أرشيف المقالات

الحياة صادقة!

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
8 2 - الحياة صادقة! للأستاذ عبد المنعم خلاف وراثة التشاؤم - خطأ في فهم الفكرة الأساسية في الحياة - نتائج خطيرة تتصل بالعقائد الثلاث في الحياة وواهبها والإنسان - الإنسان مبعث أكثر الشر - ضيوف الحياة يسخطون على المضيف! - الحياة جديرة باختيار الخروج إليها من العدم - لا خلط بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان - في عالم الكلام كثير مما لا وجود له في الطبيعة - تنقيح سجل الفضائل وسجل الرذائل - الأخلاق (تفاعلات) أرضية وليست منزلة من السماء - إلى الذين يديمون التفكير في الإنسان والطبيعة قال المتنبي: صحب الناسُ قبلنا ذا الزمانا ...
وعناهم من أمره ما عنانا وتولوا بغصةٍ كلهم من ...
هـ وإن سَرَّ بعضَهم أحياناً ربما تحسن الصنيعَ ليالي ...
هـ ولكن تكدر الإحسانا وكأنَّا لم يرض فينا بريب ال ...
دهر حتى أعانه من أعانا كلما أنبت الزمان قناةً ...
ركب المرء في القناة سنانا! وهكذا تلقى أكثر الناس ساخطاً على الحياة متبرماً بها، ناقماً على القدر، يستشعر في قلبه غيظاً دفيناً قد يكتبه الإيمان حيناً وقد يبعثه الجحود أحياناً، فيثور حتى يسخط على اليد التي أخرجته إلى الحياة ووضعت في قلبه شعلتها.

وقد وقر في الصدور أن الحياة محنة وعناء أكثر مما هي فرصة للذات واهتبال الخيرات واكتساب المعارف وخروج من دائرة الجمود والموت والعدم إلى نطاق الإحساس والانفعال والنمو والمعرفة. وقد ترجم الأدب القديم والأدب الحديث عن تلك الآراء المتشائمة السوداء ترجمة ملأت كثيراً من الصحف، وتوارثها الخلف عن السلف وزاد كل عصر في مجموعها، حتى صارت نظريات مسلمة رضيها أكثر الناس وتدارسوها فيما بينهم وعلموها ناشئيهم قبل أن يختبر هؤلاء الناشئون وجوه الحياة بأنفسهم وتجاربهم، فلونت مناظيرهم بالألوان القاتمة، واستقبلوا الحياة بوجوه عابسة، حتى في أدوار الشباب اللاهي القوي المتفتح الضليع الخليق بحب الكفاح وطلب المجد عن طريق القوة والفتوة، وترصدوا الأقدار على أنه معادية لهم مريدة الشر دائماً بهم، جاهدة أن تضع في سبيلهم العوائق والعراقيل، كأن رب الأقدار مولع بالتنكيل والعذاب يصبه على من يخرجهم إلى رحاب ملكوته، مغرم بفرض الأوامر والنواهي التي لا معنى لها إلا إظهار السلطان وإرهاق عبده الإنسان! فهم لذلك حريصون على اهتبال اللذات خلسة وجهرة، وعلى الثورة على الأوامر والنواهي تحرراً وانطلاقاً.
وقد وقر في الأذهان كذلك أن الدنيا لا احتمال لمكارهها وآلامها وتكليفاتها، ولا طاقة للقلوب البشرية على حمل أماناتها وأعبائها، فاجتزت الأفكار معاني العجز والكسل والتسليم الذليل القاصر الذي لم يحاول شيئاً أمام ما زعموه سلطة القدر، ورددت الأفواه ألفاظ الجزع والهلع والضعف والقنوط والهروب من مواجهة الحياة، وجلس الرجال، نعم الرجال! عنصر الكفاح في الحياة مجالس الأطفال القاصرين العاجزين على التراب يبكون ويئنون ويضمرون الغيظ الأليم من الحرمان، وينظرون إلى السماء نظر الفقد والثكل حتى يوم الإقبار.
ومن هذه الفكرة الواحدة الأساسية الأولى ولدت جميع المصائب والمكاره التي ضاعفت سواد الحياة في نظر الناس وجعلتها سلسلة من الآلام، وأخرجتها مخرج المأساة الدامية التي يدور فيها سوط القدر على ظهورهم وسيفه على رقابهم.
كانت نتائج هذا الفهم المخطئ والوضع المغلوط لهذه الفكرة الأولى، ذات أثر عميق في مجرى الحياة يتصل بالعقائد الأصلية فيها: وهي العقيدة في الحياة نفسها، والعقيدة في واهبها، والعقيدة في الإنسان.
فأما العقيدة في الحياة فقلما تحظى من فكر الفرد أو فكر الأمة أو فكر الإنسانية بما يجب لها من التأمل والفهم قبل البدء بالسير في طريق الحياة.

أعني عند تفتح المدارك وابتداء عهد الرشد وإدراك النسب الكثيرة بين الأشياء.
وإنك إذا سألت أكثر المتعلمين - دع الجاهلين - عن مدى فهمه لحياته وإحساسه بها، وعن الفكرة الأولى التي بنى عليها معاني نفسه، ووجه إلى قطبها إبرة قلبه، وأدرك أنها هدف الإنسانية جميعها وجدت أكثرهم يتلجلج ولا يكاد يبين؛ لأنه دخل الحياة في ذهول الطفولة، ثم درج إليها في عبث الشباب، ثم أخذته غمرة مشاغل الجماعة في عهد الكهولة، ثم هدمته عقابيل المرض والانحلال في عهد الشيخوخة، وإذا هو بعد ذلك مدرج في الأكفان، ملقىً إلى ظلمات القبور. هو في مراحل عمره مشغول بكل شيء إلا ما يجب أن يشغل به أولاً.
ولكن قد يصحو أحدهم من ذهول الطفولة أو من عبث الشباب صحوة المحموم الهادي، فترة قصيرة يرى فيها وجه الحياة، ثم تعاوده أخذة الحمى فينتكس.
وقد يدرك أحدهم وجه الحياة وهو في مشاغل الكهولة، ولكن يعز عليه أن يفارق طريق الجماعة ويبتدئ بناء حياته على ما أدرك فيمضي في طريق القافلة التائهة.
وقد يصحو أحدهم الصحوة الدائمة وهو في انحلال الشيخوخة فيعوزه ويؤوده أن يجاهد في سبيل إفهام الناس وإقناعهم بما أدرك فيمضي مغيظا محسوراً يردد: أواهُ لو عرف الشبا ...
بُ، وآهِ لو قدر المشيب! ما استقامت قناةُ رأييَ إلا ...
بعد أن عوَّج الزمان قناتي فلا مفر إذاً من ترقب عهد اليقظة وتفتح المدارك عند الطفولة والشباب، لإدخال الفكرة الصحيحة عن الحياة، وغايتها إلى أذهانهم. والفكرة الصحيحة - في رأيي - عن الحياة هي فكرة التفاؤل الرحب والتأويل الواسع لما عسى أن يكون في الحياة الطبيعية من آلام، وفهم الحياة على أنها فرصة للفرجة والاطلاع على أسرارها، وأنها سفر في مجاهل الكون.
ولابد للسفر من بعض المشقة.

ولكنها ليست مشقة النزاع والخلاف بين الركب المسافر، فإن ذلك جناية الركب وليست جناية الطريق.
ومن الهين على العقل أن يهدأ ويستريح لهذه الفكرة متى أدرك أن دخولنا إلى الحياة لم يكن باختيارنا، وأن إنشاء الكون وتهيئة الأرض وإعدادها للسكنى بالحرارة والماء والضوء والغذاء والهواء والإنبات والإنسال ليس لنا أيضاً رأي فيه أو اختيار، فلا مفر لنا إذاً من الخضوع والتسليم والاندفاع مع عجلة الحياة، والاجتهاد في التحري عن قوانين الطبيعة التي وجدنا أنفسنا في نطاقها وإسارها، والتلمس للغايات التي يصح أن تكون أهدافاً لإيجادنا في الحياة وما أريد أن أستند في تركيز هذه الفكرة إلى دين متوارث أو إلى رأي مأثور، وإنما الاستناد إلى الواقع المحسوس والمنطق الوضعي الذي في الطبيعة. ولو سألت الإنسانية نفسها: من أدخلني إلى رحاب الحياة وجعلني أحرص عليها مع أني لم أدخلها باختياري؟ والتزمت ما يوحيه الجواب على هذا السؤال إذاَ لنبت إيمان كل فرد من قلبه هو قبل أن يقرأ كتاب دين أو يرث عقيدة أمه وأبيه لأن سر الحياة العميق الملتهب الذي يسكن أجسامنا يحملنا على المحافظة عليه دافع مبهم مجهول عجيب مهما لقينا في سبيل الاحتفاظ به من آلام وعناء.

ولم يفر من حملة إلا الأقلون من المنتحرين؛ وهم القلة بحيث لا يعتد بهم هذا الدافع العجيب هو صوت خفي بعيد عن غير (المؤمنين) وواضح قريب عند المؤمنين.
وما يعنينا البحث عن الصوت الواضح عند هؤلاء؛ وإنما يعنينا البحث عن ذلك الخفي البعيد عند أولئك.
ونسألهم: لماذا لا يفرون من الحياة وينتحرون ما داموا بها غير مؤمنين؟ لماذا يستمرون في الصراخ والعويل والإزراء على الحياة والأقدار العمياء أو المبصرة، واليد المقدرة أو الصدفة الخابطة.
ويصدعون أسماع الناس بالأنين والتشاؤم مع أن الأولى بهم أن يريحوا أنفسهم من عناء الأحوال والأعمال والأقوال فيرجعوا إلى عالم الجمود والموت كما تمنى قائلهم: ما أطيب العيش لو أن الفتى حَجَرٌ ...
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم! ونسألهم لماذا يقعد بهم الجبن عن مفارقة الحياة ثم تذهب بهم الشجاعة إلى السباب والسخط على من أدخلهم إليها؟! فأين أدب الضيوف؟! إن للحياة نبأ عظيما يدركه الفكر المقدر لتلك الأعمال العظيمة التي يدور بها دولاب الفلك في هول واتساع وقوة ورهبة! و (إن في السماء لخبرا) كلمة جاهلية العصر؛ ولكنها لباب العلم في كل زمان وما يعنيني شخصيتي المحدودة، ما دمت قد حظيت برؤية هذه الدار الهائلة ذات الأعاجيب اللانهائية. وما تضيرني حوصلتي الضيقة المظلمة الفقيرة ما دمت قد رأيت رحاب الفضاء ومصادر النور وخزائن الغنى والثراء التي ما لها من نفاد لقد تمتعت على الأقل بأحلام الفاقدين وأنها لمتاع أي متاع! وتطلعت إلى عالم الانطلاق وأنا في القيود.

وأدركت الباقي الخالد حين أدركت الفاني البائد.
وإنها لمعانٍ جديرة أن يخرج إليها الإنسان باختياره من سكون العدم وجموده، ويقتنيها ببعض الآلام والمكاره، ويصطبر على الحياة من أجلها حتى توفى إلى غايتها، ويبالغ دائما في حب من أخرجه إليها.
ولكن أفي الحق أن طبيعة الحياة تحمل هذا الجانب البالغ من المكاره التي يزعمها الناس ويتوارثون الحديث عنها ويفيضون فيه شعراً ونثراً وحكماً ووصايا وأمثالاً؟ أم أن تلك المبالغة من جناية الإنسان الظلوم الجهول على الحياة وعلى نفسه وعلى واهب الحياة وبارئ النفس؟ أم إنها من جناية (تجار الكلام!) وحدهم الذين يرسلون زخرف القول غروراَ لا يبالون ما فيه من الصدق أو الكذب ما داموا قد عبروا فيه عن حالة من مكارههم وسوداويتهم، وما داموا قد أرضوا غرامهم الفني بحسن الصياغة والإغراب في المعاني والإتيان بغير المألوف وإرسال الخيال في أودية الأوهام والضلال؟ أما اعتقادي فهو أن الآلام الأصيلة في طبيعة الحياة قليلة جدا لا تتعدى ما يتصل بالكوارث الطبيعية والأمراض.
وإن كانت الكوارث الطبيعية والأمراض قد تغلبت على الإنسان قديما فهو الآن مستطيع دفاعها والتحصن منها وتقليل آثارها إلى حد كبير، فلا داعي لاجترار أقوال المتشائمين القدماء. وقلما تصيب الأمم كارثة طبيعية الآن.
ولن يبلغ مجموع الكوارث الطبيعية عشر معشار ما كسبت أيدي الناس وما بغى به بعضهم على بعض فأكثرية آلام الإنسان ناشئة من جناياته هو على نفسه وعلى جنسه، فهو يجني على نفسه بالإفراط في اللذات والشهوات حتى يتهدم جسمه، وبالتفريط في وقايتها من أسباب الأمراض حتى يدب إليه المرض وآلامه ويتسرب منه لذريته وهو يجني على جنسه بالشره والطمع فيما ليس له، وبالتوزيع الظالم للثروة، وباغتصاب حقوق الضعفاء والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة، ويجب الغلبة والتسلط وإهدار الدماء وإهلاك الحرث والنسل في سبيل ذلك، وبتلويث الذرية بالأمراض الخبيثة، وبالنزاع والخلاف لمجرد الحسد والحقد ومطاوعة الغرائز الدنيا التي يجب أن يحد من شرتها ما دام قد ارتضى حياة المدنية والجماعة المتعاونة المتفاوتة في الكفايات وإذا نحن تأملنا عالم الشر والألم وجدنا أكثر من تسعة وتسعين في المائة منه ناشئا من جنايات الإنسان، والباقي مرده إلى الأسباب الطبيعية وصدق قول القرآن: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا) وصدقت الخنساء: إن الجديدين في طول اختلافهما ...
لا يفسدان ولكن يفسد الناس فليس من الإنصاف إذاً في الحكم على الحياة أن نخلط بين الأسباب الصناعية والأسباب الطبيعية للآلام فندخل جنايات الإنسان في نطاق الطبيعة، ونجعل فساده سبباً في إرسال خواطر الشؤم والسخط على الحياة وواهبها.
وإنما الإنصاف أن نعمد إلى النفس البشرية فنجعلها في انسجام وتوافق مع قوانين الطبيعة فلا نضيف للطبيعة شراً ليس فيها.
ونحن قد حملنا الأقدار العليا أكثر مما تحتمل، فنسبنا إليها ما نقترفه نحن من جرائم، وزعمنا إنها راضية عن حياة الاجتماع الحالية، ووقفنا منها موقف اللائمين.
ولو فهمنا الأقدار التي استأثرت بها اليد والأقدار التي خولت الإنسان التصرف فيها، وفهمنا القدرة العجيبة التي للفكر البشري والجهد البشري على تغيير الأوضاع في الأرض، وتأملنا تغير الإنسان وثبات الطبيعة في دوراتها الأبدية الكبرى، وطواعية كل شيء للإنسان بسلطان العلم والتنظيم، وأخذنا عقائدنا في الحياة وفي النفس مما تسمح الطبيعة لنا بالتصرف فيه، وأدركنا الخطوات السريعة التي خطاها الإنسان في سبيل الانطلاق والسيطرة والتحرر من القيود والقدرة على طرح كثير من القيود على مرافق الطبيعة لتسخيرها، إذاً لكان لنا من ذلك كله رأي جديد في أنفسنا وفي الحياة وفي سلطاننا عليها، ولحملنا ذلك على تلمس النقص والفساد في نفوسنا لإكماله وإصلاحه لا في الطبيعة البريئة من كثير مما تنسبه إليها. ولكننا مع الأسف الشديد لا نزال نأخذ عقائدنا في الحياة وفي الإنسان من منطق العجزة الأولين الذين كانت الأرض مغلقة الأبواب في وجوههم، وكانت الحياة جديدة عليهم، وكانوا وسط ألغازها ومشقاتها كأطفال في صحراء، وكانت أكثر علومهم نظرية تجريدية تتخيل، وتفرض وقليلاً ما تجرب وتعمل، وكانت آراؤهم مبنية على ما يأخذونه من الأقوال المأثورة التي هي خواطر ابتدائية لفهم الحياة، وكانت الأرض نفسها مبهمة مجهولة لديهم، والأهوية والأمواه والنباتات والأمراض والنجوم ومواقع البلاد وأجناس العباد والنباتات والحيوان مجهولة العناصر والمناشئ.
أما الآن فالناس جميعاً يقرءون أو تقرأ ناشئتهم المثقفة على الأقل كتاباً واحداً هو الطبيعة ذات العلوم (الموضوعية) التي لا تتبدل بتبدل الأمكنة والأزمنة والأجناس فجدير بهم ان يأخذوا عقائد جديدة من الحياة الجديدة.
ولاشك إنها ستكون واحدة لوحدة المصدر الذي يأخذونها منه؛ ثم يرتدوا بعد ذلك للعقائد المسطورة في الصحف الموروثة، فما وجدوا فيه مصداقاً لما أخذوه من الطبيعة أبقوه، وما وجدوا فيه خلافاً عليها طرحوه وراءهم ظهرياً، وحاذروا أن يلقنوه الناشئين فيزيفوا عقائدهم. أجل، في عالم الكلام المسجل كثير من القضايا التي لا وجود لها في الطبيعة.
وكل ما في الطبيعة حق يجب الاعتراف به حتى الشر! فهو مخلوق بالحق وللخير: يخدمه ويشير إليه ولو علم المتكلمون ووارثو الكلام انهم كثيراً ما يقولون ما لي له وجود، وأنهم يخلقون عوالم من الأفكار والآراء لا تمكن الحياة فيها، وأن الأحلام والأماني الكواذب وضباب الأفكار كثيراً ما تسبق إلى ألسنتهم وأقلامهم، إذاً لحرصوا غاية الحرص - إن كانوا أمناء على الحياة - على أن يكون كلامهم وفنهم مرآة للحق الذي في الطبيعة وحده! إن الطبيعة ثابتة كما نعلم، ولكن النفس فيها طبيعة التغير والتطبع والمرونة تحت تأثير الأفكار، والأفكار أمهات الأعمال وضلال أكثر النفوس ناشئ من أنها لو توضع في المواضع التي تتسلط عليها فيها عوامل الطبيعة المباشرة ليكون عقلها صورة من التجارب التي فيها، بل وضعت تحت تأثير تلك الأقوال المغلوطة عن الحياة والقدر والعجز الإنساني والأحلام الكواذب فهي تنظر للحياة بما في نفوسها من آثار ذلك وتحكم عليها به ولو ذهبت أتقصى الضلالات المسطورة في الكتب والموروثة في العقول سواء في الفضائل أم في الرذائل، إذاً لأخرجت عددا من الفضائل ووضعته في الرذائل وعكس ذلك وكم أود لو أظفرنا باستخلاص الأخلاق الإنسانية الثابتة من الطبيعة وحدها حتى نضع من ذلك قانون الأخلاق للجميع! وإن الأخلاق تفاعلات بين النفس والطبيعة وبين النفوس والنفوس، وليست منزلة من السماء، وإنما الذي ينزل من السماء هو الإرشاد إليها حين يضل الإنسان طريقها. إن العلم الطبيعي هو أعظم أبواق الحياة في دعوة الناس إلى اللقاء والسير في طريق التعارف والتكافل.
والشقاء الحالي الذي تصلي الإنسانية نيرانه ناشئ من إنها لم تستجب لدعوة العلم والخضوع لما يوحيه من وحدة المصلحة والمنفعة والطريق.
وفي اليوم الذي تتسع فيه أخلاق الفرد لبني أمته وأخلاق الأمم بعضها لبعض، ويؤمنون بضرورة ضبط النفوس وتوزيع الموارد الاقتصادية - وهي كثيرة كافية في الطبيعة - توزيعاً عادلاً، والتعاون على مكافحة الشر والألم: الشر الذي مبعثه الغضبية والأنانية الفردية والقومية، والألم الذي مبعثه أذى الطبيعة وآفاتها؛ فلا شك يسعدون في جنة موقوتة يجدونها في الأرض قبل الجنة الموعودة في السماء! قد يبدو هذا الكلام لكثير من الذين لا يدمنون التفكير في الطبيعة والنفس والقضايا العليا للوجود، المغمورين بالمنازعات والشهوات، غير المعنيين بالسؤال عن وضع الإنسان في الحياة، الخاضعين لسلطان الأنانية الفردية والقومية، الجاهلين خطوات سير الإنسان منذ وجوده ساذجاً إلى صيرورته عالماً معقداً، الذين لا يسألون عن ماضي الإنسانية ولا يتساءلون عن مستقبلها، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كأنهم أوراق أشجار تجف وتذروها الرياح، أو تحرق في المواقد، أو تطرح في المزابل والعفونات، أو كأنهم ذئاب عاتية خلقت للشر والفتك، أو خرفان بلهاء خلقت للذبح والافتراس، أو ذباب قذر يطير ويحط على الأقذار.

الذين لم يأخذوا من الطبيعة أسرارها أو يعملوا فيها عملا عظيماً، أو يصافحوا يد الله على بساطها ويأخذوا منها بعض أفانين صنعها.

الذين يولدون عمياً، ويعيشون عمياً، ويموتون عمياً.

قد يبدو هذا الكلام لدى هؤلاء بعيداً أو مستحيلاً.
ولكن الذين تركوا حماقات الأنفس وضلالات الجهل وتجردوا للحق، واتسعت نفوسهم باتساع الطبيعة، ونظروا لقضايا الوجود نظرة الاهتمام، وعرفوا أن وسائل تحقيق هذه الآمال حاضرة.

يرون كل أولئك حقا لاشك فيه! عبد المنعم خلاف -

شارك الخبر

المرئيات-١