أرشيف المقالات

السياسة التوجيهية في الأزهر

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ محمد محمد المدني في العدد (391) من (الرسالة) مقال كتبه الأستاذ محمود الشرقاوي، بمناسبة مقال في العدد الذي قبله للدكتور محمد البهي عن (شخصية الأزهر العلمية) والأستاذ الشرقاوي يصف مقال الدكتور البهي بأنه مقال جيد، وفيه صدق كثير، وقد أثار في نفسه طائفة من الخواطر يعتقد أن فيها - وهي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة ومع أن الأستاذ يبدو معارضاً لفكرة الدكتور، بل مهاجماً له فإن من يتأمل فيما قاله يجده قد وافقه في كل ما قاله، ثم نقل البحث إلى شيء آخر. ولست فيما أكتب اليوم بالمدافع عن أعضاء البعوث الأزهرية إلى أوربا، فذلك شأن يخصهم، وهم أولى بأن يردوا على أسئلة الأستاذ التي وجهها إليهم؛ ولست كذلك مهاجماً لأحد من الناس أو لطائفة من الطوائف، ولكني أريد أن أقول إن الأستاذ الشرقاوي لم يكن صريحاً على الرغم مما ادعاه لنفسه من الصراحة في أول مقاله؛ فهو يقول للدكتور البهي: لا تحدثنا عن إنتاج جماعة كبار العلماء، ولا عن قيمة هذا الإنتاج في نظر العلم، ولكن حدثنا عن إنتاج هذه البعوث الأزهرية التي أنت واحد من أعضائها، والتي وضع الأزهر فيها آماله، وظل يرقبها في لهف وشوق، معللاً نفسه بعهد جديد يمتاز بالحرية في الرأي، والاستقلال في التفكير: أين هو هذا الإنتاج؟ وأين طابع هذه البعوث الخاص الذي تتميز عن أشياخها؟ وأين التجديد الذي أفاده الأزهر من بعثة الإمام محمد عبده أو بعثة فؤاد الأول؟ هكذا يتساءل الأستاذ، ثم يصرح بأنه لم ير دليلاً يدل على أن هذه البعثات قد جددت، أو سارت على نهج غير النهج الذي سار عليه الأشياخ من قبل (فلا هي قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة، ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفياً خاصاً، ولا لمت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر.

الخ)
ثم يحاول الأستاذ تعليل ذلك، فيجد نفسه (أمام واحد من فرضين: إما أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا، ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا.

وإما أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من دراستها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً حراً.

الخ)
ردد الأستاذ بين هذين الأمرين، ولكنه نفى الأول منهما مستدلاً بأن أعضاء هذه البعوث جميعاً مبرزون في دراساتهم الجامعية، وفي درجاتهم العلمية التي نالوها، وفي البحوث التي فازت بالتقدير، فهو إذا يستبعد الغرض الأول ويستبقي الغرض الثاني، وهنا ينتهي عهده مع الصراحة، فيفر من مواجهة الحقيقة التي يراها، ويعود إلى الترديد فيقول: هل يتوجه اللوم في عدم إنتاج هذه البعثات إليهم أم أين يتوجه؟ كأني الأستاذ الشرقاوي يريد أن يكون صريحاً في نفس الموضوع كما كان صريحاً فيما وجهه إلى الدكتور البهي، فهو يهم بأن يطلق لنفسه العنان ثم يعود فيؤثر الإبهام، وكأني به متفقاً مع صاحبه في كل ما ذكره غير مخالف له في شيء منه، ولكنه يؤثر أن يظهر في ثوب المعارض له. ولا علينا من ذلك، لكننا نسأل الأستاذ الشرقاوي: ما هي الناحية الثانية التي يحتمل أن يتوجه إليها اللوم؟ ما هو هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون قد صرف أعضاء البعوث عن الإنتاج مع قدرتهم عليه؟ أتقصد به أن البيئة الأزهرية غير صالحة لتلغي الفكر الجديدة، وتقبل الإنتاج الحر المبني على التفكير المستقل لأنها ما زالت تعد التجديد خروجاً على ما ينبغي من تقديس القديم والفناء فيه، والدوران من حوله؟ أم تقصد أن التجديد والإنتاج العلمي مرتبطان بالسياسة التوجيهية، فكلما كانت هذه السياسة ماضية في طريقها القويم، حريصة على تشجيع العاملين، وإنارة الجهود، والانتفاع بالمواهب، نما الإنتاج، وكثر المنتجون، وتشجع العاملون.
وكلما انحرفت هذه السياسة عن طريقها القويم وأدخلت في تقدير الأعمال اعتبارات غريبة عنها، فترت الهمم، وكلت العزائم، وضعف التفكير، وقل الإنتاج؟ نحن نعرف أن كثيراً من الاعتبارات قد يعوق سير الإصلاح، ويصرف الساسة الموجهين عن الطريق، ويلويهم من حيث يريدون أو لا يريدون عما رسوه من الإصلاح وأخذوا به أنفسهم من التوجيه. فقد يكون في بيئة من البيئات رجل حر الضمير، مستقيم الفكرة، له في الإصلاح برنامج شريف، وله غيرة محمودة على هذا البرنامج، ولكنه مع ذلك لا يرى بأساً من أن يجامل شخصاً ما فيسند إليه عملاً ممتازاً من الأعمال الإصلاحية، لا لأنه ممتاز في نفسه، ولا لأنه ناجح في عمله، ولا لأنه لا يوجد في أقرانه من هو خير منه، ولكن لاعتبار آخر، كأن يكون صديقاً مثلاً، أو أن يكون قد تطلع في يوم ما إلى منصب ما فلم ينله، فمن الرأي أن يترضى، ومن الرأي أن يعوض! وقد يحيط بالمصلح الشريف المخلص أعوان شرفاء مخلصون لا يدفعهم إلا الإخلاص للفكرة الإصلاحية، ولكنه مع ذلك ربما أهمل آراءهم، لا لأنه بحثها فتبين وجه الخطأ فيها، ولا لأنه اقتنع بأن غيرها أولى بالقبول منها، ولا لأن أصحابها مشكوك في إخلاصهم أو في حسن تقديرهم، ولكن لاعتبار آخر لا ينبغي أن ينظر إليه، ولا أن يغلب جانبه، كالميل إلى تمثيل عنصر معين في ناحية من النواحي. وقد يخضع المصلح لاعتبارات أخرى غير هذه وتلك، يدفعه إليها على الرغم منه قانون تقليدي، أو عرف قائم، فتراه مثلاً لا يسند أعمالاً خاصة إلا إلى طائفة خاصة، لا لأن هذه الطائفة أجدر من غيرها بتولي هذه الأعمال، ولا لأنها أقدر من غيرها على السير بها في طريق النجاح، ولكن لاعتبار آخر قد لا يكون له صلة بهذا الموضوع أصلاً، كاعتبار شرط التوغل في السن مثلاً في حق الأعضاء الذين ينتخبون لعضوية جماعة ما، أو يرشحون لتولي منصب ما وهكذا. نعرف هذا كله، ونعرف أنه شر ما تصاب به بيئة من البيئات، وأنه داء خطير يصيب الإنتاج العام بالشلل، ويؤدي إلى الخمول والركود، ثم إلى الانحلال والموت! ونعرف أيضاً أن العامل الذي يجد أن المقاييس التي من حوله ليس أساسها التفكير والعمل والدأب والإنتاج، وإنما أساسها شيء آخر غريب عن هذا كله، وبعيد عن هذا كله، هذا العامل لا يلبث أن يفتر، وأن يضعف، لأن القدرة على الإنتاج وحدها غير كافية، ولكن ينبغي أن يصاحبها التشجيع والإغراء. فهل يريد الأستاذ الشرقاوي شيئاً من ذلك ويمنعه شيء ما أن يقوله، وأن يكون صريحاً فيه؟ ألا إنه لو علل ما يقوم به من عقم البعوث العلمية بالسياسة التوجيهية لما كان منصفاً، ولما قال صواباً، فإن على رأس الأزهر شيخاً ممتازاً في تفكيره، ممتازاً في شخصيته، بعيد النظر فيما يقدم عليه أو يحجم عنه من عمل، وهذا الشيخ العظيم فوق أنه يشرف على الأزهريين من أسمى مكان في الأزهر، يتمتع من حبهم وطاعتهم وحسن انقيادهم بما لم يتمتع به أحد من شيوخ الأزهر، فلا يستقيم مع هذا أن تكون السياسة التوجيهية في عهده ملتوية عن الطريق، غير مؤدية إلى الغرض المنشود.
ولن يرضى الأستاذ الأكبر بأن يضع بالأمس أسس الإصلاح، ويرسم منهاج النهوض، ويضيء شعلة التجديد، حتى إذا اجتذب بها القلوب ووجه إليها النفوس، وضعها في طريق العواصف الجامحة من رغبات أو شهوات فلنستبعد هذا الغرض، فلا يبقى معنا إلا أن الأزهر لم يصبح بعد بيئة صالحة لتلقي الإنتاج العلمي الذي أساسه التفكير الحر، والاستقلال في النظر، وعدم افتراض الثقة المطلقة إلا فيما ورد عن المعصوم. فهل هذا هو ما أراده الأستاذ الشرقاوي؟ إن يكنه فلا ينبغي أن يعد العقم في الإنتاج قصوراً في البعثات الأزهرية، ولا عيباً في السياسة التوجيهية؟ محمد محمد المدني المدرس بكلية الشريعة

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن