أرشيف المقالات

الفكر والحرب. . .

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 قال الأستاذ (دومينيك) في تحليله البليغ للكتاب القيم الذي ألفه السير (نيفل هندرسون) سفير إنجلترا في برلين بعنوان (سنتان عند هتلر): (إن المتمدنين الذين يعيشون في هذا القرن بإنسانية القرن التاسع عشر ومسيحيته ليقضون من الدهش إذ يرون هذا (الهتلر) يرجع بالعالم إلى عهود الجاهلية القيصرية فيحمل أتباعه على أن يعتقدوا أن الله قد حل به وأن ألمانيا قد تجسدت فيه.
وإن المفكرين ليفزعون في وسط هذه الزعازع الهوج إلى الله جزعين أن يرتكس للفكر والحضارة في مهاوي البربرية الأولى)
. وقال المستر (سمنر ولز) في خطبته الختامية بالمؤتمر العلمي للأمم الأمريكية: (ليس من الصعب أن نتنبأ بنكسة القرون الوسطى في بلد أصبح التفكير الحر مستحيلاً فيه.
وأي أمل يبقى للإخلاف بعد هذا الطغيان الذي موَّه الباطل على الناس حتى اعتقدوا أنه الحق؟)
.
ثم دعا الولايات المتحدة إلى أن تذود عن المدنية التي تدين لها بأكثر مما تنعم به. وقال صديقنا الأستاذ (الحكيم) في (الأهرام): (إن نذير الدمار المسلط على شؤون الفكر والروح كفيل بأن ينهض برجال الفكر والأدب للدفاع بأقلامهم وقلوبهم عن حضارة ساهم أسلافهم في وضع أحجارها الأولى). وكلام هؤلاء السادة على اختلاف الموطن والمذهب ترجمة لطائفة من المعاني الخداعة التي قدمها الإنسان الحديث فأقام عليها ثقافة المدرسة، وراض بها نفسية المجتمع، وجعل منها خصائص لحيوانيته تميزه في زعمه على الإنسان القديم والوحش الآبد.
وليس في منطق الطبع أن يكون أثر الفكر دائماً من الخير المحض ما دام مصدره الإنسان وهو يفسد ويصلح ويخبث ويطيب تبعاً لوحي غريزته وخضوعاً لهوى منفعته.
أليس الفكر والأدب والعلم والمدنية التي يدعو الأساتذة الكتاب إلى النضج عنها هي نفسها التي جعلت ألمانيا الهتلرية جحيما يستعر باللظى والغاز والحمم، فزلزل الأرض من القطب إلى القطب، ورمى الدنيا جمعاء بغاشية من الموت الوحِيِّ والقلق المميت؟ لو لم تعتمد النازية على المفكر الألماني القوي الخصيب لما استطاع ناسك (برجوف) أن يفجأ العالم الآمن بأهوال من الشر ينكرها الشيطان، وأساليب من الموت يجهلها الموت إن الفكر الفعال في الأرض لا ينفك عنه قصور الإنسان وضلاله، فهو عاجز عن هداية الناس ما لم يهده الله بنوره.
ولا يجرؤ المسكين أبن آدم على أن يزعم أنه استطاع بفكره أن يحل مشكلاته بالمفاوضة، ويقسم أرزاقه بالعدل، ويثق علاقته بالمودة، ويضع لدنياه أنظمة ثابتة تكفل له السعادة الخالصة والسلام الدائم وإن الأدب المحرك لهوى النفوس لم يستطع الإنسان الأثِر أن يسمو به على الأهواء النفسية والأغراض الحزبية والأطماع القومية؛ فظل في كل أمة خاضعاً لمنهاج المدرسة وسياسة الدولة وطبيعة الشعب لا يتجاوز حدود المكان ولا فصول الزمن، فكان عاملاً من أشد عوامل العصبية والوحشية والفرقة وإن العلم الذي ناط به العقل كشف أسرار الكون لفهم الحياة، وتسخير قوى الطبيعة لخير الناس، جافاه الضمير فاستبد به الشر وراح يستعديه على نتائج الخير وآثار الصلاح، فرماها بآلات البوار والدمار من طائر يقذف الشهب وسائر يطلق السموم وزاحف يرسل اللهب! وإن المدنية التي عمرت بها الأرض، وتمت عليها الأنفس، وزخر بها النعيم، وتبجح بازدهارها الإنسان، قد سطت عليها المادة القاسية فسلبتها الروح وحرمتها القلب، فوقعت الجفوة بينها وبين الدين، وانقطع السبب بينها وبين الحب؛ فتشتت الآلاف، وتباعدت القُرْبى، وتشعبت الحاجات، وتنافست المطامع، وتكاشفت الأحقاد، واضطرب الناس في سبل الكدح، وألهبتهم حوافز الهم، حتى عجزوا بخلقتهم وطبيعتهم عن مسايرة الحضارة فسعوا بالطائرات، وعملوا بالآلات، ونظروا بالتلسكوب وسمعوا بالمكرفون، وضاقت عليهم الأرض برحبها فضربوا في الآفاق، واختصموا على ديار المستضعفين فحكموا بينهم السلاح فكانت هذه المدنية المادية أشبه بسعير الآخرة تنضج الجلود ولا تزهق الأنفس ليستمر الاضطراب ويتجدد العذاب ويدوم للطبيعة الخداعة هذا الثوب الأنيق الموشى بفضل هذا الإنسان الأحمق الذي يعمل ولا يعرف لماذا، ويسرع ولا يدري إلى أين! هذا الفكر العاجز، وهذا الأدب القاصر، وهذا العلم المجرم، وهذه المدنية الفاجرة، لا تستحق الاحتفاظ بها ولا الذياد عنها يا زملاءنا الأعزة.
لقد أشتد بأسها وعظم سلطانها في ألمانيا (الراقية) فولدت الهتلرية بوحشيتها وعصبيتها وبلاياها؛ وإن من الخير للإنسانية أن تذهب هذه العقلية مع الهتلرية إلى غير رجعة إن الفكر الذي نريده هو الفكر المدبر النفاذ الذي يشرق في جوانبه نور الله فلا يشت به ائتلاف ولا يضل عليه سائر.
وإن المدنية التي نرجوها هي المدنية الإنسانية التي ينبث في طواياها روح الله فلا يولد بها شقي ولا ينجم فيها ثائر إن شمس المدنية الصحيحة قد أشرقت من الشرق ثم غربت في الغرب، ولا بد أن يدور الفلك فتعود إلى مطلعها لتشرق على العالم من جديد! أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣