أرشيف المقالات

مشروعية الحرب في الإسلام

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 دفع شبهة لا موجب لها للأستاذ محمد فريد وجدي اشتد خصوم الإسلام عليه في إقراره الحرب، ذاهبين إلى أن الدين الذي يشرع لتطهير قلب الإنسان من الميول العدوانية، وتخليص نفسيته من آثار الحيوانية والوحشية، لا يجوز له أن يقر مبدأ التناحر في العالم الإنساني؛ فإن كان ولا بد فدفاعاً عن النفس، أو ذيادا عن الحوزة؛ أما الهجوم على الآمنين في ديارهم للتبسط في الأرض، والتوسع في وسائل الثروة، فإن رآه طلاب الدنيا سائغاً، فلا يصح أن يعده دعاة السمو الخلقي من محاولات الصالحين كثرت هذه الشبهة في رؤوس خصوم الإسلام، ورأوا فيها مثاراً خصباً للتشهير به، ونبزه بالألقاب، حتى تأثر بعض المدافعين عنه، فأخذوا يحاولون أن يثبتوا أن كل ما ورد فيه خاصا بالحرب، فالمراد منه الدفاع لا الهجوم، وغاب عنهم أنهم بعملهم هذا يضرون بقضية الإسلام، ويسجلون عليه الشبهة أصرح تسجيل الحق أن الإسلام أقر الحرب دفاعاً وهجوماً، لأن مهمته التي شرع من أجلها لا تتم إلا على هذا الوجه؛ فليس الإسلام بدين خاص شرع لجماعة من الناس في بيئة محدودة من الأرض كما كانت عليه حال جميع الأديان التي شرعت للأمم قبله، ولكنه شرع ليكون دينا عاما للأمم كافة، فهو بحكم الغاية التي أنزل من أجلها يجب أن يماشي ما فطرت عليه الطبيعة البشرية، في كل ما تدفعها إليه الغرائز النفسية، من الحركات الاجتماعية؛ وقد اندفعت الجماعات في التناحر لا لمجرد توفيه أغراضها المادية، ولكن لحاجتها الأدبية أيضاً، فلولا الحروب التي ثارت بين الجماعات، لتعطل تقدمها في طريق العمران والمدنية كما نبه إليه علم الاجتماع نفسه، ودورة الحياة الإنسانية العامة تجعل الحرب من ضروريات التطور أيضاً، فإن تلاشي الجامدين وعديمي الصلاحية للحياة، وضرورة نبوغ الأصلح فالأصلح للبقاء، لا يمكن أن يتم في بيئات يسودها السكون المطلق.
هذه أمور يدركها أولو العلم إدراكهم للبدهيات، وهذا لا يمنع أن يجيء عهد تصبح فيه الحرب شراً مستطيراً بسبب زوال الموجبات الطبيعية لها، ونشوء عوامل أدبية تقوم مقامها في تطوير الجماعات دون أن تضطرها إليه بواسطة الحركات العنيفة؛ يجوز أن يكون قد أظلنا الآن ذلك الزمان، فيقرر البشر بعد هذه الحرب المستمرة حذف هذه الوسيلة الجائحة، فينعم الناس بسلام يناسب ما وصلوا إليه من علم ومدنية، وقد أشار الإسلام إلى إمكان حدوث هذا العهد، فجاء في كتابه: (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله) ولكن إلى العهد الذي شرع فيه الإسلام وما بعده إلى أكثر من أثني عشر قرناً، لم تكن فكرة السلام العالمي قد نشأت، وقد رأينا الأديان التي جاءت ناهية عن الحرب كالبوذية والنصرانية قد اضطرت إليها، وتوسلت بها، وهذه الديانة الأخيرة لم تستطع أن تستقر كدين إلا بواسطة حروب شنتها، حتى اضطرت البابوية إلى اتخاذ الجيوش البرية والبحرية، وإلى الاشتراك في الحروب دفاعاً وهجوماً على حد سوا فكيف يراد من الإسلام وقد شرع دينا عالمياً، أن يتجرد منها، وهو مضطر بحكم مهمته أن يسيطر على الغرائز الجبلية، ويهيمن على الميول النفسية، محاولاً التأثير فيها بالتعديل والتقويم، دون أن يعرقل ناموس التطور الذي يعمل إلى إيصالها لغاياتها البعيدة من السمو الذي قدر لها أن تبلغه بجهودها الذاتية إن الصفة المميزة للإسلام أنه دين يماشي الطبيعة ويعدلها، ولا يلاشي عاطفة منها؛ ولو كان غير ذلك لما صلح أن يكون ديناً عاماً للبشرية بأسرها، ولا يكون محترم الأصول، مراعي التعاليم، لا عذر للمتخلف عنه، أو للخارج عليه أفكنت تريد أن ينشأ الإسلام ناهياً عن الحرب فلا يتم له قيام أصلاً، بدليل لجوء جميع الأديان إلى الحرب بعد أن أعيتها الحيل في القيام بدونها؟ أم كنت تريد أن يحرمها على أتباعه، ثم متى اضطرتهم الحياة لجئوا إليها، غير آبهين لنهيه عنها، كما حدث ذلك لأهل الأديان التي كانت قبله؟ لا هذا ولا ذاك، فالإسلام دين صراحة ومنطق، يعطي كل حالة من حالات الإنسان حقها من التقدير والرعاية، ويبني حكمه فيها على مصلحتي المادة والروح معاً فالحرب إن كانت شراً فهي من الشرور الضرورية ولو في أوائل الأدوار البشرية، وإغفالها أو تركها بلا ضوابط قد يفضي بالآخذين به إلى الإفراط أو التفريط فيها، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، فجعلها الإسلام لهذا السبب من أهم ما عني به، وختم كل آية نزلت في الحرب بوصاة مؤكدة بوجوب العدل فيها وعدم توخي العدوان بوساطتها، إلى حد لم يسبق له مثيل في كل ما أثر عن تعاليم الأمم قديماً وحديثاً لم يكتف الإسلام بكل هذا فوضع للسلم والحرب أصولاً بدأها بوجوب احترام العهود، وبوجوب تتبع الحوادث الاجتماعية، مع إحاطة كل منها بما يحميها من التطرف والظلم، حتى إذا أفضت الأمور إلى تحكيم السيف أحاط حكومته بالملطفات من كل ضرب، عاملاً على ألا تراق قطرة دم ولم يكن لإراقتها موجب يوجبها، حتى أمر بعدم تعقب المهزومين، وباحترام حياة خدمة المحاربين، وحياة الهرمي والنساء والأولاد ورجال الدين في تاريخ الإسلام من هذه الناحية طرائف لا يروى مثلها عن جماعة من الجماعات الإنسانية إلى اليوم، منها أن أسامة بن زيد تعقب مهزوما حتى صعد وراءه الجبل؛ فلما رأى الرجل السيف يهوي عليه نطق الشهادتين، فلم يكترث أسامة له وقتله، فلما بلغ ذلك النبي ﷺ استحضره وعنفه على فعله، فقال أسامة: يا رسول الله إنه نطق بها تقية لينجو بنفسه.
فقال النبي منكراً عليه: أشققت عن قلبه؟ لا أظن أن بعد هذا غاية في التنبيه على وجوب احترام الحياة البشرية محمد فريد وجدي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢