عندما يباع من التجار، أو يقوم ذلك قيمة عادلة، ثم يؤخذ منهم ما يلزمهم فيه جزية الرءوس استعملت هذه الضريبة قديماً في جميع الدول، فلقد جباها الفراعنة واليونان والفرس، ثم الرومان والعرب من بعدهم.
وهي لا تزال تجبى اليوم على نطاق مصغر في بعض البلاد المتمدنة، أو هي قد اتخذت في أغلب الأمم الحديثة شكلاً جديداً أو اسماً غير اسمها القديم.
ومؤيدو هذه الضريبة يقولون بوجوب فرضها على جميع الناس، لكي يشعر كل فرد من الأمة بأنه عضو فعال في دولته، وأن عليه مسؤولية نحوها كمسؤولية عضو الأسرة نحو الأسرة. وهؤلاء المؤيدون يرون أن قسما كبيراً من الشعب لا يؤدون إلى الحكومة ضرائب مباشرة، وهم لذلك لا يشعرون بشيء من الصلة التي تربطهم بالدولة ارتباط الضرورة الاجتماعية وعلى هذا ينبغي وضع الضرائب مباشرة على كل رأس ليتم بذلك الترابط الاجتماعي المنشود وليس من العدل كذلك أن يشترك في حكم البلاد كل الأفراد، ثم لا يؤخذ من بعضهم قسط من النفقات اللازمة لتدبير الأمور العامة إن مشروعية الجزية مستندة إلى حماية الحياة التي هي أهم وظائف الدول وأكثرها حاجة إلى الإنفاق.
إذ يجب حفظ الأمن العام، الداخلي والخارجي، وعقاب المجرمين والمعتدين ولا يزال بعض المؤلفين المحدثين يدافعون عن جزية الرءوس بقولهم: (ما دامت الحكومة الديمقراطية يشترك في إدارتها كل ناخب، فيجب إذن أن يفرض على جميع الناخبين جزية مباشرة، مهم كانت صغيرة، إذ لا يمكن أن تضطلع بأعباء الضرائب طبقة من الناس بينما تضطلع بالحكم طبقة أخرى) وهاهي ذي بعض ولايات سويسره والولايات المتحدة الأمريكية، قد فرضت ضريبة يسيرة على الرؤوس لتكون بدلاً عما أعطى الفرد من حق التصويت أو الانتخاب وفي الحقيقة أن الجزية لها من المزايا ما جعلها محببة إلى الجباة في كل حين.
ذلك أنها سهلة في إدارتها كل السهولة، وافرة المحصول هينة الجباية.
وما هي إلا أن يختم على رقاب الناس أو تسجل أسماؤهم، ثم لا يترك الشخص كل عام حتى يدفع ما عليه من ضريبة وهو من الصاغرين وفي هذه المناسبة، يجب إلا ننسى أن التجنيد الإجباري للمتبع اليوم في جميع أنحاء العالم، ما هو إلا صورة من صور الجزية حيث يقدم الفرد عوضاً عن الضريبة النقدية ضريبة من الخدمة البدنية والمخاطرة بالنفس.
ولذا سمى التجنيد (بضريبة الدم). تؤخذ الجزية على أنواع مختلفة: منها أن تكون متساوية المقدار على الجميع، لا فرق فيها بين غني وفقير، أو بين ذكر وأنثى.
وحجتهم في هذا الرأي أن الحكومة مكلفة بحماية الأرواح وأرواح الناس جميعاً ذات قيمة واحدة، فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ولذلك تؤخذ الجزية متساوية من المجتمع وعلى رغم ما في هذه النظرية من رونق خاص، فإنها بعيدة عن العدل بعداً لا يخفى على اللبيب، ولذا فضلت عليها الطريقة الثانية التي يميز فيها بين شخص وآخر حسب مقدرته أو غنائه وهذه الطريقة هي التي أتبعها الإسلام في أهل الذمة إذ فرض ثمانية وأربعون درهما على الغني، وأربعة وعشرين على الوسط، ثم أثني عشر على الحراث أو العامل بيده مثل الخياط والصباغ والإسكاف والجزار.
ولم تؤخذ الجزية من النساء والصبيان ولا من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من الأعمى والمزمن والمقعد إذ كانوا لا يملكون حرفة ولا يساراً وأيما شيخ من أهل الذمة ضعيف عن العمل أو أصابته آفة، أو كان غنياً فافتقر.

طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وبعد فيجب ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الجزية والخراج اللذين ذكرنا من أمرهما شيئاً، لم يضعهما الإسلام إلا على الذميين، وهم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم من الذين وقعوا تحت الإسلام ثم آثروا البقاء على دينهم. وهنا نعرض لمسألة خاض فيها الباحثون طويلاً وذهبوا فيها كل مذهب: إذا دققنا في أمر الضرائب هذه التي فرضت على أهل الذمة، وقارناها بالضرائب التي فرضت على المسلمين - أي الزكاة - وجدنا ثمة فرقاً كبيراً.
إذ إن الزكاة كانت خفيفة جداً بالنسبة لما فرض على غير المسلمين.
فالإسلام كان يأخذ من أتباعه ما يقارب ربع العشر على ما بأيديهم من أنعام وأموال وزراعة، بينما أخذ من الذميين الثلث والربع إضافة إلى الجزية على الرءوس. فهل في هذا عدل من الوجهة العلمية الحديثة؟ إن الحكومة الحديثة تفرض الآن على الناس جميعاً ضريبة الدم، وهي في الحقيقة أضخم وأكبر تضحية من جميع الضرائب.
والإسلام كذلك أوجب الجهاد على أتباعه واستوفه منهم تلك الضريبة الهائلة التي ليس لها مثيل.
فإذا علمنا بأنه استثنى الذميين من تلك الضريبة وأمر أتباعه أمراً مؤكداً (بأن يوفي لهم بعدهم ويقاتل من ورائهم وألا يكلفوا فوق طاقتهم)، فليس إذن من العجب أن نراه يعاملهم في الضرائب الأخرى معاملة أخرى.
ولعل الإسلام لم يرغب في أن يفرض ضريبة الدم على غير أتباعه، كما فعل كثير من الدول قديماً وحديثاً، وكأنه كان حريصاً على أن تكون ضريبة الدم وغيرها من الضرائب الأخرى مدفوعة بعامل من رضا النفس وارتياح الضمير. (الكاظمية - العراق) علي حسين الوردي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢