أرشيف المقالات

بين المهاجرين والأنصار

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 كان من أثر الفزّعة الشديدة التي نالت الناس من الغارات الجوية الإيطالية أن لجأ سكان العاصمة والثغور، إلى القرى والعزب والكفور، يلتمسون الأمن في ظل الريف الوريف، وينشدون الهدوء في حِضن الطبيعة المشْبل وكان الطيار الذي يحلق ذات صبح من هذه الأصباح المضطربة، في سماء مصر المشرقة المخوفة، يرى الطرق الرئيسية تسيل بحاملات الأنفس وناقلات المتاع بين القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد، فلا يجد نوعاً ولا شكلاً من عربات النقل أو الركوب التي تسيرها الأحصنة الحيوانية أو الميكانيكية إلا جُمع لهذه الهجرة التي لم تر مثلها مصر في ماضيها الطويل! هذه سلاسل من عربات النقل تجرها الخيل أو الحمير فتسير على يمين الطريق وئيدة الكرِّ تقعقع عجلاتها مخنوقةً في التراب، وتجلجل أجراسها خافتة في الجو من ثقل ما تحمل من الأثاث و (الكرار) والماعون.
وهذه قوافل من اللوريات المكشوفة والمغطاة موقرةً بالأثاث الفخم والرياش الثمين، تهتلك دُروجاً في وسط الطريق المترِب فتثير غماماً من الغبار الخانق يحجب وراءها الأشخاص والأشياء إلى مسافة بعيدة وهذه أرتال السيارات المملوكة أو المأجورة تَشْرَق بمن فيها من النساء والرجال والأطفال، وهي تنتقل من الوسط إلى الشمال، لتخطف طريقها من الكميونات العنيدة ولدى كل نقطة من (نقط المرور)، وعلى كل رأس من رءوس الجسور، طوائف من القرويين والقرويات، يُلوِّحون بالفواكه والمرطبات، فلا يكاد المهاجرون المفزَّعون يحسونهم، لتوزع قلوبهم بين أهوال الحرب المتوقعة، ومخاوف الحياة الجديدة أشرقت القرى العوابس بألوف من ناشئة النعيم المدني ذوي الوجوه الرفافة والأطراف الناعمة والطرر المصفوفة والبنائق المفوّفة والطرابيش القانية؛ وألوف من نابتة المطبخ الحضري ذوي الوجوه المطهمة واللغاديد الضخمة والبطون الشحيمة والجسوم الرهلة؛ وازدانت الأكواخ والمصاطب وحواشي البرك وحفافي السكك برواد الكنتننتال والكرسال وسان جِمس؛ واعترى القرى بادئ الأمر من التزابل والانزواء ما يتعرى القروية إذا رأت أحد الأفندية على حين فجأة.
ثم أدرك القروين أنهم ملاذ هؤلاء الضيوف فاستشعروا قليلاً من الجرأة، فخالطوهم وباسطوهم حتى ارتفعت الكلفة بين أهل المهجر وأصحاب الدار، وأصبح بينهم من التعاون والألفة ما كان بين المهاجرين والأنصار وفي سقيفة من شجر الصفصاف وحطب القطن، بين تل من تلال السماد الطري، ومستنقع من آسن الماء الوَحِل، جلس ذات يوم جماعة من المهاجرين بعد شهر من الهجرة وقد حف من حولهم رجال القرية بين مضطجع فوق الحصا، ومحتبٍ بحضيض التل، ومستند إلى جذع الشجرة.
وكان كل رجل من هذه الجماعة قد نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، وانتشر على جبينه الأبلج حَبَر البراغيث والبعوض، فهو يتكلم من غير شهوة الكلام، ويجيب من غير تفكير في الجواب، ثم يذهل ذهول شارب الأفيون فلا كلمة ولا حركة.
ولكن الشيخ السنطاوي، وهو رجل أزهري الثقافة سليط اللسان جرئ القلب، أراد أن يشفي صدور الفلاحين من هؤلاء المترفين الذي سلبوهم نعمة الله وراحة الدنيا وحق الحياة؛ فقال في خبثه المعهود يسأل أحدهم وهو من الملاك الغِلاظ المتأبهين: - لعلك سعيد يا بك بجمال الطبيعة وبهجة الحقول وصفاء الهواء وهدوء القرية! ولم يكد الشيخ يتم حتى تحرك ساكن القوم، ثم جاشت حركتهم حتى فارت على ألسنتهم خليطاً من الكلام فيه الضجر والسخر والملام والسب، قالوا: - أين الجمال وهذه المزابل والزرائب والخرائب والبرك تقذي الأعين؟ وأين البهجة وهذه الأجسام الضاوية والثياب البالية والمساكن التي في بطنها الوحل وعلى ظهرها الروث تقبض الأنفس؟ وأين الصفاء وهذه الدور المنتنة والأزقة القذرة والمراحيض المكظومة تسمم الأبدان؟ وأين الهدوء وطنين البعوض والذباب، وتجاوب الكلاب والذئاب، ونقيق الضفادع، ونهيق الحمير، وصراخ الأطفال، تؤلف جوقة من الموسيقى الشيطانية تحطم الأعصاب؟ إن القرية الأوربية خميلة من خمائل الفردوس فيها متعة الحس والعقل والجسم؛ وكان الظن بالقرية المصرية أن تكون قريبة الشبه بتلك.
فلما رأيناها أنكرنا أن يكون سكانها من الناس، لأنهم يأكلون ما تعافه الكلاب في المدن، ويشربون ما لا يجوز أن نغسل به الأقدام في المدن، ويعانون من مختلف الأمراض في القرية الواحدة، ما لا يجتمع مثله إلا في المستشفيات المتعددة.
فنحن بهجرتنا إلى القرية قد فررنا من موت متوقع إلى موت محقق. لذلك عقدنا العزم على أن نعود إلى القاهرة؛ فإن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات فما كان جواب الشيخ والذين معه إلا أن قالوا بلسان واحد: الحمد لله الذي أراكم بعد العمى، وأنطقكم بعد البكم! لقد خطبنا حتى نشف الريق، وكتبنا حتى جف الحبر، فلم تصدقوا أنكم عمرتم المدينة وخربتم القرية، وأبطرتم الباشا وأفقرتم الفلاح، واتخذتم من عرقنا ودمنا أفناناً من لذائذ البطن أعلاه وأسفله، حتى ضوينا وسمنتم، وفزعنا وأمنتم، وكانت بلية كل أولئك على الإنتاج والدفاع! ثم افترقوا، هؤلاء ساخطون، وأولئك قانطون! فعسى أن يلتقي هذا السخط وذلك القنوط عند معالي وزير الشؤون الاجتماعية! (المنصورة) أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

المرئيات-١