أرشيف المقالات

حاجة المدنية إلى دين

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للدكتور محمد البهي للجماعة الإنسانية مهمة، ولها هدف أخير: مهمتها تنظيم رغبات الأفراد، والعمل على تطبيق دائرة التصادم - إن لم يكن منعه - بين هذه الرغبات، بعضها ضد بعض؛ وغايتها من وراء ذلك حياة الوئام والوفاق، أو حياة (السلام) أو سيادة (الخير) على نوازع الشر هذا هو الشأن في كل جماعة إنسانية، حتى في الفطرية منها.
فزعيم الجماعة البُدائية يدعي - حتى في اللحظة التي تغالب أنانيته على تصرفاته - أنه يعمل للخير والسلام، وأنه يسعى للتوفيق بين أفراد رعيته في رغباتهم ومآربهم وقانون الجماعة المهذبة يضع - ما أمكن - نصب عينيه (صالح) الجماعة أو (العدالة) أو (المساواة)، ويحاول أن يبرز هذا الهدف في كل ناحية من نواحيه محافظة على السلام وحباً في خير الجماعة ولا تتميز الجماعة الفطرية عن الجماعة المهذبة إلا بأن البواعث (الشخصية) أو الأنانية هي التي تتحكم غالباً في تحديد الخير والسلام، وفي توجيه الأفراد نحو الخير والسلام؛ بينما يحتكم قانون الجماعة المهذبة إلى عوامل مجردة - بقدر الإمكان - عن المعاني الشخصية في نظرته إلى (الصالح العام) أو (المساواة) وهذا بعينه هو الفرق بين الطفل والرشيد في الإنسان وخير الجماعة الإنسانية في الواقع هو في الحيولة دون قيام النزاع والخصومة بين أفرادها بسبب اختلافهم رغباتهم.
إذ من شأن اختلاف الرغبات حدوث التصادم بينها عند محاولة تلبيتها وهذه الحيلولة تتم سواء أكانت بالدعوة إلى كبت الرغبات، وإلى الإقناع بالتنازل عنها أو عن كثير منها بدعوى أن ليست لها قيمة ذاتية كما تصوره لنا دعوة (الزهد) في متع هذه الحياة، أم كانت بتوزيع نفس هذه المتع - بناء عن اعتبارها وتقديرها - بين أفراد الجماعة لكل منها نصيب حسب كفايته التي تختلف حسب اختلاف مقاييسها عند الجماعات المتعددة، كما تنصح بذلك (النظرات) الجديدة في الحياة والوسيلة الأولى وهي دعوة الزهد، أو دعوة القصد في متع هذه الحياة كانت طريق العقائ الأولى الشرقية، والمدارس الفلسفية القديمة، وطريق الديانات السماوية كذلك.
فكلها وضع (الخير) غاية للفرد وللجماعة، وكلها تقريباً نصح ونادى بالزهد كعامل رئيس من عوامل الوصول إلى هذه الغاية.
والفرق بينها أن العقائد الأولى كعقائد قدماء المصريين والهنود والفرس تنسج (الخير) كغاية للإنسان في قصة شعرية أو في حكاية فرضية وهي بينها تختلف في مقدار هذا الفرض وقيمته، وفي ذلك العنصر الشعري ومقداره - بينما الفلسفات القديمة أو الديانات السماوية، وأن سلكت طريق الإقناع تميل إلى تحكم المنطق والالتجاء إلى العقل في الدعوة إلى (الخير) والتقرب من مثاله، أو التقرب من الله الذي هو عنوان الخير المطلق.
والفرق بينهما كذلك في قيمة النظر إلى الزهد كوسيلة إلى تلك الغاية، فبعض العقائد الشعبية الأولى كبعض المدارس الفلسفية القديمة وبعض الديانات السماوية يبالغ في تقدير الزهد وفي صلته بسيادة الخير في الجماعة؛ ولذا يتشدد في طلبه من الفرد ويوصي به إلى درجة (الحرمان) أو (الإفناء).
والبعض الآخر من هذه الاتجاهات الثلاثة يعترف بالزهد كوسيلة للوصول إلى الخير - يقره كذلك - ولكنه لا يطلب أن يكون موقف الإنسان من هذه الحياة سلبياً فقط، بل بجانب نصيحته له (بالقصد) في متعها بوجه نشاطه وحيويته إلى عمل إيجابي للغاية نفسها، وهي غاية الخير أما الوسيلة الثانية وهي محاولة تنظيم متع هذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية تجنباً للتصادم بين رغبات الأفراد المختلفة فهي طريق الأخلاق كعلم استقل عن التأثر بالميتافيزيقيا وطريق القانون.
وبعبارة أخرى هي طريق الإنسان الحديث الذي رغب في الاستقلال بنفسه عن الدين وعن الفلسفة الأولى عند تحديده للحياة وتحديد مهمته فيها فالبحث في تحديد (السعادة) أو (الواجب) مهمة علم الأخلاق؛ واعتبار (سعادة) الجماعة أو اعتبار عمل (الواجب لذات الواجب) هو هدف التشريع الحديث والقانون الوضعي، وهو كذلك أيضاً أساسهما.
فالقانون في مواده المختلفة المتعلقة بنواحي الحياة للفرد والجماعة يحاول أن يشعر الفرد ويفهمه أيضاً أنه إذا لم تقتضي له رغبة بأن هذه الرغبة لم تضع عليه في الواقع، إذ (سعادة) الجماعة أو (الواجب)، أو ما صاغه القانون ذاته من (الصالح العام) طلب إحلال أمر آخر محل هذه الرغبة الفردية الخاصة إلى حين؛ وذلك نظير تمتعه - أي الفرد - بالصالح العالم في فرص أخرى وهي كثيرة فالقانون إذا لا يرغَّب عن هذه الحياة، ولا يقلَّل من قيمتها، وقلما يعترف بنهايتها أو بتحولها إلى حياة أخرى ثانية.
ولهذا رأي مهمته في تنظيم رغبات الأفراد، وفي التسوية في تلبيتها لهم بقدر ما يمكن، دون أن يراها مثلاً في إقناعهم بالعدول عنها إلى متع أخرى ألذ وأشهى وأدوم كذلك في حياة أخرى والقانون والأخلاق كعلم من أخص مظاهر المدنية الحديثة.
وهذا معناه أن المدنية الحديثة تتميز بالميل إلى الاستقلال وبمحاولة هذا الاستقلال، أيضاً، عن الدين وعن العقيدة وعن الفلسفة الميتافيزيقية في فهم (غاية) الإنسان وفي تعيين الطريق لتحقيق هذه الغاية وكما كان عنوان الدين، أو من لوازم الدين والعقيدة، الدعوة إلى (الخير)، وكما كان من وسائله إلى تحقيق ذلك النصح بالزهد في هذه الحياة، كان عنوان المدينة الحديثة تحديد (الصالح العام) وتقريره ثم محاولة تحقيقه بتنظيم انتفاع الأفراد بهذه الحياة نظرتان مختلفتان في الحياة، وتوجيهان للإنسان فيها مختلفان كذلك وربما يبدو أن تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية، وهو محاولة القانون، ليس أشق على طبيعة الإنسان كطلب الزهد منها الذي هو نصيحة الدين؛ والعلاقة الصحيحة بين تنظيم الانتفاع وبين الزهد ليست اليسر من جهة ولا العُسر من جهة ثانية، بل هي تحكم إرادة الإنسان في طرف وإغفالها في طرف آخر.
إذ طلب الزهد معناه اعتبار إرادة الإنسان وتحكيمها، بينما تنظم الانتفاع معناه الركون إلى سلطان القانون وتحكمه وحده.
فالزهد وإن بدا أنه مظهر سلبي هو عمل إيجابي إذ هو مظهر الإدارة للفرد وحقاً إذا كانت غاية القانون أو غاية المدينة هي غاية الدين والعقيدة، لأن مآل رعاية الصالح العام، أو رعاية سعادة المجموع، أو تقرير عمل الواجب لذات الواجب هو مآل عمل الخير؛ وحقاً إذا كان في محاولة تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة تحقيق لنتائج الزهد، إذ أن في الرغبة عن متع الحياة أو عن كثير منها تضييق لدائرة النزاع بين الأفراد وهو غاية التنظيم، إلا أن في الدين والعقيدة معنى آخر ليس في القانون وليس في علم الأخلاق، هذا المعنى الآخر هو أن موحي الدين له نهاية الحكمة وكمال المعرفة في نفس الإنسان المتدين أو المعتقد طبقاً لمبدأ التأليه؛ وهذه صفة للمعبود تدع في نفس الإنسان المتدين عدم المناقشة فيما أوحى به الدين كما تدع فيها أيضاً الرضا بما جاء به الدين. فطاعته للدين إذا طاعة نفسية، ومحاولة الشذوذ عن أوامر ونواهيه أمر غير قريب إلى نفسه.
ولكن واضع القانون، في نظر الخاضع له، إنسان غير معصوم، وبالأخص غير منزه عن التأثر بالعوامل الشخصية في تقنية لأنه من نوعه الإنساني وليس من جنس آخر أسمي منه.
فالقانون له احترام من نفس الفرد الخاضع له وما دام لم يتعارض مع رغباته الخاصة.
فإذا تعارض قل الأكثرات به في نفسه لأن الانحراف - هكذا ينظر الفرد - عن الصواب قد يكون في القانون نفسه دون أن يكون في رغبات الفرد.
فموقف الفرد إذا من القانون موقف الناقد؛ وأساس النقد عنده رغباته الخاصة في الأغلب؛ وطاعته للقانون في كثير من الأحايين ليست لذات القانون بل للخشية من منفذه والقائم بأمره.
وإذا قل عنصر الرضا النفسي في الطاعة كانت محاولة المخالفة للقانون موجودة في النفس وقوعها مرهون فحسب بضعف الرقابة أو بزوالها فمحاولة المدينة بقانونها وبأخلاقها الاستغناء عن الدين وعن العقيدة محاولة قاصرة، نجاحها لا يتعدى نطاقاً ضيقاً وهو نطاق الخاصة، وهي في حاجة في الواقع إلى الدين وإلى أن يسود المتدين جماعتها.
ومهما استعانت بالعلم الذي هو مظهر آخر من مظاهرها، فليس في العالم وحده ما تحتاجه من العون؛ إذ الإنسان كما هو مودع في فطرته الميل إلى العلم وإلى الكشف، مودع في فطرته كذلك الاطمئنان والركون إلى (السر الخفي)، وتأليهه أو تعظيمه للغير ظاهرة من ظواهر هذا الاطمئنان والركون.
والله في نظر الإنسان رمز كل سر وكل خفاء، فلا يدرك كنهه ولا يوقف على حقيقته.
ولهذا كان له أرفع درجة من تعظيمه واحترامه.
وما ينسب إليه عظيم ومحترم كذلك؛ فقوله قل أن يخالف، ووصيته ندر ألا تنفذ، لأن المخالفة وعدم التنفيذ معناه الشك في هذا التعظيم الذي صار الآن أمراً مقرراً وإذا كنا ندعو المدينة بوجه عام إلى دين وإلى تدين فلسنا متحيزين إذا دعونا إلى الإسلام بوجه خاص؛ لأن الإسلام في تقرير الزهد كوسيلة للوصول إلى الخير لم يبالغ في طلبه ولم يعتمد عليه وحده، بل جعل بجانبه تنظيم الانتفاع بهذه الحياة - بعد أن أباح التمتع بها - وعمل على تنظيم علائق الأفراد في دائرة هذا التمتع وليس القانون، وليس علم الأخلاق؛ وبعبارة أخرى ليست المدينة هي التي كشفت عن (رعاية الصالح العام)، بل من قبلُ وضعها الإسلام في تنظيمه (للمعاملات) ففي الغاية جمع الإسلام كدين وكتشريع بين (الخير) وبين (رعاية الصالح العام)، وفي الوسائل نصح بالزهد إلى حد ما وعمل على تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بعد أن أجاز الانتفاع بها وهو بهذا يعتبر إرادة الإنسان كما لا يهمل رقابة القانون محمد البهي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣