أرشيف المقالات

عود إلى الفكر و (السلطة)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ عباس محمود العقاد راجعني الأديب أليس إبراهيم بدوي فيما كتبت بالرسالة منذ أسابيع عن (الفكر والسلطة)، وكتب إليّ يقول: (اسمح لي بأن أضيف إلى الأسباب الأربعة التي ذكرتها في إيضاح الدافع إلى طلب السلطة سبباً خامساً، وإن لم يكن بسبب، فهناك أناس يطلبون السلطة كحق من حقوقهم الموروثة أو تقليد من تقاليد الأسرة التي لا يليق بهم التخلي عنها.
ولعل هذا السبب أبرز الأسباب نتائج من حيث طلب السلطة، ليس في هذا البلد وحده، بل في جميع البلدان بوجه عام) وأتبع ما تقدم بقوله: (وكان لابد أن ينشأ عن هذا السبب سبب سادس معاكس له: سبب يدفع بالرجل الموهوب ذي الشخصية العارمة والإرادة المدربة إلى النظر إلى مثل أولئك الأفراد المتهافتين على السلطة نظرة متعالية، نظرة من يعتقد مخلصاً أنه أحق منهم إذ كانت الغاية من الحصول على السلطة استخدامها في بناء مجد للوطن.
وإن مثل هذا الرجل ليعتبر في رأيي خائناً لرسالة ممتازة خلق لها إذا لم يعمل على نيل الأداة التي يمكنه بها إبراز مواهبه وممكناته وقدرته على الخلق والإبداع.
وما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته) ثم يقول الأديب: (أما صاحبنا (ديزرائيلي)، فلم أذكر اسمه نموذجاً، بل ذكرته عرضاً كرجل كانت له نفسية الأديب ودقة إحساسه بالحياة، وفق إلى كسف عناصر القوة في نفسه فسخرها في سبيل بلوغ المنصب الأعلى للحكم.

وربما كان في التاريخ الأمريكي والبريطاني والفرنسي كثير ممن يصح أن يتخذوا أمثالاً.
وربما كان عندنا هنا من يصح أن يذكر في معرض التمثيل.
غير أن عدم وجود أمثال لا يمنع من خلق أمثال وابتداع خطط جديدة في الحياة والعمل) ثم يقول في ختام خطابه: (فإذا كنت تعتقد أنه لا يمكن الجمع بين الأدب والإدارة فهذا رأيك وأنت حر فيما ترى.
ولئن كنت أشك في صحة هذا الاعتقاد فما يعزز شكي ما قرأته لك في رجعة أبي العلاء في معرض كلامك عما كان يساور أبا العلاء من طموح إلى السلطان لولا ظروفه الجسمية الخاصة التي حالت بين عقله الكبير وما أراد.
وهو القائل: ولم أعرض عن اللذات إلا ...
لأن خيارها عني خنسته) ويلوح من خطاب الأديب أن صاحبه ممن يحبون الاستدراك لمحض الاستدراك، وهو طبع في غير قليل من الناس. فنحن نقول إن أسباب طلب السلطة هي فطرة الرياسة، أو حب الامتياز، أو اتقاء شرور المسيطرين، أو الرغبة في تسخير الأداء الحكومية للإصلاح، فيأتي صاحب الخطاب بسبب خامس هو ميراث السلطة عن الآباء والحرص على بقائها في الأسرة! كأنما هذا السبب لا ينتهي إلى واحد من الأسباب الأربعة التي قدمناها! أو كأننا حين نقول إن الناس يرثون البيوت ننفي أن البيوت تبنى للسكنى، أو كأننا حين نعلم أن الناس يصنعون الطعام ليبيعوه ننفي أن نهاية الطعام هي الغذاء سواء صنع في الأسواق أو صنع في الدور. فالناس لا يحبون أن يرثوا السلطة إلا لأنها تكفل لهم غرضاً من الأغراض التي قدمناها.
وإلا فما بالهم لا يحرصون على وراثة المسكنة من آبائهم المساكين؟ وما بالهم لا يحتفظون في الأسرة بالديون والمغارم والوصمات؟ إنما يحرصون على بقاء السلطة في ميراثهم لأنها مطلب محبوب، وإنما هي مطلب محبوب للأسباب التي قدمناها لا لأنها تركة موروثة عن الآباء. أما أن المفكر النابغ مفروض عليه طلب السلطان، فهذا خلاف للواقع، وخلاف للقياس المطرد في (تطور) الملكات. ففي الواقع لم يوجد قط مفكر موهوب وعبقري مثمر في عالم الفنون تخلى عن الفكر والفن ليطمح إلى الحكم وإدارة الدواوين. وقبل أن يوجه إلينا الأديب خطابه الأول كنا نكتب (هتلر في الميزان) فقلنا من فصل عن كفاءته الذهنية: (إن الحقيقة الراسخة من وراء كل جدل وكل مراء هي أن الفنان الموهوب لن يترك فنه ليعقد مصيره بالسياسة وغيرها من المطالب كائناً ما كان نصيبه منها، لأن الهبة الفنية كالوظيفة العضوية التي لا تقبل الإهمال، ولا تزال في إلحاحها على صاحبها كالهيام القلبي في إلحاحه على العاشق الممتلئ بالحياة، فلا هو يغفل عنها ولا هي تمهله إلى زمن طويل. (وهذه الحقيقة وحدها بنجوة عن جميع الأقاويل وجميع الأسانيد.
هي الحكم الحاسم في كفاءة هتلر الفنية، أو فيما يدعيه من مواهب التصوير والبناء.
فهي لن تعدو الطبقة الوسطى بحال، ولن تتجاوز نصاب التذوق الشائع بين مصطنعي النقد والموازنة في الفنون) فهذا رأى قديم لنا نبنيه على الواقع كما نبنيه على المعقول، لأن التاريخ لم يذكر لنا قط اسماً واحداً من أسماء العباقرة الفنيين طلق الفن ليحكم الناس ويطلب السلطة.
وليس بمعقول أن تمتعه السلطة كما يمتعه الخلق في عالمه الفني الذي يصرفه تكوينه إليه. وهذا الرأي مطابق لسنة التطور التي تنتقل من الجمع إلى التوزيع، من حصر الملكات إلى انتشارها في عقول كثيرة. فاتفق في زمن من أزمان الهمجية أن حاكم القبيلة كان حكيمها وساحرها وكاهنها وطبيبها وحافظ تاريخها.
فهو فيها جامع لوظيفة السياسة ووظيفة الدين ووظيفة العلم ووظيفة الفن والثقافة، ثم انقضى هذا العهد وتوزعت الملكات وأصبحت كل وظيفة من هذه الوظائف شعباً لا تحصى ومقدرة يستعصي الجمع بينها وبين غيرها، ولا يؤدي هذا الجمع إلى مصلحة للنابغ ولا للمنتفعين بنبوغه. وبعد هذه الدهور المتطاولة يأتي من يزعم أن إعراض المفكرين وعباقرة الفن عن طلب الحكم خيانة لأمانة النبوغ إذا كانوا يستخدمون السلطة في بناء مجد الوطن.

ويسأل: ما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته؟ فما قيمة الحياة نفسها بغير متعة فكرية أو ذوقية؟ وما قيمة مجد الوطن إذا خلا من المفكرين والعباقرة الذين يعيشون ويموتون للفكر، ويعيشون ويموتون لمتاع الأذهان والأذواق؟ أكل مجد الوطن إذن في رفع الأيدي بالسلام، ودق الأرض بالأقدام، وخطوة إلى الوراء وخطوة إلى الأمام، وتفرج على السلطة ومواكب السلطة أيام الزحام؟ أهذا هو مجد الوطن الذي يخونه أمناء الفكر والذوق لأنهم لا يتطلعون إلى السلطة ولا يتحولون جميعاً إليها كلما وفر عندهم نصيب الفكر والذوق؟ أن كان الأديب يخال أن المفكر الصادق التفكير لن يشعر بالامتياز إلا وهو متسلط في الحكومة، ولن يقعد عن طلب التسلط في الحكومة إلا لأنه عاجز عنه، فهو بعيد كل البعد عن دخائل العظمة الفكرية التي هي عظمة لا شك فيها وإن لم يكن لها في الحكم سلطان. لكن العجب في هذا أن الزهو بالعقول شائع بين جمهرة الناس، فكيف يفوت الأديب صاحب الخطاب أن يفطن إلى زهو العقول العالية التي تشعر بما لها من الرجحان؟ يقولون في أمثالنا الدارجة أن الخلق غضبوا عند قسمة الأرزاق فأرضاهم القدر بقسمة العقول، فما منهم إلا راض عن عقله وإن سخف وإن ضاق. وتعليل ذلك قريب، فإن الأرزاق تنتقل من مالك إلى مالك، فللطمع فيها معنى مفهوم؛ أما العقول فلا تنتقل من أصحابها إلى غير أصحابها، فليس للطمع فيها معنى غير الإقرار بالقصور، والحرمان من لذة الغرور. ومغزى المثل كما يقولون أن رضى الإنسان بعقله سهل مألوف في جميع الطبائع البشرية، فكيف بالعقل الذي يعلم ما عنده وما عند غيره علماً ليس بالدعوى ولا بالغرور؟ أليس خليقاً بامتيازه المرضى عنه أن يغنيه عن طلب الامتياز من طريق ولاية الأحكام؟ قلنا في كتابنا رجعة أبى العلاء: (إن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها.
فلما الملك وأما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين.
فلا يحسبن أحد أن فكرة الملك عارضة في ذهنه كما يعرض في الخاطر في خلد للشاعر، فإن للمجد الدنيوي لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان.
فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور) وقد ظن الأديب صاحب الخطاب أن ما قررناه هناك شذوذ مما نقرره في كلامنا عن الفكر والسلطة، وما به في الحقيقة من شذوذ؛ فالحنين إلى السيطرة في نفس أبى العلاء إنما هو تعبير عن جانب الحرمان من تلك النفس وليس بالتعبير عن جانب الامتياز والرجحان. وليس الوجه كما فهم الأديب أن أبا العلاء كان يزداد طلباً للسلطان لو أبصر وملك القوة الجسدية، ولكن الوجه أنه كان يقلع عن هذا الطلب لو زال عنه شعور الحرمان الذي داخله من كبريائه مع فقد بصره ووهن جسده.
فيغلب عليه جانب الثقة والامتياز. وأي عجب في تداخل النزعات واشتباكها في جميع النفوس الآدمية؟ ألا يوجد بين ذوي السلطان من يحب أن يشتهر بالكتابة فينتحل ما يكتبه له الكاتبون وليس هو بأديب؟ أفمن أجل ذلك نقول إن الملكة الأدبية لاصقة بكل حاكم وكل أمير وكل طامع في الشهرة بالمنثور والمنظوم؟ ومن الخطأ أن نزعم أن أبا العلاء قد عكف على التفكير لأنه لم يظفر بالملك والإمارة؛ فإن التفكير ليس بالمنحة (الاحتياطية) التي تجود بها الطبيعة على من فاتته المنح الأُخرى، ولكنها منحة أصيلة من رزقها فكر ومن لم يرزقها لم يفكر وإن أراد.
وغاية ما هنالك أن المفكر المتكبر المحروم يمثل حرمانه في آماله ودخائل وجدانه شوقاً إلى الغلبة والبأس والولاية، وهو شوق لا يعد من الملكات ولا من النزعات التي يقاس عليها في غير هذه الحال. وجملة الرأي أن حاجة الحاكم إلى الفكر كحاجة كل عامل اليه، فلا يلزم من ذلك أن يشتغل المفكرون بجميع الأعمال لأن جميع الأعمال تحتاج إلى تفكير. على أن الحكم إلزام والفكر إقناع، وإذا بلغ الإقناع مداه ألزم الحاكمين أن يستمعوا له فكان سلطة فوق السلطة في هذا المقام. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢