أرشيف المقالات

الضحية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ عباس محمود العقاد كلمة لها تاريخ، ولتاريخها اتصال بالعادات والعقائد وأطوار اللغات والألفاظ، ولا سيما في انتقالها من المحسوسات إلى المجردات، ومن البساطة إلى التركيب كم من الذين يتحدثون بالتضحية في معرض الحب أو الحماسة الوطنية أو المعاني الروحية يذكرون أن أصلها الأول أكلة في الضحى؟ فالتغذية تقديم الطعام في وقت الغداة، والتعشية تقديم الطعام في وقت العشاء، والتسحير تقديم الطعام في وقت السحر، والتضحية بالشاة أن تذبح الشاة أو تؤكل ضحى على هذا السياق. وهذا هو المعنى الذي صعد به الإسلام من أكلة إلى قربان إلى فداء، إلى هذه المعاني التي نرددها اليوم كل صباح ومساء وتاريخ الكلمات في الانتقال من المادية إلى الروحية هو تاريخ العقل الإنساني في فهم الحقائق والنظر إلى الحياة. فما العقل؟ وما الكتابة؟ وما الفن؟ وما الجمال؟ وما العلم؟ وما الرسم والتمثيل؟ وما الجوهر واللباب؟ كلها لها أصول لا تزال تلمس باليد وتدرك بالحس، وكلها قد صعدت من هذه الأصول المحسوسة إلى تجريد لا تدركه العقول إلا بعد شغوف وإمعان وإذا كانت متابعة الكلمات في اللغة الواحدة متعة للفكر ومعواناً على فهم الأصول والحقائق، فأمتع من ذلك واعون على الفهم أن تضاهي بين الكلمات في لغات مختلفات.
فإن لهذه المضاهاة فائدة صحيحة لا يستغني عنها باحث في علم ولا مستقص لتاريخ ولا متعمق في دين انتقلت التضحية من أكل في الضحى إلى أسمى معاني المفاداة التي يهون فيها بذل الأرواح ولكن الفداء نفسه قد انتقل في معانيه مثل هذا الانتقال بل أبعد من هذا الانتقال فقد كان الفداء في بدايته الأولى أشبه شيء (بالزيارة) التي يحملها اليوم أهل الميت إلى قبره من فاكهة يفرقونها، أو ريحان ينثرونه، أو ذبائح ينحرونها ويفرقونها على المساكين في جدة الوفاة. وكان اعتقاد الهمج الأولين أن الأموات يطلبون الغذاء كما يطلبه الأحياء، ومن هؤلاء الأموات أقوياء بطاشون ينتقمون أشد النقمة ممن يحرمهم نصيبهم في الطعام والشراب، ومنهم أعزاء محبوبون يشق على أحبابهم أن يتخيلوهم بعد الموت جياعاً عطشى محرومين هائمين يبتغون الري والشبع ولا يرتوون ولا يشبعون، ومنهم شفعاء مقبولون يأخذون ويعطون: يأخذون (الزيادة) ويعطون بديلاً منها في ضمير الزائرين والمتشفعين. وترقى معنى الفداء الذي نشأ هذه النشأة قليلاً حتى هذبته وصقلته الحضارة، فاقترب من معنى الإحسان وابتعد من معنى الخوف على الأحياء وإشباع من في القبور. ٍفالذين يتصدقون بالطعام اليوم لا يقصدون به أن يأكله الموتى ولا أن يدفعوا به ونقمتهم إذا جاعوا وظمئوا وصنعوا بالشاربين الطاعمين ما يصنع الجياع الظماء ولكنهم يقصدون أن يحسن الله إلى موتاهم كما يحسنون هم إلى المعوزين، ويودون أن يبلغوا الموتى أنهم لا يزالون من العزة عندهم بحيث كانوا في أيام الحياة، فهم يبذلون لهم ولا يضنون عليهم.
ويتعمد بعض الزائرين أن يختاروا من صنوف الطعام ما كان شهياً مفضلاً عند الميت في أيام حياته، تعزياً بالفكرة لا تصديقاً بحاجة الميت إلى غذاء الأحياء. وبعض الأحياء يعكس الأمر فيحرم على نفسه الصنوف التي كانت شهية مفضلة عند موتاه، كأنما يأبى أن يستمتع بما حرموه ويريد أن يساويهم في الحرمان، وكلاهما شعبة من معنى واحد هو الوفاء والادكار، والضن على النفس في سبيل من ضنت عليهم الحياة باللذات والطيبات. ذلك أصل من أصول الفداء، وهو رعاية الأموات وله أصل آخر أعرق من هذا في الهمجية وأبعد منه عن تهذيب الدين والحضارة وذلك الأصل يقابل الجزية التي يفرضها السيد على العبد، والأدب الذي يستوجبه الغالب من المغلوب فمن الأدب الذي كان يستوجبه الفاتح المنتصر من المنكسرين أمامه أن تظهر عليهم ذلة الانكسار والتسليم، وأن يسومهم كل ما يريد ولم تكن له فائدة فيه، وأن يسلبهم فيعطوه صاغرين، ويقمعهم فيمتثلوا خاشعين، وأن يطالبهم بالإتاوات والرهائن من الرجال والنساء والأنعام، ومن الأزواد الخيرات والحطام. وكان المنهزمون يستنقذون أنفسهم بتسليم فريق منهم للقتل، ويستنقذون أموالهم بإهداء نفيسها ومختارها واستبقاء ما يزهد فيه الفاتح أولا يهتدي إليه فلما عبد الهمج أربابهم وأوثانهم واعتقدوا فيهم القوة والغلب جعلوا لهم حقاً في الضحايا والهدايا كحق المنتصر على المهزومين، وافتن الكهان في تنظيم هذه الجزية (المقدسة) التي تؤول إليهم في الحقيقة سرَّا وجهرة في كثير من الأحيان؛ فانتظمت من ثم شعائر التضحية والفداء؛ وبالغ بعضها في القسوة حتى تقاضت للأرباب والأوثان بواكير كل شيء من حيوان ونبات، وفي طليعتها الأبناء وهم رضعاء أو دارجون. وقصة إبراهيم هي حد فاصل في نظرة الأديان إلى الفداء كما كان قديماً وكما هو مفروض الآن.
وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال يا أبتِ افعل ما تؤتمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
فلما أسلما وتّله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم)
وهكذا ترقى لفظ الفداء ومعناه.
فأما لفظه فحسبك انتقاله من الضحية التي هي شاة تذبح في الضحى إلى الضحية التي هي قربان وإحسان. وأما معناه فالانتقال فيه أعظم، لأنه انتقال من أكلة إلى ذروة الأخلاق العليا.
إذ كانت خلاصة كل خلق وكل عقيدة وكل تكليف أن يجود الإنسان بما يعز عليه، وأن يفضل بعض الحرمان على بعض المتعة، وأن يعصي داعي الغريزة إذا حسنت له كل سلامة وكل كسب، وبغضت إليه كل إقدام وكل إعطاء. وهنا يفوق الإنسان الغريزة فيرتفع من حضيض البهيمية إلى شرف الآدمية وحيثما وجد دين وخلق فهنالك عصيان لغريزة من الغرائز لا مراء، فإن الدين والأدب لازمان لهذا ونافعان لهذا، لا لأنهما مطاوعان للغريزة في كل ما تمليه وترتضيه. الغريزة تقول لك إن اللذة خير من الألم، وأن الحياة خير من الموت، وأن الأثرة خير من الإيثار، وأن حبس المال خير من بذله، وأن الراحة خير من المشقة. ولو كان هذا هو الخير حقاً لما ظهرت الأديان والأخلاق، ولكانت الغريزة وحدها كافية كل الكفاية وفوق الكفاية، ولأصاب الإنسان الخير كما يصيبه الحيوان بغير عناء. ولكن الخير الإنساني شيء نفيس، والشيء النفيس له ثمن عزيز، وما الثمن العزيز إلا الجود بما نضن به ونفليه ولهذا كانت الضحية عنوان الدين كله وقوام الخلق كله، فحيث لا ضحية فلا دين ولا خلق، بل غريزة حيوانية يتساوى فيها الناطق والأعجم، ويتلاقى فيها المريد وغير المريد. وفرائض الأديان تكليف والتكليف لا يخلو من الكلفة بحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها معناها أن تعمل ما تطيق وليس معناها ترك العمل لأنك تطيق تركه ويسعك أن تتناساه وفي الشعر العربي بيتان لشاعرين حكيمين هما خلاصة الأدب وصفوة الخلق ومعيار التفاضل بين الفضائل، وهما بيت أبى الطيب إذ يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ...
الجود يفقر والإقدام قتال وبيت أبى تمام إذ يقول: بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ...
تنال إلا على جسر من التعب ومعنى البيتين البليغين البالغين في الحكمة كلمة واحدة وهي: (التضحية) أو (الفداء) فقولك أن الراحة خير من التعب، وأن الأخذ خير من العطاء، وأن السلامة خير من الإقدام، قول مفهوم قبل أن يكون خلق وقبل أن يكون دين. فلما وجب على الإنسان أن يفهم أن بعض العطاء خير من بعض الأخذ، وأن بعض الراحة شر من بعض التعب، وأن بعض الموت أكرم من بعض الحياة، وأنه إنسان مكلف وليس بسائمة مهملة، كان له خلق، وكان له دين، وكانت الضحية التي يرمز إليها المسلم في عيده الكبير هي قوام ذلك الخلق وأساس ذلك الدين. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

المرئيات-١