أرشيف المقالات

العالم المسرحي والسينمائي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 بين مسرحي الدرام والكوميدى في مصر لناقد (الرسالة) الفني لعل من أعجب ما يلاحظه المتصل بالمسرح المصري في العشر سنوات الأخيرة اتصالا وثيقا أن المسرح الهزلي - الكوميدي - كان أكثر توفيقا ونجحا فمن المسرح الجدي - الدرام - وأقوى على مغالبة الأزمات والعقبات التي عرضت في السنون الأخيرة وأودت بالفرق التمثيلية إلى الدرك الذي وصلت إليه. وأغرب من هذا وأبعث على العجب أمن مسرح الدرام بدأ غنياً فافتقر، بينما أن مسرح الكوميدي بدأ فقيراً ثم اغتنى.
وما نعني هنا هذا العرض الزائل وهذه الدريهمات التي تأتي بها الظروف أحيانا، وتذهب بها الظروف أحيانا أخرى، وإنما نعني في حديثنا عن الفقر والغنى الناحية المعنوية والفنية لكل منهما. فمنذ عشر سنوات أو قبل ذلك بقليل، كانت فرقتا الأستاذ جورج والأستاذ عبد الرحمن رشدي تنهضان بعبء العمل المسرحي على أكفأ ما يكون، وتغذيان جمهورهما بأنفس الروايات المترجمة أو المؤلفة على السواء، وكانت الفرقتان تضمان مجموعة من خيرة ممثلي وممثلات المسرح في مصر، وكان الإقبال على حفلاتهما ليس بالقليل وحلت الفرقتان لأسباب عارضة لسنا بصدد تفصيلها هنا وتألفت على أنقاضهما فرقة رمسيس التي اجتمع لها من أسباب القوة والبروز ومقدمات النجاح والنصر ما لم يجتمع لفرقة قبلها، فالمال جم وفير، وثمت مسرح خاص أنيق، ونخبة من أحسن الممثلين والممثلات، ومجموعة منتقاة من أجود الروايات، وقبل كل هذا الرغبة القوية في العمل الفني الحق، والإرادة التي لا ينقصها الحزم، ونشطت الصحافة إذ أحست هذه الجهود الجبارة تبذل في سبيل الفن فأفردت صحفنا اليومية الحديث عن مسرح والتمثيل أبوابا خاصة بل صحائف كاملة، وكان ذلك حدثا جديداً في عالم الصحافة، وتفرغ كثير من الأدباء للكتابة عن التمثيل ونظمت لأول مرة في تاريخ المسرح حركة النقد تنظيما واسع النطاق، وقصارى القول أ مسرح الدرام في ذلك الوقت كان غنيا بل طائل الثراء بالجهود التي تضافرت لإنعاشه وبعثه وخدمته الخدمة الحقة التي تعلي من شأنه وترفعه إلى المنزلة التي هو جدير بها، ولم يكن ينقصه إقبال الجمهور الذي تدفق وحيا القائمين بهذه النهضة المباركة تحية طيبة مباركة. كان ذلك منذ عشر سنوات، أي في مستهل افتتاح مسرح رمسيس الذي يؤرخ ظهوره عهدا جديدا في تاريخ المسرح في مصر، ما في ذلك شك، ولا من الاعتراف به بد.
ولكن انظر اليوم أين نحن وأين مسرح الدرام، واين تلك النهضة التي بدأت قوية وسطعت كالشهاب اللامع.
ثم إذا بجذوتها تنطفئ على الأيام رويداً رويدا، وتنحدر من قمتها الباذخة سنة بعد أخرى حتى إذا هي اليوم في أسفل الوادي، بل في هوة سحيقة وا أسفاه، وفي حال تدمع لها العين ويدمى لها الفؤاد. ها هي فرقتنا الجدية تغلق دورها وتعلن فشلها، ويتفرق أفرادها يطوقون الأبواب كبائس في يوم عيد يرى الناس في زينتهم ونعيمهم وهو مملق مسكين، كده الضنى وأجهدته الحياة، وأسلمته صروف الأيام إلى المسغبة والعوز، ويخفض جناح الذل من الحاجة ويستعدى على مطالب العيش وقوت الأهل إحسان المحسنين وبر الكرام العاطفين كان مسرح الدرام كما رأيت، وحاله اليوم كما ترى، كان غنيا وافر الغنى، فأصبح فقيرا شديد الفقر، كان رفيع العماد شامخ الذرى فإذا هو اليوم أنقاض وخرائب وموحشة. لكن مسرح الكوميدي حاله غير هذه الحال، ولشد ما يختلف في نشأته وكيانه وتطوره عن مسرح الدرام! فبينما كان هذا قوياً زاخرا بفرقة العاملة وبمن تضم من أفراد مشهود لهم بالمقدرة والكفاءة، كان الآخر لا يزال في مستلهل حياته ومطلع فتوته يلجأ إلى دور صغيرة ضيقة من التجاوز في التعبير أن نسميها مسارح، وكان لا يضم إلا قلائل جمعتهم وحدة الغاية والميول فتكاتفوا على العمل سويا في النوع الذي وجدوا من أنفسهم ميلا إليه ومن استعداهم كفاء له.
وأخرجت بعض روايات جورج فيدو المؤلف الفرنسي النابه الذكر فلقيت نجاجا كبيرا وبدأ مسرح الكوميدي ينتعش قليلا قليلا ولكنه لم يحرز التوفيق كله إلا في فرقة مسرح الاجبسيانه - رنتانيا اليوم - حيث بدأت الروايات الاستعراضية الكبرى والتي كانت تمثل كل منها الأسابيع والأشهر المتوالية بنجاح عظيم يفوق الحد والجمهور تكتظ بأفراده كل يوم مقاعد الملعب حتى ليس ثمت موضعا لقدم. على أن مسرح الكوميدي طحنته الأزمة وحدت من جهوده غير أنه قاومها طويلا وثبت للعاصفة المجتاحة.
والفرقة الوحيدة التي استمرت إلى اليوم على العمل هي فرقة للكوميدى، كما أننا نجد فرقة ثانية للكوميدى تؤلفه في هذا الموسم وتلقى نجاحا كبيرا في الوقت الذي تغلق فيه فرق الدرام أبوابها وتنصرف عنها الجماهير.
وبينما نسمع صرخات مديري الفرق الدرام يستغيثون بلجنة تشجع التمثيل ويطلبون منها المدة والمعونة، نجد مدير فرق الكوميدي يعتمدون على محض جهودهم وعملهم، فان مدتهم اللجنة ببعض المال فلا بأس، وان طوت عنهم معونتها فلا بأس أيضا، وهم مستمرون على بذل ما في وسعهم لاكتساب رضى الجمهور وضمان إقباله وتشجعه. أليس هذا الموقف جديراً بالتأمل والدرس؟ قل في تعليله ما تشاء وقل في أسبابه ونتائجه ما تقول، ولكن تبقى بعد ذلك الحقيقة الواقعة المنسوبة لا غناء في تجاهلها ولا نفع يرجى في التغاضي عنها وعما في طياتهم من معان هي خليقة بكثير من العناية والفحص.
فإذا أبيت إلا أن أدلي بدلوي في الدلاء وإلا أن اذكر لك مرجع هذا في رأيي فلعلي لا أكون قد جاوزت الحق والواقع إذا قلت أن مسرح الدرام لم يعمل على التقرب من الجمهور ولا على أن يدوم له الطعام الذي يسيغه ذوقه، بينما عمل مسرح الكوميدي على هذا فنجح من حيث أخفق الأول غلبت على مسرح الدرام الروايات الإفرنجية المترجمة وهي بشخصياتها وجوها، وعادات أبطالها وأخلاقهم، وبيئتهم وتصرفاتهم وكل ما يتصل بهم بعيدة عن ذوق الجمهور المصري، وقد تكون بعيدة أيضاً عن فهمه وإدراكه، غريبة عنه بكل ما فيها ومن فيها، ولكل شعب ذوقه الخاص ولذلك كان لكل أمة مسرحها الخاص، والمسرح في كل بلد يمثل الوسط الذي يعيش ويترعرع فيه، ولا تكاد تقحم المسرح الفرنسي في إنجلترا، ولا المسرح الإنجليزي في فرنسا، ولست كل الروايات الصالحة للعرض هنا، تصلح للعرض هناك، وقد تجد نماذج تنال النجاح والتوفيق في البلدين ولكنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها.
لهذا فشل مسرح الدرام لان الرواية المترجمة غلبت عليه. والحال على النقيض في مسرح الكوميدي حيث لا تجد إلا الرواية المصرية، ولا الشخصيات المصرية الصميمة التي تعرفها وتحبها وتعيش معها في جوليس بالغريب عليك وفي بيئة أنت بها جد عليم.
وقد افلح مسرح الكوميدي في خلق نماذج من الشخصيات المصرية قد تبدو عليها مسحة التجسيم والتهويل، أو فهي نماذج (كاريكاتورية) ولكنها مصرية قبل كل شيء، ثم هذه هي صنعة الفن الكوميدي أولا وآخراً، وعرف مسرح الكوميدي إجادة من بعض الممثلين لم يبلغها اندادهم في مسرح الدرام، لأن الأول عرف التخصيص، واعني أن من بين ممثليه أفراد تخصصوا في إخراج شخصيات معينة فأجادوها وبحكم المران والاستمرار، وتوغلوا في صميمها فأخرجوا منها الطريف المبتكر.
وهذه (المصرية) التي غلبت على مسرح الكوميدي كانت العامل الأول في نجاحه. على أن شعب هذا الوادي، شعب سهل لين، محب بفطرته للمرح يعب فيه بنهم وقابلية، ولعل في هذا أيضاً بعض السبب في إخفاق مسرح الدرام ونجاح مسرح الكوميدي ومن الخير أن نعرف للمسرحين ما أديا من رسالة الفن وأن نذكر لكليهما ما كان له من إحسان أو أساءة، فالمسرح المصري يقف اليوم بمجموعة مفترق الطرق فأما إلى الصدر وأما إلى القبر، ومن أوجب الواجبات في هذه الفترة الدقيقة من حياة المسرح أن نذكر للمحسن إحسانه وأن نعدد للمسيء نقصه وعيوبه، فيمضي الأول في طريقه مجداً عاملا، ويصلح الثاني من نفسه أن أراد إلا يتخلف عن زميله أو يدرك غباره. محمد علي حماد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢