أرشيف المقالات

من عجائب الاجتهاد. . .!

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 (لناقد أديب) منذ عامين رأى الدكتور بشر فارس أن يخرج للناس مسرحية رمزية يثبت بها اتجاهاً جديداً في عالم القصص الرمزي وبعد التحصيل والروية والاجتهاد، كما يقول الدكتور الفاضل في مستهل توطئته، صنع هذه القصة أو المسرحية الرمزية وعنوانها (مفرق الطريق) وقال في تبيين موضوعها وتوضيح فكرتها: إنه مفرق طريق ينحدر يساراً إلى ظلمة، حيث الشعور، ويمتد يميناً مناراً في صعود مثلوجة، حيث العقل.
وفي هذا المفرق الصراع بين العقل والشعور، فإما أن ينتصر الشعور فينحدر المرء في ظلمة تحترق عندها النفس، وإما أن ينتهي الصراع بانتصار العقل فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق.
ثم يقول (على ما هو مبين في رسم الغلاف) ورسم الغلاف هذا صورة رمزية أيضاً من تصميم المؤلف نفسه، تمثل جبلاً عالياً ذا قمة مغطاة بالثلوج، ومنحدراً ينتهي إلى غور مظلم يتضرم بحرارة الحياة ومنذ اثنتي عشرة سنة أنشأ الأستاذ عباس محمود العقاد قصيدة رمزية في ديوانه صفحة (206) عنوانها: (القمة الباردة) حيث يعيش العقل متجرداً من الشعور في عالم ثلجي لا يشعر فيه بحياة ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن الفكرة التي جعلها الأستاذ العقاد لباب موضوعه، والموضوع الذي بنى عليه قصيدته هما نفس الفكرة وذات الموضوع الماثلتان في مسرحية بشر فارس! ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد هذه أن يقول العقاد في مقدمة قصيدته: (إن الحي لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة).
فيقدم بشر فارس لمسرحيته بنفس المعنى ويقول بلسان صورة من صنع الشعور: بيني وبين بصرك صلة اليقظة والإحساس بالوجود.
ويقول عن رسم من صنع العقل: أفلا تقبض صدرك البرودة المنسابة فيه؟ ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تكون (القمة الباردة) في قصيدة العقاد هي (الصعود المثلوجة) في المسرحية ص 14، وأن يكون الطريق الذي يسلكه العقل في الصعود المثلوجة مُناراً، لأن القمة الباردة في قصيدة العقاد لا تعرف اختلاف الليل والنهار هنالك لا الشمس دوَّارة ...
ولا الأرض ناقصة زائدة وأن تكون (القمة الباردة التي تعلوها الثلوج و (ثلوج الذرى) التي (تفتر عندها الحياة) والتي (لا يشعر عندها بحياة) كما كتب العقاد في قصيدته - هي في مسرحية بشر فارس (الآن أعيش في الثلج ص 25) و (إنما أحيا والثلج من حولي ص 25) و (إنما حياتي في الثلج ص 27) و (بيني وبينك الثلج لا يبرح قائما ص27) و (أحرقته وهو يثلجني ص 36) و (سيثلج بعضي بعضاً منذ الآن ص 37) فهذه مسرحيته طمرتها القمة الباردة بثلوجها كما قدمنا في هذه الكلمة ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تدور هذه المسرحية حول الفكرة التي تدور حولها القصيدة وأن يكون ختام المسرحية والقصيدة واحداً لا تباين ولا خوف؛ فإذا دعا العقاد إلى النزول من هذه القمة والانحدار إلى الغور المتضرم بحرارة الحياة إلى الغور!! أما ثلوج الذرى ...
فلا خير فيها ولا فائدة ختم بشر فارس مسرحيته أيضاً بالدعوة إلى النزول من الصعود المثلوجة بقوله: (خذا هذا الطريق، الذي لا نور فيه، الذي ينحدر) من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن يقع هذا كله، وأن تأتي عجائب أخر في التحصيل والروية والاجتهاد أيضاً من قصيدة للشاعر علي محمود طه عنوانها (قلبي) (ديوان الملاح التائه طبعه عام 1934).
في ختام هذه القصيدة يصف الشاعر الصراع بين القلب والعقل أو الشعور والعقل فيقول مخاطباً قلبه: ووشيت حين أخبَّك الليلُ ...
متمرداً تجتاحك النارُ وبدا صراعك أنت والعقلُ ...
ولأنّتما بحرٌ وإعصارُ ما بين سلمكما وحربكما ...
كونٌ يبين ويختفي كونُ وبينمّا الدنيا وحسبكما ...
دنيا يقيم بناءها الفنُّ فيجيء الدكتور بشر فارس في عام 1938 ليقول في هذا المعنى (يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل، فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس الخ.
) فتجاذب الشعور والعقل القوة والغلبة هو في قصيدة علي محمود طه (وبدا صراعك أنت والعقل) والقلبُ الذي أجَنَّهُ الليلُ في القصيدة هو (الشعور في الجانب المظلم)، والقلب الذي يجتاحه النار في قصيدة علي محمود طه هو النفس التي تحترق في مسرحية بشر فارس.
وهكذا ترى هذا الصراع الذي يبدو محدداً بخطوطه، مصوراً بألوانه، في قصيدة الشاعر، منقولاً بإطاره في مسرحية الكاتب، كما رأيت القمة الباردة فكرة وموضوعاً ماثلة بذاتها في المسرحية وتوطئتها حتى بعض العبارات ودلالاتها وإن اختلفت لفظاً وتركيباً، وكأن يقول الأستاذ العقاد: (التي لا يشعر عندها بحياة) فيقول الدكتور بشر: (يعوزه لهب الحياة) وبعد فهذه مسرحية رمزية من فصل واحد صفحاتها مردودة وألفاظها معدودة، لم يبق منها لكاتبها التحرير سوى زهرة تضوع، ونهر يهدر، وإضافات تائهة في منعطفات الروح ومثاني المادة (كذا)، وراقصة متشنجة تكِنى بالتلوِّي والتوتر (كذا) وتغرف بذراعيها طرائف من الهواء (كذا)، وغير إنسان أبله يعوي مقلداً الكلاب (كذا)، ثم كلب مسكين يتهمه المؤلف بامتصاص القصب!! (كذا) وهذا ولا شك كما قلناه وأثبتناه وأعدناه من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد في زمن اصطناع المسرحيات الرمزية من قصائد الشعراء. (ناقد أديب)

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١