أرشيف المقالات

إلى أرض النبوة!

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 (وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935 لفتح طريق الحج البري للسيارات) للأستاذ علي الطنطاوي حين تصل هذه المقالة إلى الرسالة، يكون الركب الذي خرج من دمشق منذ أسبوعين يؤم الحجاز قد شارف المدينة إن شاء الله.
وهو أول ركب من الزوار يسير على الطريق الذي كشفناه، وفيه قريب من ثلاثمائة رجل وامرأة، ووصوله سالماً إلى المدينة، وذلك بفضل الله مؤكد، هو الثمرة الأولى لرحلتنا الكشفية التي رحلناها في ربيع 1935.
ولقد كان أول ما خطر على بالي دعيت إليها وضع كتاب عنها، فكنت أتأبط دفتري دائماً، فلا نسلك طريقاً، ولا نقطع وادياً، ولا نرى جبلاً، إلا كتبت اسمه وصفته، وطبيعة أرضه، ولا يمر على قوم إلا سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم، وذكرت ما عرفت من عاداتهم، وسمعت من لغاتهم؛ ولا بتنا ليلة إلا ذكرت كيف حططنا الأحمال، وكيف نهضنا للارتحال؛ ولا أرى منظراً، أو أشهد مشهداً، إلا ذكرت أثره في نفسي، وما أثار فيها من عاطفة، أو هاج من ذكرى، على ضبط في الأرقام، وتحر في جمع الأخبار، وتوثق من صدق الراوي وخبرته، حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على الكمال، وقارب النهاية، امتدت إليه يد لا يعلمها إلا الله فذهبت به، فأيست منه وأهملته، وجعلت لا أكتب شيئاً، ولا أدون خبراً، إلا ما كان في طريق العودة فهو مكتوب عندي، وما كتبت من المقالات في مجلة الرسالة وغيرها. وعدت إلى دمشق فانغمست في عملي، ثم ضرب الدهر ضرباته فسافرت إلى العراق أولاً وثانياً، وعملت سنة في لبنان أدرس فيها، وحسبتني نسيت الرحلة ونسيها الناس، حتى كان هذا الشهر وحقق الله ما ذهبنا إليه، ورأت دمشق اليوم الموعود، فسافرت أول قافلة من الزوار، وألح على الأصدقاء، وأعادوا الطلب مني أن أنشر وصف تلك الرحلة، فأجبت مكرهاً ونفضت ذهني، فكتبت ما بقي عالقاً به وجعلت غرضي أن أدون ما رأيت وما سمعت، وأسجل ما أحسست به وشعرت، من غير أن أعمد إلى كتاب من كتب التاريخ رحلة من الرحلات، فآخذ منها الفصول والأخبار والأرقام، وأن أعرض على القارئ صورة من الحياة البدوية، إذا هي لم تكن محيطة شاملة، ولم تكن كافية وافية، فهي صحيحة ثابتة، ليست متخيلة ولا مبالغاً فيها، فإن أحسنت فلله الحمد، وإن أسأت فالذنب على من سرق (دفتري) عفا الله عنه وسامحه وبعد، فهذه رحلة كشفية سلخنا فيها شهرين اثنين وقطعنا فيها خمسة آلاف كيل في الصحراء.

وركبنا فيها من الأهوال ورأينا من العذاب ما لو سردناه وفصلناه لكان أشبه شيء بالأساطير. ولم تكن هذه الرحلة من أجل التسلية أو النظر في عجائب المخلوقات وغرائب البلدان، ولا للكسب والتجارة، ولا لشيء مما يرحل أفراد الناس من أجله عادة، بل كانت لمصلحة عامة، وغاية اجتماعية، تعود على بلاد الشام وأرض الحجاز بالخيرات الجمة والفوائد الكثيرة، هي فتح طريق للسيارات بين دمشق والمدينة يسهل على الناس أمر الحج ويرغبهم في أدائه ويوفر عليهم صحتهم ومالهم.
ولم تكن هذه الرحلة رحلة واحد يهتم به أهله وأصحابه، ولا جماعة يعنى بهم أقرباؤهم وذووهم، ولكنها رحلة وفد من وجوه الشاميين وسراتهم وتجارهم.
وكان الشاميون جميعاً يتبعونهم بأفكارهم ويرافقونهم بقلوبهم وينتظرون البرقيات منهم ويتسقطون أخيارهم، فإذا انقطعت أياماً انتشر القلق وساد الذعر وهاجت الجرائد، وأقبل الناس يسألون عن أبنائهم وإخوانهم.

فتهتم لذلك حكومة الشام ومملكة الحجاز، ثم لا ينقطع القلق ولا تسكن النفوس حتى يعرف خبر الوفد وتجيء منه برقية أو رسالة. وكان أول عهدي بهذه الرحلة أن لقيني الشيخ ياسين الرواف المعتمد السابق للملكة العربية السعودية في دمشق، فقال لي: لقد عزمنا على اختراق الصحراء إلى المدينة، نكشف طريقاً للزوار برياً، فهل لك في مرافقتنا؟ قلت: نعم، ومضيت في سبيلي وأنا أراها أمنية من الأماني وأعلم أن بضاعتنا إنما هي الكلام، وأن الوفد لن يسافر، والطريق لن يفتح، ولذلك قلت نعم، وأجبته إلى السفر.
وهل كان يسعني أن أقول له غير ذلك؟ تصور بالله مسلماً يستقبل البيت خمس مرات كل يوم، ويحن إلى هاتيك المعاهد، ويرى زيارته منيته ومبتغاه، وعربياً يحب الصحراء ويعرف أخبارها، ويحفظ آدابها، ثم يدعى إلى قطع الصحراء وزيارة الحرم، هل يقول لا؟ هل يرفض الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والقيام في الروضة، والصلاة حيال الكعبة، والشرب من زمزم، والسعي بين الصفا والمروة، وزيارة هاتيك البقاع المباركة التي ولد فيها الإسلام ودرج، وعاش فيها سيد العالم ﷺ، ويأبى أن يخالط العرب في أرضهم، ويعرفهم في ديارهم، ويرى عياناً ما كان يقرأ خبره في الكتب، ويعرف أخباره على السماع؟ ولقد كنت أعلم أن هذه الرحلة جراءة على الموت واقتحام للخطر، وهجوم على الصحراء الهائلة التي طالما ابتلعت من أمم وأبادت من جيوش، ولكن ذلك كله يرغبني في الرحلة ويحببها إلي، لما ركب في طبعي من حب المغامرة والإقدام، ولأنها درس من دروس الحياة لا أجده كل يوم، هذا الدرس الذي من فصوله الصبر والجرأة والحزم والعزم والوحدة والنظام، يحتاج إليه كل شاب ينشاً في بلاد ليس فيها نظام عسكري كالبلاد الشامية؛ وأن الشبان الذين ولدوا في الحرب العامة أو قبلها بقليل قد فقدوا لطول ما نشأوا على النعم وتقلبوا في الترف طرفاً من الرجولة، وغدوا لما وجدوا من السلامة وفقدوا من المصاعب يميلون إلى التطري والتأنث، ويخشون الخروج من المدن ويهابون الحياة في الريف؛ حتى أن إخواننا من المعلمين إذا أمر أحدهم بالانتقال إلى قرية من القرى فكأنما أمر بالانتقال إلى جهنم.
وما ذلك لسوء عيش القرى فليس في القرى إلا صحة الأجسام وصفاء النفوس وجلاء النظر وراحة الفكر، بل لأنه لا يجد في القرية (قهوة) ندياً فاسد الهواء مسدود الأبواب، يجتمع فيه مائتان أو ثلاثمائة على نفخ الدخان، وقرع النرد، وحديث كأنفه ما يكون من الحديث، ونكات كأثقل ما يكون من النكات - ولو أن الشباب ألفوا المغامرة وركوب الأهوال، لما كان من ذلك شيء ومرت أيام ثم لقيني الأستاذ الرواف كرة أخرى فقال لي: هلم فقد تقرر موعد السفر. فأسقط في يدي ووقعت بين مشكلتين: مشكلة الوعد، ومشكلة الوظيفة.
فلا أنا أستطيع أن أضحي بوظيفتي ومنها معاشي ومعاش أسرتي، ولا أنا أستطيع أن أخلف وعدي.
ولو أني وعدت غير الشيخ ياسين لهان الأمر، ولكن الرجل نجدي سلفي لا يعرف من كلمة نعم إلا أنها وعد مبرم لا يحله إلا الموت؛ فاخترت الوفاء ولو خسرت الوظيفة وقلت له: أنا حاضر! ثم يسر الله فسمحت لي الوزارة بالسفر، وذهبت أعد الجواز.
وجعلنا كلما أزمعنا السفر، وودعنا الأهل والأصحاب، عرضت لنا الموانع، فأخرتنا حتى ضجرنا واستحيينا من الناس لكثرة ما نعزم ثم نقعد، وكان أكثرنا قد أقلع عن حلق لحيته ليوفرها، ويجمع منها لحية كبيرة، لما ظنوه أن الرجل هناك بلحيته، فكلما كان أطول لحية كان أعلى مقاماً.

فكانوا يأسفون عليها ويضنون بها على الخلق، ويستحيون أن يواجهوا الناس بها، لأن هذا الزمان جعل المعروف من السنة منكراً يستحيا منه، والمنكر من البدعة معروفاً يفتخر به.
ولبثنا على ذلك أياماً، ثم عزمنا العزمة الأخيرة، فبيتنا ثقلنا في المرأب (الكاراج) حتى نغدو مسافرين.
فلما حملناه ورآه أصحابنا وجيراننا جاءوا يودعوننا الوداع السابع ونحن لا ندري أهو الوداع حقاً، أم سنقيم بعده أياماً وليالي أم لا نسافر أبداً. كنا في المرأب مع الفجر، وجعلنا ننتظر حتى تطلع الشمس، وكان الضحى، وأذن الظهر، وكان العصر، فأيسنا، وهممنا بالانصراف ولكن السيارات حضرت، وتحقق الرحيل، وكانت أربعاً من طراز (البويك) وواحدة من (الناش).
وقد رفعوا على السيارة الأولى علماً سعودياً، وعلقوا في صدرها لوحة كتبوا فيها (الوفد السوري لاكتشاف طريق الحج البري).
وسرنا وسار وراءنا المودعون في قطار من السيارات الكبيرة ما له آخر يعرف، حتى لقد ظننت أنهم لم يدعوا في البلد سيارة إلا استاقوها، واخترق الموكب مهللاً مكبراً تهتز له الأرض.
ولم أكن قد أيقنت بالسفر إلا في تلك اللحظة.
فلما تصورتني كيف أفارق أهلي وموطني، وأطوح بنفسي في هذه الصحراء المخيفة، استعبرت.
وكنت أطل على بردى، وهو يجري زاخراً فأنامله، فأجده أحلى في عيني مما كان، وأحب إلى نفسي، وعز علي أن أفارقه، واستفاقت في ذهني مئات من الذكريات، وكرت على حياتي كلها كأنها (فلم) أراه، فأبصرت في كل بقعة من دمشق، وكل طريق من طرقها قسما من حياتي.

وهل حياة المرء إلا في قلوب أصدقائه، ووجوه أصحابه، وجوانب داره، ومشاهد بلده؛ فإذا فارق أهله، وغادر بلده، إلى بلد لا يعرفه، وأهل لا يألفهم، فكأنما مات نصف ميتة.
ومن أجل ذلك كانت الهجرة جهاداً في سبيل الله، ذلك لأنها لون من ألوان الموت، ولكن صاحبها ميت يعيش ليتألم، والميت مات فاستراح. واستغرقت في هذه الأفكار فما صحوت إلا والموكب قد بلغ (بوابة الله) ووقف في ظاهر دمشق، ولم يعد موكباً وإنما صار طوفاناً من البشر، ولجاً طامياً من الناس، وكان من ثقله يزحف زحفاً، ويكبر فيزلزل الأرض، ويهتف فيشق عنان السماء، فلما بلغ (البوابة) وقف للوداع.
(لها بقايا) علي الطنطاوي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن