أرشيف المقالات

بل. . . صفحة بيضاء!

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ حسن جلال كتب الأستاذ الكبير - أحمد أمين - تحت عنوان (صفحة سوداء) مقالا عن مصر كما يراها بعض مؤرخي العرب. فكمع كثيراً مما قاله القوم في المصريين وفي طبيعة بلادهم.
وكيف أن أرض مصر (تولد الجبن والشرور الدنيئة في النفس حتى أن الأسد لم تسكنها - وهي إذا دخلت أرضها ذلت ولم تتناسل! وكلابها أقل جرآة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخرى) أهـ وقد تفضل الأستاذ فرد على هذه التهم ولا سيما التهمة المسندة إلى كلاب مصر فانه أبدع في تفنيدها وأشاد بذكر أرمنت وما يستطيع أن يفعله كلابها بجلد المؤرخ الذي فرط منه ذلك القول ونحن نشكره هنا.
.
بلسان أرمنت وما فيها! ولكن بقيت بعد ذلك تهمتاه نريد أي نقول نحن أيضاً فيهما كلمتين: أما التهمة الأولى فهي الخاصة بأرض مصر وأن الأسد لا تسكنها، وأنها إذا سكنتها ذلت ولم تتناسل فيها لأنها ترث الجبن عن هذه الأرض، وهذا قول عجيب، فكأن التناسل من أعمال الشجاعة في نظر ذلك المؤرخ الذي يحيط علمه الواسع ولا شك بما قال الشاعر من أن (بغاث الطير أكثرها فراخا) والحقيقة الواقعة أن التناسل لا دخل له بالقوة ولا بالضعف ولا بالجبن ولا بالشجاعة.
على أننا نكتفي في هذا الصدد بأن نحيل حضرة المؤرخ المحترم - كما يقول البرلمانيون - الى حدائق الحيوان بالجيزة فهي كفيلة وحدها بالرد على دعواه.
وفي (بيت الأسود) فيها من الاشبال الكثيرة التي نبتت على أرض مصر وتحت سمائها ما يكفي لتنفيذ مزاعمه! والآن بقيت تهمة أرض مصر بأنها تفسد أهل مصر وتجعل ما في مصر أضعف من نظيره في البلدان الاخرى.
وهذا ما نريد أن نقول فيه كلمة قصيرة.
ونحن نطمع في أن يتصدى للادلاء بالقول الفصل في هذا الموضوع رجال هم أقدر منا على ذلك بحكم عملهم ووقتهم واطلاعهم.
على أنا نرى الموضوع لا يكفي فيه رد واحد يطلق في صحيفة واحدة ثم تنطوي الصفحة وينسدل الستار، ونبقى نحن على ما عشنا فيه من الاتهام بالذ والضعف حتى من بعض مؤرخي العرب كأن لم يكفنا ما نلقاه نحن وهم على يد الافرنج من التجني إذ يقولون عنا - ويقصدون بهذه اللفظة المفردة كل ما تنطوي عليه الفاظ الوحشية والهمجية والتأخر من المعاني! ولعل الوقت الحاضر أنسب الاوقات للأكثار من البحث في هذا الموضوع ورد الحق الى نصابه والأشادة بمكانة المصري ومقدرته وما يمكن أن يأتيه من جلائل الأعمال لو تهيأت له الظروف.
فلقد رأينا أخيراً أن هذه الدعوى التي رمانا بها مؤرخو العرب وغيرهم قد بات يحلو ترديدها في قم بعض المصريين أنفسهم عن يقين منهم بصحتها.
وتلك آفة الآفات والنكبة التي ما بعدها نكبة لهذه البلاد، فان الايحاء أفعل من السحر.
وانك لتستطيع أن تستأنس النمر الشرس لو أتيح لك أن تفهمه أنه هر أليف، ثم تمضي تردد على سمعه هذا القول الهراء.
فلينظر الذين يحلو لهم ترديد مثل ذلك القول المنكر إلى أين يهبطون بأنفسهم وبجيلهم يهرفون بما لا يعرفون! لقد قالوا إن الشعب المصري شعب ذليل بحكم سمائه وارضه.
كذبوا، فان سماء مصر وأرضها لا تنبتان الذل وانما تنبتان العزة والقوة والقدرة على الاستذلال.
وإني لأستنكف أن أذكر الفراعنة في هذا الصدد حتى لا يقال احتمى بمجد أمة ماضية، ولاذ بعزة قوم غابرين.
ولكني أكتفي بأن أنظر الى ما عليه مصر الآن.
فان هذه البلاد العجيبة لما ينقض على نهضتها الأخيرة ربع قرن، ومع ذلك برز من بين أبنائها أبطال عالميون في مختلف ميادين الحياة.
لقد ظهر فيها اسماعيل سرى المهندس، وعلى ابراهيم الجراح، وخليل عبد الخالق البيولوجي، ونبتت فيها لطفية النادي الطيارة، ومحمود مصطفى المصارع، وسيد نصير الرباع، ونشأ بين أرضها وسمائها طلعت حرب المالي الكبير.
ولست أذكر رجالا ظهروا في مستهل هذه النهضة ففتحوا الشام وهزموا الوهابين واستعمروا السودان.
فكل أولئك وغيرهم ما كادوا يلجون ميادين أعمالهم حتى تخطوا كل قرنائهم في أنحاء العالم.
وحملوهم على التنحي لهم عن الصدر فتبوأوه ورفعوا راية مصر عالية فوق رؤوس الجميع. فما هو مدلول هذه الظاهرة عند كل ذي عينين غير أن الأمة التي أنجبت كل هؤلاء الأبطال في جيل واحد - وفي هذه الظروف القاسية التي تجتازها مصر الآن - لا يمكن أن يكون معدن أهلها كمعدن أهل غيرها من بلاد الله.
وأنها لابد تمتاز على من عداها في حسن فطرتها وقوة ملكاتها وسلامة استعدادها. ولئن كانت قد طغت على هذه البلاد موجات من الضعف والتأخر فهذه هي سنة الطبيعة في كل شيء.
فما من شعب يدعى اضطراد سيره في سبيل التقدم والرقي منذ خلقه الله، وأنه لم يطرأ عليه من عوامل الضعف ما جعله فريسة لغيره من الشعوب (وتلك الايام نداولها بين الناس) ولئن صح ما يقال من أن دولا كثيرة استعمرت مصر، فصحيح أيضاً أن مصر من دون البلاد التي استعمرت كانت هي التي تأكل مستعمريها وتطبعهم بطابعها قبل أن تنطبع هي بطابعهم! لقد حكم الاتراك مصر واشتهرت تركيا بفخامة مساجدها وعظمة قصورها.
وأن هذه المساجد وتلك القصور لتشهد للصانع المصري بأنه هو الذي زينها ووشاها، ورفع سمكها وسواها. ولقد ولى (محمد على الكبير) أمر مصر ولم تك إلا نفخة قوية من صدره الشديد حتى انجاب عن جمرة مصر رمادها الذي خلفه عليها عجز المماليك، فتوهجت هذه الجمرة ونضنض لهيبها ثم اشتعل واندلع لسانه طويلا فلف فلسطين والشام والحجاز والسودان وكاد يحرق استامبول نفسها، وروعيت أوربا من طغيانه نحوها، وأشفقت على سلطانها في الشرق أن تلفحه هذه النار، فاجتمع العالم الغربي كله ليقف في وجه مصر ليكبح جماح المصريين يوم أن أفاقوا من سباتهم وتفتحت أعينهم من جديد على النور! هذا هو الشعب المصري الذي لا يمكن إلا أن يكون عظيما لأن العظمة في دمه ولحمه.
في ماضيه وحاضره.
في أرضه وسمائه! وحق مصر: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا! حسن جلال

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣