أرشيف المقالات

في الاجتماع اللغوي.

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 تطور الدلالة أنواع التطور الدلالي وخواصه. للدكتور علي عبد الواحد وافي. مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ترجع ظواهر التطور الدلالي إلى ثلاثة أنواع: (أحدها) تطور يلحق القواعد المتصلة بوظائف الكلمات وتركيب الجمل وتكوين العبارة.

وما إلى ذلك، كقواعد الاشتقاق والصرف (والمورفولوجيا) والتنظيم (السنتكس).

وهلم جرا.
وذلك كما حدث في اللغات العامية المتشعبة من اللغة العربية إذ تجردت من علامات الإعراب وتغيرت فيها قواعد الاشتقاق واختلفت مناهج تركيب العبارات. (وثانيها) تطور يلحق الأساليب، كما حدث للغات المحادثة العامية المتشعبة عن العربية إذا اختلفت أساليبها اختلافاً كبيراً عن الأساليب العربية الأولى، وكما حدث للغة الكتابة في عصرنا الحاضر إذا تميزت أساليبها كذلك عن أساليب الكتابة القديمة تحت تأثير الترجمة، والاحتكاك بالآداب الأجنبية، ورقي التفكير، وزيادة الحاجة إلى الدقة في التعبير عن حقائق العلوم والفلسفة والاجتماع.

وهلم جرا. (وثالثها) تطور يلحق معنى الكلمة نفسه، كأن يخصص معناها العام فلا تطلق إلا على بعض ما كانت تطلق عليه من قبل، أو يعمم مدلولها الخاص فتطلق على معنى يشمل معناها الأصلي ومعاني أخرى تشترك معه في بعض الصفات، أو تخرج عن معناها القديم فتطلق على معنى آخر تربطه به علاقة ما وتصبح حقيقة في هذا المعنى الجديد بعد أن كانت مجازاً فيه، أو تستعمل في معنى غريب كل الغرابة عن معناها الأول.

وهلم جرا. هذا وللتطور الدلالي بمختلف أنواعه خواص كثيرة من أهمها ما يلي: 1 - أنه يسير ببطء وتدرج.
فتغير مدلول الكلمة مثلاً لا يتم بشكل فجائي سريع، بل يستغرق وقتاً طويلاً، ويحدث عادة في صورة تدريجية، فينتقل إلى معنى آخر قريب منه، وهذا إلى معنى ثالث متصل به.

وهكذا دواليك حتى تصل الكلمة أحياناً إلى معنى بعيد كل البعد عن معناها الأول.
فكلمة مثلاً كانت تطلق في المبدأ على صنف خاص من الأقمشة الصوفية ثم أطلقت على غطاء مائدة المكتب لاتخاذه غالباً من هذا الصنف، ثم أطلقت على مائدة المكتب نفسها، ثم أطلقت على مقرّ العمل والإدارة لملازمة المكتب له.
فلا علاقة مطلقاً بين أول مدلول لهذه الكلمة وهو القماش الصوفي وآخر مدلول لها وهو مقر العمل والإدارة، على حين أن العلاقة وثيقة بين كل معنى من المعاني التي اجتازتها والمعنى السابق له مباشرة 2 - أنه يحدث من تلقاء نفسه بطريق آليّ لا دخل فيه للإرادة الإنسانية.
فسقوط علامات الإعراب في اللهجات العربية الحاضرة، وتغير أوزان الأفعال، وتأنيث بعض الكلمات المذكرة، وتذكير بعض الكلمات المؤنثة، وجمع صفة المثنى، وتأخير الإشارة إلى المشار إليه، وتزحزح كثير من المفردات عن مدلولاتها الأولى إلى حقائق جديدة.

كل ذلك وما إليه قد حدث من تلقاء نفسه في صورة آلية لا دخل فيها للتواضع أو إرادة المتكلمين 3 - أنه جبريّ الظواهر لأنه يخضع في سيره لقوانين صارمة لا يد لأحد على وقفها أو تعويقها أو تغيير ما تؤدي إليه.
وإليك مثلاً حالة اللغة العربية، فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وتحريف، ومع أن هذه الجهود كانت تعتمد على دعامة من الدين، فإن ذلك كله لم يحل دون تطورها في القواعد والأساليب ودلالة المفردات إلى الصورة التي تتفق مع قوانين التطور اللغوي فأصبحت على الحالة التي هي عليها الآن في اللهجات العامية 4 - أن الحالة التي تنتقل إليها الدلالة ترتبط غالباً بالحالة التي انتقلت منها بإحدى العلاقتين اللتين يعتمد عليهما تداعي المعاني ونعني بهما علاقة المجاورة والمشابهة.
فتارة يعتمد انتقال الدلالة على علاقة المجاورة المكانية، كتحول معنى ظعينة (معناها في الأصل المرأة في الهودج) إلى معنى الهودج ومعنى البعير؛ وتحول معنى ذقن في عامية المصريين إلى معنى اللحية، وتحول معنى من غطاء المكتب إلى المكتب نفسه، وكتأنيث الرأس في عامية بعض المناطق المصرية (انتقل إليه التأنيث من الأعضاء المجاورة له وهي العين والأذن).

وهلم جرا.
وتارة يعتمد على علاقة المجاورة الزمنية، كتحول معنى الوغى إلى معنى الحرب، بعد أن كان معناها اختلاط الأصوات في الحرب (فلا يخفي أن العلاقة بين هذه الأصوات والحرب هي علاقة المجاورة الزمنية)؛ وكتحول معنى العقيقة (هي في الأصل الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه) إلى معنى الذبيحة التي تنحر عند حلق ذلك الشعر.
وكتذكير كلمة (فصل الصيف) التي كانت مؤنثة في الأصل لمجاورة مدلولها مجاورة زمنية لمدلول كلمة مذكرة وهي فصل الربيع.
وتارة يعتمد على علاقة المشابهة، كتحول معنى الأفن (وهو في الأصل قلة لبن الناقة) إلى معنى قلة العقل والسفه، وتحول معنى المجد (وهو في الأصل امتلاء بطن الدابة من العلف) إلى معنى الامتلاء بالكرم.

وهلم جرا 5 - إن التطور الدلالي في غالب أحواله مقيد بالزمان والمكان.
فمعظم ظواهره تقتصر أثرها على بيئة معينة وعصر خاص.
ولا نكاد نعثر على تطور دلالي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة ووقت واحد 6 - أنه إذا حدث في بيئة ما ظهر أثره عند جميع الأفراد الذين شملتهم هذه البيئة.
فسقوط علامات الإعراب في لغة المحادثة المصرية لم يفلت من أثره أي فرد من المصريين ومن هذه الخواص يتبين فساد كثير من النظريات القديمة بصدد هذا التطور فليس بصحيح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذا التطور نتيجة لأعمال فردية اختيارية يقوم بها بعض الأفراد وتنتشر عن طريق المحاكاة وليس بصحيح كذلك ما ذهب إليه أعضاء المدرسة الإنجليزية وبعض الباحثين من الفرنسيين كالعلامة بريال إذ يرون أن التطور الدلالي يسير باللغة نحو التهذيب والكمال ويسد ما بها من نقص ويخلصها مما لا تدعو إليه الحاجة.
وذلك أن اتجاهات كهذه لا يمكن أن تتحقق إلا في تطور اختياري مقصود تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح.
أما وقد ثبت أن التطور الذي نحن بصدده تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالسبل التي تقول بها هذه النظرية.
وإن موازنة بين الحالة التي كانت عليها اللغة العربية فيما يتعلق بدلالة ألفاظها وقواعدها في الإعراب وغيره وما آلت إليه في اللغات العامية الحاضرة لأكبر دليل على ما نقول؛ فمن الواضح لان هذا التطور لم يتجه دائماً نحو التهذيب والكمال، بل أدى في معظم مظاهره إلى اللبس في دلالة الكلمات والخلط بين وظائفها وأنواعها وجرد اللغة مما بها من دقة وسمو، وهوى بها إلى منزلة وضيعة في التعبير.
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد مثله في كثير من اللغات.
وإليك مثلاً قواعد اللغة اللاتينية التي انقرضت في اللغات المتشعبة عنها، فإن معظم هذه القواعد كان كبير الفائدة في بيان وظيفة الكلمات وتحديد مدلولاتها وتعيين العلاقات التي تربط عناصر العبارة بعضها ببعض، وقد أدى انقراض هذه القواعد في اللهجات المتشعبة عن اللاتينية إلى كثير من اللبس والاضطراب حقاً إن هذه المذاهب تصدق على بعض مظاهر التطور الدلالي الخاص بلغات الكتابة، فتطور لغات الكتابة يعتمد في كثير من نواحيه على عوامل أدبية مقصودة ترمي إلى تنقيح اللغة وتهذيبها والسير بها في سبيل الكمال. علي عبد الواحد وافي ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١