أرشيف المقالات

من معهد الإسكندرية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 إلى جامعة فاروق الأول للأستاذ محمد محمد المدني أيتها الجامعة الناشئة: سلام الله ورحمته وبركاته عليك، وهنيئاً لك هذا البدء السعيد لحياة أرجو أن تكون طويلة مباركة حافلة بالعمل والنشاط والإنتاج إن شاء الله! أتدرين ممن تلقين هذا الكتاب؟ إنه من أخ لك لم تلده أمك الشابة الحسناء، المشرفة على ضفاف النيل بالجيزة الفيحاء، ولكن ولده عمك أو جدك (الأزهر)! ذلك الشيخ العجوز الرابض تحت سفح المقطم منذ ألف عام.

أريد أن أهنئك من قلب مخلص صادق لم يداخله الحسد، ولم يكدره التعصب، بما تلقينه من عناية بك، واهتمام بأمرك.

ثم أشكو إليك ما أتجرع أنا من غصص الضعف، وما أذوق من ذل الغربة وويل الشتات! أنت الآن - أيتها الأخت - في فترة من الزمان تغبطين عليها: لم تبتدئي بعد عامك الدراسي الأول، وأرى الدنيا عليك مقبلة، والأيام عنك راضية، والدولة إليك دائلة! أنت كالعروس المدللة الأثيرة عند أهلها: يعدون لها، ويتطلعون إلى يوم جلوتها، ولا يدخرون وسعاً في سبيل إرضائها، وتهيئة الحياة السعيدة المترفة الناعمة لها.

وأهلك أغنياء كرماء قد عرفوا الحياة وأدركوا أسرارها، ومرنوا على السير فيها بخطوات ثابتة جريئة متوالية، حتى احتلوا المكان الأول، ونالوا الحظ الأوفر، وتركوا الخاملين المتخلفين من ورائهم، يكادون يتميزون غيظاً ويموتون غماً! هذه وزارة المعارف كثيرة الحركة دائبة النشاط: قد حشدت قواها، وعبأت رجالها: تجتمع لجانها، وتنعقد مجالسها، وتكتب تقاريرها، وتؤلف فيها الهيئات الفنية وغير الفنية، ويسهر وزيرها، ويدأب في السعي مستشارها، وتشتغل الصحف والمجلات ودار الإذاعة بأمرها.

وكل ذلك من أجلك أنت - أيتها الأخت - السعيدة! ومن قبل شغل المجلسان في دار الندوة بهذا الأمر: تقبلاه بقبول حسن، وأقراه في مثل لمح البصر، وأوسعا له في البذل والعطاء، ولم يضنا عليه بالحر من المال، والعالي من المناصب، والرفيع من الدرجات.

فأسعدي - يا أخت - بهذا العطف، واهنئي بهذه الرعاية، واستمتعي بمجد آلك، واستطيلي فخراً بأسمائهم، واستظلي مما عقدوه عليك بلواء من الأمن والطمأنينة والرضا، واسلكي سبل العلم، وفجاج البحث، ذللاً لا أشواك فيها، ولا عقاب تعترض من دونها! سيري يا أختاه بجنان ثابت ونفس مطمئنة وصدر لم تفسده الوساوس، ولم تحوم حوله الشكوك، فقد وفتك الدولة حقك، وكفتك ما يهمك، وجعلتك في يمنى يديها حين جعلت غيرك في يسارها ومن وراء ظهرها! معاذ الله - أيتها الأخت الناشئة - أن أتطاول إلى مثل مقامك، أو أمني النفس بمثل منزلتك، فإنما أنا معهد ثانوي صغير لا يزيد على هذه المدارس الكثيرة التي تعمل في خدمتك، والتي ستمدك كما مدت أمك الرءوم من قبل بالبنين والبنات؛ ولست قريباً لك ولا نداً لخطابك، ولكني أشاركك فقط في معنى واحد، به أكتب إليك وبه أجترئ عليك: أنا معهد الإسكندرية وأنت جامعة الإسكندرية، ولقد كنت مثلك يوم نشأت منذ ثلاثين عاماً: كنت معهداً من المعاهد العليا عنيت به الدولة يومئذ كما تعني بك الآن، واحتفلت به الأمة كما تحتفل بك الآن، وأسندت إدارته إلى رجل عبقري حازم لم تزل آراؤه وإصلاحاته وهمته ونشاطه مسك الأحاديث وعطر المجالس، هو المغفور له الشيخ محمد شاكر، وقال الناس عني كلاماً كثيراً، قالوا: هذا معهد الإسكندرية عاصمة مصر الثانية، هذا هو (أزهر) الدولة المحمدية العلوية سينافس أزهر الدولة الفاطمية، وقد حققت بي الأيام بعض هذا الظن، فكنت نموذجاً في أساتذتي، وكنت نموذجاً في طلابي، وكنت نموذجاً في دراساتي ونظامي، وخرجت رجالاً أئمة يكادون يستأثرون بالفضل في كل ناحية من نواحي الأزهر الحاضر: في العلم، في الخلق، في الإدارة، في الحزم، في الشجاعة، ولكن الزمان صدمني مرتين: فأما إحداهما فيوم بدا لرجال الأزهر أن يجعلوني معهداً كمعاهد الأقاليم فأصبحت معهداً ثانوياً كمعاهد طنطا وشبين وقنا، أعد أبنائي، وأجد في تعليمهم وتثقيفهم وتهذيبهم وتقويم أخلاقهم؛ حتى إذا سويتهم فتيان علم وعمل وخلق كريم دفعت بهم إلى الأزهر فغرقوا في لجته وضلوا في تيه.
والأزهر كما ينبئ عنه التاريخ قوة خارقة غلابة تحيل الأشياء ولا تحيلها الأشياء: كم من رجال تأبوا عليه ثم خضعوا له من حيث لا يشعرون، وأرادوا له صيداً فكانوا هم المصيدين! وكم من علوم لم تهضمه ولكنه هضمها، ورامت منه فأخضعها وأذلها! وكم من أخلاق فيه تبدلت وملكات ثابتة تأرجحت! فماذا عليهم لو يتركوني كما أنشأوني معهداً عالياً نموذجياً ولم تمتد أيديهم إلي، إذاً لكنت اليوم جديراً أن أكون قريناً لك بل منافساً شريفاً يحاول أن يسبقك في ميادين العلم والبحث والإنتاج! وأما صدمتي الأخرى فقد أصابتني قريباً، وكانت صدمة عنيفة زلزلت مكاني، وقوضت أركاني، وشطرتني شطرين رمت أحدهما إلى العاصمة الغربية فزحمت به معهد طنطا، واحتفظت بأيسر الشطرين في دمنهور فأقامته في (كُتّاب) لجمعية تحفيظ القرآن ثم قالوا عن هذا (الكُتّاب) وأنا أكاد أذوب خجلاً: هذا معهد الإسكندرية لقد أنزلوك على الرحب والسعة إحدى دورهم الفسيحة الأرجاء العالية البناء، ولن تمضي عليك بضع سنوات حتى تكون لك مدينة جامعية في رمل الإسكندرية تشرق على بحر الروم كما تشرق مدينة الجامعة الأولى على نهر النيل، أما أنا فقد قضيت حياتي في مكانين متباعدين في مدينة الإسكندرية شمالاً وغرباً: أحدهما زقاق غير نافذ من أزقة السيالة تكتنف البيوت فيه داري، ويعلو الباعة المتجولين في كل صباح ضجيج من حولي؛ والآخر دار بنوها، وكأنما كان مهندسها ينظر في ضمير الغيب إلى ما حدث الآن فبناها على نظام ثكنات الجيوش.
نعم بنوها، ولكن في أي مكان؟ في (القباري) موطن المصانع ومستودعات البترول و (مغالق) الخشب، ومخازن السكك الحديدية وطريق الإسكندرية كلها إلى (السلخانة) ومدابغ الجلود! (وفكر) الأستاذ الأكبر المراغي في أن يبني لي داراً تليق بمكانتي، فأمر رجاله أن يرودوا الإسكندرية وضواحيها مكاناً مكاناً فرادوها، وقيل للناس أنهم قد انتخبوا مكاناً فيها، ثم انتهى الأمر بالمشروع إلى هذا الحد فكتبت فيه تقريرات أضيفت إلى سجل التقريرات عن سائر المشروعات! وليتني بقيت في الإسكندرية حيث كنت، ولكنهم حفظهم الله قد خافوا الغارات، وقذائف الطيارات، ففروا بي من قضاء الله إلى قضاء الله.
فهذه هي صدمة الأخيرة التي حدثتك يا أخت عنها، فإذا بدا لك أن تسأليني: كيف جاز لمعهد أزهري أن يفر من الإسكندرية قبل أن تفر مدارسها الابتدائية بل مدارسها الإلزامية ورياض أطفالها، فإني أجيبك على البداهة بأن لنا معاشر الأزهريين فلسفة خاصة في القضاء والقدر والصبر على النوازل والثبات للشدائد؛ فلسفة تقضي علينا أن ننصح الناس بالرضا عن ذلك كله، واحتمال ذلك كله وننسى أنفسنا، وأن نبالغ في نهي الناس عن الجزع والفزع ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه! وقد يكون في الأمر سر آخر لا أعلمه ولا أعتقد بأنك حريصة على أن تعلميه، وربما علمه فضيلة شيخي الجليل الناشط الأستاذ الشيخ أبي العيون.
وبهذه المناسبة أذكر لك أن هذا الشيخ الناشط لا يباشر عمله في إدارتي الآن منذ عام أو يزيد، لأن الأزهر رأى أن ينتفع بنشاطه في منصب من مناصب التفتيش (في إدارته العامة) فيا لله لمعهد قسمه الثانوي في طنطا وقسمه الابتدائي في دمنهور، وشيخه ومدير أدارته في القاهرة بين المفتشين! أيتها الأخت السعيدة: هنيئاً لك، وعزاء لي. أخوك معهد الإسكندرية (بطرف) جمعية المحافظة على القرآن الكريم بدمنهور (طبق الأصل) محمد محمد المدني المدرس بكلية الشريعة

شارك الخبر

المرئيات-١